“التعافي المبكر” في سوريا.. ضرورة تعكرها السياسة
جنى العيسى | حسن إبراهيم | هاني كرزة
تتحضر الأمم المتحدة لإطلاق مشاريع “تعافٍ مبكر” في سوريا، بصندوق تريد استقطاب داعمين له كدول الخليج العربي، وذلك بعد شروع الاتحاد الأوروبي بمشاريعه الخاصة في هذا الإطار قبل سنوات.
ورغم الجدل الدائر حول ضرورة هذه المشاريع باعتبارها مهمة لانتشال السوريين من واقعهم الاقتصادي والانتقال إلى التنمية بدل الاستجابة الطارئة، تقابَل بتشكيك حول استثمارها سياسيًا وتجاوز القرارات الأممية بضرورة الحل السياسي قبل الانتقال إلى إعادة الإعمار.
بدأ طرح مفهوم “التعافي المبكر” منذ سنوات قليلة، بعد غياب أي أفق لحل سياسي في سوريا من شأنه فتح الباب أمام إعادة الإعمار، وفي ظل الحاجة الملحة التي فرضها الواقع المعيشي والاقتصادي للسوريين وما تركته الحرب من تدمير في البنى التحتية بأهم القطاعات.
في يوم الحوار مع منظمات المجتمع المدني السورية بمؤتمر “بروكسل” بنسخته الثامنة، الذي أقيم في30 من نيسان الماضي، ركزت العديد من الجلسات المجدولة والجانبية على هامش المؤتمر على مناقشة مسألة “التعافي المبكر” في العديد من القطاعات.
وسبق نقاشات المؤتمر إعلان الأمم المتحدة نيتها إطلاق برنامج خاص لـ”التعافي المبكر” في سوريا، بهدف إقامة مشاريع في عدد من القطاعات قبل حلول الصيف المقبل.
تناقش في هذا الملف مع خبراء ومتخصصين، أسباب رغبة الأطراف الفاعلة من دول ومنظمات بالدفع نحو العمل على مشاريع “التعافي المبكر”، وإيجابيات وسلبيات ومخاطر هذا النهج، مع الإشارة إلى مدى وجود بيئة مناسبة صالحة لإقامة هذه المشاريع في سوريا.
احتياجات تفرض “التعافي”
تنوي الأمم المتحدة إطلاق برنامجها الخاص بـ”التعافي المبكر” خلال الأشهر المقبلة، وستمول المشاريع عبره من خلال إنشاء صندوق يوفر لبعض المانحين غير التقليديين كدول الخليج آلية آمنة وشرعية تحت مظلة دولية تقدم المساعدات التي لا تستطيع تقديمها حاليًا بسبب العقوبات الغربية المفروضة على النظام السوري.
وقد يوفر الصندوق للمنظمات والبنوك كالبنك الدولي تقديم مساعدات جرى رصدها لسوريا ولضحايا الزلزال، لكن لم يتم تقديمها حتى الآن بسبب العقوبات.
قناة أممية
منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سوريا، آدم عبد المولى، قال في مراسلة إلكترونية مع، إن أهداف الصندوق تتمثل بتحفيز النهج التعاوني بين الجهات الفاعلة الإنسانية (التي أنفقت مئات الملايين على أنشطة “التعافي المبكر” الفردية المفككة دون تحقيق تأثير ملموس)، وتزويد الجهات المانحة الثنائية غير القادرة على توجيه الموارد إلى سوريا بسبب نظام العقوبات، بقناة بديلة تحت رعاية متعددة الأطراف وعبر الأمم المتحدة.
كما يهدف الصندوق إلى السماح للمانحين والأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية بأن يقرروا معًا ما ينبغي تمويله وأين، ومواصلة التركيز على القطاعات الرئيسة لـ”التعافي المبكر” (الصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية وسبل العيش والكهرباء)، وفق عبد المولى.
ويرى عبد المولى أن استراتيجية “التعافي المبكر” التي تنوي الأمم المتحدة العمل وفقها مبادرة إنسانية تسعى إلى توسيع نطاق عمل المجتمع الإنساني في بعض القطاعات الرئيسة، التي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير تحويلي، مثل الحد من عبء الحالات الإنسانية، والمساهمة في تهيئة الظروف التي تسمح بعودة اللاجئين والنازحين داخليًا، وغير ذلك.
