بدأت حقبة التبادل الأكاديمي بين الصين والولايات المتحدة في عهد الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر خلال سبعينيات القرن الماضي، وذلك كشكل من أشكال دبلوماسية القوة الناعمة، إلا أنها الآن باتت تتناقض بشكل حاد مع موقف إدارة الرئيس دونالد ترمب تجاه البلاد، وفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”.
وأعلنت إدارة ترمب هذا الأسبوع أنها ستلغي بشكل صارم تأشيرات الطلاب الصينيين المرتبطين بالحزب الشيوعي الصيني أو أولئك الذين يدرسون في مجالات حيوية مُعرّفة بشكل واسع، إذ تخطط الإدارة لتعزيز عمليات التحقق من المتقدمين المستقبليين للحصول على تأشيرات الطلاب، بما في ذلك فحص المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتتعهد هذه السياسات بخفض عدد الطلاب الصينيين القادمين إلى الولايات المتحدة، والذين لطالما كانوا حاضرين في الجامعات الأميركية لعقود، وبلغ عددهم حوالي 277 ألف طالب في عام 2024.
لكن إدارة ترمب، ترى أن الصين تستغل جامعات الولايات المتحدة لتعزيز قدراتها العسكرية والتكنولوجية، في حين يجادل مسؤولون آخرون، بأن بعض الطلاب الصينيين قد يشكلون مخاطر تجسس وسرقة تكنولوجيا.
دبلوماسية القوة الناعمة
في الإطار، قال هايبي شو، الذي يرأس حالياً منظمة “الأميركيون الصينيون المتحدون”، ومقرها واشنطن العاصمة، إن تغيير سياسة قبول الطلاب الصينيين في جامعات البلاد يثير خيبة أمل عميقة، معرباً عن استيائه من تصرفات إدارة ترمب، معتبراً إياها “خيانةً لصورة الولايات المتحدة”، بوصفها “منارة للبشرية”.
وتذكر شو، الذي كانت رحلته إلى الولايات المتحدة في أواخر الثمانينيات، رمزاً لفترة من الود المتزايد بين القوتين العظميين، قائلاً إن تلك الفترة “اتسمت باحتضان الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) للطلاب الصينيين، وبلغت ذروتها مع قانون حماية الطلاب الصينيين 1992، الذي منح الإقامة القانونية لآلاف الطلاب في أعقاب مذبحة ميدان تيانانمن”.
وأضاف شو الذي ساعد في دفع التشريع، والذي طالما دعا إلى تخفيف الحكم الاستبدادي في الصين وزيادة الحرية داخل البلاد: “لقد كان دعماً ورعاية واهتماماً هائلاً”، فيما أشار إلى أن تاريخ الطلاب الصينيين في أميركا طويلٌ ومعقد، يعود إلى خمسينيات القرن الـ19، عندما أصبح يونج وينج من كلية ييل، أول طالب صيني يتخرج من جامعة أميركية.
بدوره، أوضح روبرت كاب، المؤرخ الصيني المتقاعد والرئيس السابق لمجلس الأعمال الأميركي الصيني، أن الطلاب الأوائل سعوا إلى المعرفة الغربية لتحديث الصين.
وبالفعل أدى تطبيع العلاقات الأميركية الصينية في سبعينيات القرن الماضي خلال عهد الرئيس ريتشارد نيكسون ورئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي، آنذاك إلى بداية عهد جديد من التبادل الأكاديمي.
وفي وقت لاحق وافقت الصين على إرسال آلاف الطلاب إلى الولايات المتحدة، وهو رقم تضخم بعدها إلى مئات الآلاف سنوياً.
وأوضح كاب أن الرئيس الأميركي الراحل جيمي كارتر قال آنذاك: “لماذا لا ترسلون بعض الطلاب إلى الولايات المتحدة؟”، مضيفاً أن دينج شياو بينج، الزعيم الصيني، ردّ عليه قائلاً: “حسناً، ماذا عن 10 آلاف؟”، وهكذا انطلقت المسيرة.
وبالنسبة للصين، كانت هذه خطوة حاسمة في مسيرة تحديث البلاد، أما بالنسبة للولايات المتحدة، فكان الترحيب بالطلاب الصينيين “شكلاً من أشكال القوة الناعمة”.
طفرة بأعداد الطلاب الصينيين
وشهدت فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، طفرة في أعداد الطلاب الصينيين الموهوبين، وقدّم العديد منهم مساهمات كبيرة في الأوساط الأكاديمية الأميركية، والأعمال التجارية، والعلوم، والتكنولوجيا.
كما تحوّلت تركيبة الطلاب الصينيين في الجامعات الأميركية، من طلاب دراسات عليا في ثمانينيات القرن الماضي إلى عدد متزايد من الطلاب الجامعيين في الوقت الحالي.
وقال البروفيسور ديفيد باخمان، خبير العلاقات الدولية بجامعة واشنطن: “كان انفتاح التعليم أمراً مهماً لبناء العلاقات والجسور، أما الآن أستطيع أن أتخيل أنه سيكون هناك عدد قليل جداً من الطلاب الصينيين هنا خلال 10 سنوات”.
ومع تصاعد التوتر الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين خلال جائحة فيروس كورونا، انخفض عدد الباحثين الأميركيين الذين يدرسون في الصين إلى أقل من ألف في عام 2024 من حوالي 11 ألفاً في عام 2019، وفقاً لروزي ليفين، المديرة التنفيذية لصندوق التعليم الأميركي الصيني.
وقالت ليفين إن الخطوة الأخيرة للرئيس ترمب “قد تدفع بكين إلى الرد أيضاً، ما يحد بشكل أكبر من عدد الطلاب الأميركيين في الصين، ومعه، فهم الولايات المتحدة الشامل لقوة عالمية حاسمة”.
ومع إقرارها بالحاجة إلى معالجة التهديدات الأمنية، قالت إن “السياسات الأميركية بحاجة إلى دقة”، مضيفة: “هذه السياسات فضفاضة للغاية، لدرجة أنها لا تمنح الضباط الأميركيين القدرة على التمييز بفعالية بين الأفراد الذين يشكلون مخاطر أمنية وأولئك الذين يسعون بصدق للحصول على فرص تعليمية”.
وأعربت ليفين عن اعتقادها بأن تركيز الإدارة على العلاقات مع الحزب الشيوعي الصيني أثار أيضاً تساؤلات بشأن إجراءات التدقيق الجديدة، مضيفة: “هناك 99 مليون عضو في الحزب الشيوعي الصيني في الصين. إن العمل في الحزب الشيوعي أو الانتماء إليه لا يُحدد نوايا الشخص بشكل دقيق”.
سياسة قديمة
من جانبه، قال ديفيد ويكس، المؤسس المشارك والمدير التنفيذي للعمليات في شركة “صن رايز إنترناشونال”، التي تُقدم المشورة للجامعات الأجنبية بشأن استقطاب الطلاب الصينيين، إن ترمب سبق أن فرض قيوداً على الطلاب الصينيين، بحسب ما أوردته مجلة “التايم”.
وأضاف ويكس: “هذه السياسة لم تأتِ من فراغ. هناك سياسات سلبية تعود إلى الولاية الأولى للرئيس دونالد ترمب”.
وتابع: “في عام 2020، طبقت إدارة ترمب في ولايتها الأولى الإعلان رقم 10043، وهو سياسة تأشيرات تقييدية على طلاب الدراسات العليا والباحثين الصينيين المرتبطين بالجامعات العسكرية-المدنية الصينية، وأُلغيت تأشيرات حوالي ألف باحث صيني بموجب هذه السياسة، التي استمرت في عهد إدارة جو بايدن”.
وأردف: “القيود الجديدة قد تبدو أكثر شمولاً، لكن مبالغ فيها”، مضيفاً: “لا يبدو أنها تختلف اختلافاً جوهرياً عما كان سارياً خلال السنوات الخمس الماضية. إنه أشبه باستعراض سياسي محلي. قد يرغب بعض المسؤولين في وزارة الخارجية في إظهار تشددهم تجاه الصين، لكن فكرة الحد من تأشيرات الطلاب الذين يدرسون في مجالات حيوية ليست جديدة”.
وقال ويكس”: “يرتبط عدد كبير من المواطنين الصينيين بالحزب الشيوعي الصيني الذي يضم حوالي 100 مليون عضو، وحتى لو لم يكن أحدهم عضواً، فمن المرجح أن يكون مرتبطاً به من خلال شخص يعرفه. لكن ينضم الناس لأسباب تتجاوز المشاركة السياسية المباشرة”.
وأضاف: “علاوة على ذلك، لكل قسم في كل جامعة صينية نظام حوكمة مزدوج، حيث يوجد العميد وأمين الحزب الشيوعي (…) ربما انضم الطلاب أيضاً إلى رابطة الشباب الشيوعيين في مرحلة ما، لكن الأمر يشبه إلى حد كبير الانضمام إلى الكشافة”.
وأردف: “الحزب حاضر في كل مكان داخل العديد من الجامعات الصينية، لكن هذا لا يعني أن الطلاب منخرطون سياسياً بشكل نشط. إن محاولة فك الارتباط وتحديد الانتماء الحزبي أمرٌ في غاية الصعوبة عملياً”.
تآكل الثقة
ويواجه التعليم العالي الأميركي خطر فقدان قاعدة طلابية دولية أساسية، إذ يُشكل الطلاب الصينيون ما يقرب من ربع إجمالي الطلاب الدوليين في الولايات المتحدة، أي أكثر من 277 ألف طالب، وهي ثاني أعلى نسبة بعد الطلاب الهنود، وفقاً لتقرير open doors لعام 2024.
ويختلف موقف إدارة ترمب تجاه الطلاب الصينيين اختلافاً جذرياً عن موقف الرئيس الصيني شي جين بينج، الذي دأب لسنوات على الدعوة إلى استقطاب المزيد من الطلاب الأميركيين إلى الصين. ففي عام 2023، أطلق شي مبادرةً لاستقطاب 50 ألف أميركي للتبادل والدراسة على مدى 5 سنوات. وفي العام الماضي، شارك 16 ألف أميركي في المبادرة.
ويرى بعض الخبراء أن قرار الإدارة سيؤدي إلى تآكل الثقة بين البلدين، ما قد يؤثر في نهاية المطاف على المفاوضات التجارية، التي تعد أولوية رئيسية لإدارة ترمب.
وكان وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت، قال في مقابلة مع قناة “فوكس نيوز”، الخميس، إن محادثات التجارة مع الصين “متعثرة بعض الشيء”، وحثّ على إجراء مكالمة هاتفية بين ترمب وشي، اللذين تحدثا آخر مرة في يناير قبل تنصيب ترمب.
وقال ويكس: “أعتقد أن الصين أوضحت رغبتها في فصل الخلافات الأمنية والتجارية… عن التبادلات بين الشعوب”. ورغم أنه لا يعتقد أن سياسات إدارة ترمب التعليمية ستقوض في نهاية المطاف مفاوضات التجارة، إلا أنه قال: “لا أعرف ما إذا كان ترمب أو وزير الخارجية ماركو روبيو يهتمان حقاً بمعرفة أي طالب من أي مقاطعة يدرس في أي جامعة أميركية، لكنني أعتقد أنهما، للأسف، لا ينظران إلى الطلاب الدوليين كبشر، بل كأوراق مساومة”.