“التعافي المبكر”.. أمميًا
يعرّف مكتب الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) مصطلح “التعافي المبكر” بأنه “نهج يتناول احتياجات الإنعاش التي تبرز خلال مرحلة الاستجابة الإنسانية من خلال استخدام الآليات الإنسانية التي تتوافق مع مبادئ التنمية، هذا النهج يمكّن الناس من الاستفادة من العمل الإنساني لاغتنام الفرص الإنمائية، وبناء القدرة على التكيّف، وإنشاء عملية مستدامة للتعافي من الأزمة”.
خط أحمر؟
أشارت ورقة بحثية نشرتها “مؤسسة فريدريش إيبرت”، في نيسان 2023، إلى أن فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وقفتا في عام 2021 ضد زيادة مساعدات “التعافي المبكر” إلى سوريا، واعتبرتا أنها بمنزلة إعادة إعمار، وهو أمر مرفوض قبل الوصول إلى انتقال سياسي موثوق يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم “2254”.
واعتبرت الورقة التي أعدها الباحثان مالك العبدة ولارس هوخ، وحملت عنوان “التعافي المبكر في سوريا: الموازنة بين الأهداف السياسية والإنسانية”، أنه خلال الفترة الماضية لم يعد التوجه العام نحو مساعدات “التعافي المبكر” خطًا أحمر في سوريا، نظرًا إلى تغير الظروف.
وفي تشرين الثاني 2021، نشرت وزارة الخزانة الأمريكية توضيحات خصصت على وجه التحديد توسيع التصاريح للمنظمات غير الحكومية للانخراط في أنشطة ومعاملات “التعافي المبكر” في سوريا لأول مرة.
وتشمل الأمثلة على هذه الإعفاءات الجديدة، استعادة الخدمات الصحية، وإعادة تأهيل المدارس، وتجديد المطاحن، وحماية مواقع التراث الثقافي، وشراء النفط المكرر من أصل سوري لاستخدامه داخل البلد، وكذلك الدخول في “معاملات معيّنة” مع عناصر من حكومة النظام السوري.
ويحمل مصطلح “التعافي المبكر” ضبابية في تفسيره، إذ لا يوجد توافق واضح على تعريفه في الدوائر الإنسانية، بحسب ما يذكره تقرير لمركز “السياسات وبحوث العمليات”، إذ من الممكن أن يُنظر إلى مساعدات “التعافي المبكر” على أنها تندرج بين إعادة الإعمار من جهة والمساعدات الأممية العادية التي تقدم الغذاء وخدمات المياه والمأوى والصرف الصحي والنظافة من جهة أخرى.
يأتي تركيز الجهات والمنظمات الدولية على الاهتمام بمشاريع “التعافي المبكر” والدفع نحو تحقيق أثر أكبر فيها لأسباب متعددة، بحسب ما يراه الباحث في مجال الاقتصاد السياسي والإدارة المحلية في سوريا بمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أيمن الدسوقي.
واعتبر الدسوقي، في حديث إلى، أن هناك من يرى أن التمويل المخصص للأزمة السورية في انخفاض مستمر في ظل بروز أزمات جديدة، بالتالي لا بد من إدارة ما تبقى من التمويل بطريقة رشيدة وذات أثر مستدام لمواجهة تحديات الأزمة السورية إنسانيًا واقتصاديًا.
في حين يرى آخرون في “التعافي المبكر” أداة يمكن توظيفها لتحقيق غايات سياسية تتباين بحسب كل جهة، فالبعض يراه أداة لتجاوز العقوبات المفروضة على النظام، والبعض الآخر يراه أداة تفاوضية مع النظام وحلفائه، والبعض يراه أداة لدفع العملية السياسية التفاوضية المتعثرة أساسًا، وفق الدسوقي.
ثلاثة فروق بين “التعافي المبكر” وإعادة الإعمار
- يقع وضع خطط إعادة الإعمار وتنفيذها على عاتق الدولة، بينما تخطط وتنفذ منظمات الإغاثة “التعافي المبكر”، سواء كانت مركزية تأتمر بأمر هيئة إدارية واحدة كالأمم المتحدة مثلًا، أو من قبل منظمات فردية.
- “التعافي المبكر” شكل من أشكال المساعدة الإنسانية، أما إعادة الإعمار فليست كذلك، إذ يمكن أن تأتي إعادة الإعمار على شكل قروض ميسرة من منظمات منفردة أو متعددة الأطراف كصندوق النقد أو البنك الدولي، أما “التعافي المبكر” فما هو إلا نوع من أنواع المساعدة الإنسانية التي لا تستلزم السداد لاحقًا.
- تترتب أولويات “التعافي المبكر” تبعًا للاحتياجات الإنسانية، حاله في ذلك حال أشكال المساعدات الإنسانية الأخرى، أما إعادة الإعمار فليست كذلك بالضرورة.
المصدر: مركز السياسات وبحوث العمليات (OPC)
نحو الخليج.. لا خلافات مع الأوروبيين
يوفر الصندوق الأممي المقرر إطلاقه قريبًا، لبعض المانحين غير التقليديين (المقصود بهم دول الخليج)، الذين عادة ما يفضلون أن يقدموا المساعدات مباشرة إلى حكومة النظام لكنهم لا يستطيعون ذلك بسبب العقوبات، آلية أمنة وشرعية تحت مظلة دولية بأن يقدموا المساعدات للشعب.
منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سوريا، آدم عبد المولى، قال ل، إن المانحين التقليديين (بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) قاموا بتمويل أنشطة “التعافي المبكر” في جميع أنحاء سوريا لسنوات.
وفي الفترة ما بين كانون الثاني 2022 وتشرين الأول 2023، أنفقت الأمم المتحدة وشركاؤها ما يقارب 800 مليون دولار أمريكي على تدخلات “التعافي المبكر”، وشملت هذه الأنشطة جميع القطاعات الإنسانية تقريبًا، وفق عبد المولى.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الجهات المانحة غير التقليدية وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، لم تسهم بشكل كبير في أي أنشطة مبكرة رغم دعمها لمتضرري الزلزال، بحسب المسؤول الأممي.
ما نحاول القيام به بشكل مختلف هذه المرة هو قصر تدخلات “التعافي المبكر” على عدد قليل من القطاعات الاستراتيجية والتحويلية (الصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي والكهرباء وسبل العيش) وذلك في كل مناطق سوريا.
ويهدف الصندوق الائتماني المخصص لـ”التعافي المبكر” المقرر إطلاقه في سوريا إلى ما يلي:
-
- ضمان إنفاق أموال “التعافي المبكر” على هذه القطاعات على المدى المتوسط لمدة خمس سنوات، وعلى أمل أن نتمكن من تقليل الاحتياجات في تلك القطاعات بشكل كبير
- إتاحة الفرصة للجهات المانحة غير التقليدية للانضمام إلى الجهات المانحة التقليدية في جهودها الرامية إلى التعجيل بـ”التعافي المبكر”.
آدم عبد المولى
منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سوريا
ويثير إنشاء هذا الصندوق التساؤلات حول مدى نشوء صراع بين المانحين التقليديين والمانحين غير التقليديين (دول الخليج) حول مسألة “التعافي المبكر” في سوريا.
الباحث أيمن الدسوقي رجح عدم حدوث أي خلاف من هذا النوع، كون الصندوق آلية أممية إلى جانب آليات أخرى للاستجابة الإنسانية للأزمة السورية لا تزال قائمة وسوف تستمر في المدى المنظور.
ويعتقد الدسوقي أن ذلك يتيح خيارات أمام الجهات المانحة ويضعف من احتمالات نشوء صراع فيما بينها، علمًا أن الصندوق الأممي سيحتاج إلى وقت لحين تبلور آلياته وتوضح نتائجه، وقد يتطور عمل الصندوق ويصبح القناة المركزية للمانحين على اختلافهم لتمويل الاستجابة للأزمة السورية، وقد يحدث العكس أي فشل الصندوق، وفق رأيه.
منسق الشؤون الأممية، آدم عبد المولى، علق أيضًا على هذه التساؤلات بقوله، إنه من غير المتوقع وجود أي اعتراضات من الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة على انضمام مانحين غير تقليدين إليهم في جهودهم لتعزيز “التعافي المبكر” بجميع أنحاء سوريا بغض النظر عن الجهة المسيطرة.
أطراف غير ناضجة سياسيًا
الحديث عن “التعافي المبكر” مؤخرًا جاء في وقت يزداد فيه المشهد قتامة وتعقيدًا في سوريا، ولا تلوح في الأفق أي انفراجة قريبة في البلاد التي تغيّرت كثيرًا بعد 13 عامًا من انطلاق الثورة السورية، ولم يبقَ فيها أي قطاع على حاله، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وإنسانيًا، وتحولت عبر تلك السنوات إلى مناطق سيطرة تتقاسمها أربع جهات هي النظام و”الإدارة الذاتية” و”الحكومة المؤقتة” و”هيئة تحرير الشام”.
وإلى جانب جهات السيطرة الأربع، بلغ عدد المواقع العسكرية للقوى الخارجية في سوريا 830 موقعًا، تتوزع تحت هيمنة الدول والجهات المؤثرة على الأرض، وهي التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وروسيا وتركيا وإيران، وذلك حتى تموز 2023.
ويواجه المواطن السوري وحيدًا موجات ارتفاع الأسعار وغياب القدرة على تأمين حاجيات عائلته الأساسية، وسط تدهور الليرة أمام العملات الأجنبية، مع غياب أي حلول تنتشله من أزماته المتلاحقة، وتنعكس زيادة الراتب وبالًا عليه، لما يتبعها من مضاعفة أسعار السلع.
وتشير أحدث تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 16.7 مليون شخص يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية في سوريا، مع دلالات يحملها عام 2024 بأن المؤشرات الإنسانية والاقتصادية في البلاد مستمرة في التدهور، وأن الوضع الاقتصادي “خطير على نحو متزايد”، ويشكل محركًا رئيسًا للاحتياجات.
ويحتاج 80% من السكان السوريين إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية في عام 2024، كما يعاني نحو 55% من السكان أو 12.9 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، منهم 3.1 مليون يعانون بشدة من انعدام الأمن الغذائي.
صدع مجتمعي
المتخصص في إدارة الجودة والحوكمة الدكتور زيدون الزعبي، لا يعتقد أن البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سوريا صالحة لمشاريع التعافي المبكر، على الرغم من أهمية هذه المشاريع، وتكمن الخشية من أن نضج الأطراف السياسية غير مكتمل، لفهم أهمية ترابط مشاريع التعافي المبكر في جميع الجغرافيات.
وقال الزعبي، في حديث إلى، إن من المهم عدم النظر إلى الجغرافيات السورية على أنها أصبحت دويلات ومنعزلة ومقسمة، ولا يمكن التعويل اليوم على أن السوريين ما زالوا يشعرون أنهم ينتمون إلى مجتمع واحد، لأن ذلك غير صحيح، فالانقسام رهيب في المجتمع، وفق تعبيره.
إن لم تسعَ مشاريع “التعافي المبكر” إلى رأب الصدع بين المجتمعات السورية، وربط الاقتصادات ببعضها، وتخفيف حدة الانقسام وخطاب الكراهية، وإن لم يدعمها نضج سياسي فلن تكون مفيدة.
د. زيدون الزعبي
متخصص في إدارة الجودة والحوكمة
تجيير المساعدات لب المشكلة
مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، الدكتور في الاقتصاد كرم شعار، يرى أن كل سوريا تحتاج إلى مساعدات “التعافي المبكر”، ولا يجب الانتظار حتى إيجاد حل سياسي، معتبرًا أن المشكلة تكمن بأن الأمم المتحدة تسعى لتطبيق مشاريع “التعافي” بشكل لا يراعي السياق السوري، ولا يراعي واقع تجيير المساعدات بشكل ممنهج من قبل النظام السوري، وهو لب المشكلة.
وأوضح شعار، في حديث إلى، أنه يجب تطبيق مشاريع “التعافي المبكر” لكن بطريقة تراعي السياق السوري، وتراعي حقوق الناس، وتصل إلى مستحقيها دون تسييس من النظام.
وللنظام السوري سجل حافل في اختلاس المساعدات واستخدامها كسلاح، سواء من خلال توزيعها في المناطق الموالية وحدها، أو التلاعب بسعر صرف الحوالات المالية للمساعدات، أو توظيف عمال المساعدات والمشتريات من مُقـربيه، إلى غير ذلك من أشكال الفساد.
وقد أدى ذلك إلى ثني الحكومات المانحة عن الإمداد بالمواد غير الأساسية، كمساعدات “التعافي المبكر” مثلًا، بالإضافة إلى ذلك، صار تنفيذ برامج “التعافي المبكر” في المناطق التي يسيطر عليها النظام صعبًا بشكل متزايد، بسبب العقوبات الأمريكية التي ردعت المانحين، ووقفت عائقًا أمام إيصال المساعدات.
رغم وجود توافق على ضرورة وفائدة زيادة المشاريع التي تتجاوز المساعدة الطارئة لتلبية الاحتياجات الإنسانية المتزايدة في سوريا، وسط النزاع المستمر، اعتبرت ورقة البحث التي نشرتها “مؤسسة فريدريش إيبرت” أن قبول المانحين لهذا التوجه كان فاترًا في أحسن الأحوال، في ظل تنفيذ عدد محدود من المشاريع يمكن تصنيفها في إطار مشاريع “التعافي”.
ومن وجهة النظر الإنسانية، قد يوفر “التعافي المبكر” إمكانية حقيقية لتقديم خدمات أساسية محسنة وتعزيز قدرات الصحة العامة والتعليم، لكن من وجهة النظر السياسية لا يمكن الاستخفاف بمخاطر السعي الحثيث لتحقيق “التعافي المبكر”.
إيجابي من منظور تنموي
الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي، قال إن “التعافي المبكر” يعتمد على إعادة تأهيل البنية التحتية والاعتماد على الثروة البشرية وتأهيلها، لتنخرط داخل الاقتصاد في بداية تعافيه وبكل القطاعات الاقتصادية، ليكون لها دور فاعل في بناء اقتصاد مستقبلي قوي ومتين يعتمد على أسس اقتصادية مؤسساتية ذات فاعلية حقيقية.
وأوضح قضيماتي، ل، أنه إذا تم تطبيق “التعافي المبكر” بشكل صحيح، فإننا سنرى عجلة الاقتصاد تسير في الاتجاه الصحيح، ومؤشرات القطاعات المختلفة ستكون في ارتفاع، ما سيعود بالنفع على المواطن السوري بشكل كامل.
ويمكن لمشاريع “التعافي المبكر” أن تلغي سلطة الشخص الواحد والتحكم بالاقتصاد من قبل أشخاص، إذ سيتم القضاء على ما يقوم به النظام من تجارة الممنوعات والاعتماد على المحسوبيات ودفع الإتاوات، لكن في النتيجة لا يمكن تطبيق “التعافي المبكر” في سوريا بظل وجود السلطة الحاكمة.
بدوره أشار الباحث السياسي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” معن طلاع، إلى أن “التعافي المبكر” يمكن أن يكون ذا طابع إيجابي، إذا تمت إدارته من منظور تنموي وبنائي.
واعتبر طلاع، في حديث إلى، أن المنظمات المحلية في شمال غربي سوريا لها دور مهم في عمليات تنسيق الدعم وإدارة مشاريع “التعافي المبكر”، بحيث تتعامل مع الشمال السوري ككتلة واحدة وليس منطقة دون أخرى.
عبد العظيم المغربل، مساعد باحث في مركز “جسور للدراسات”، تحدث كذلك عن إيجابيات “التعافي المبكر”، موضحًا أنها تكمن في تهيئة الظروف المناسبة لبدء عملية التنمية الاقتصادية واستعادة الخدمات الرئيسة، التي يمكن أن يتبعها بعد ذلك طرح بعض الحلول السياسية المناسبة، فعملية “التعافي المبكر” ستسهم في إيجاد حلول للمشكلات الطويلة الأمد التي أسهمت في حدوث أزمات.
وأشار المغربل ل إلى أن “التعافي المبكر” يسهم كذلك في مساعدة الناس على الانتقال من الاعتماد على الإغاثة الإنسانية إلى التنمية الاقتصادية، وتشجيع الاستثمار في المنطقة وخلق فرص عمل وتحسين الدخل، إضافة إلى المساهمة في تأسيس البيئة الأساسية لعملية إعادة الإعمار في المستقبل.
وفي النهاية يكون لـ”التعافي المبكر” دور مباشر في تحسين الأوضاع الإنسانية والاقتصادية الخاصة بالسوريين، وفق المغربل.
فرص سياسية أمام النظام
رغم الإيجابيات الكثيرة التي تحملها مشاريع “التعافي المبكر”، فإنها في المقابل تنطوي على العديد من السلبيات، بحسب حديث عدد من المختصين.
ومنها ما ذكره الباحث معن طلاع بأن “التعافي المبكر” أمر ضروري ومهم، لكن الواقع الحالي وما يتم طرحه من تقارب وتطبيع مع النظام، لا يمكن عزله عن الملف الإنساني الذي يقوم عليه جوهر “التعافي المبكر”، وبالتالي فالمجتمع الدولي ذاهب لتجاوز كل الاستحقاقات الوطنية والتعامل مع ملف سوريا على أنه ملف قليل الأهمية والبدء بـ”التعافي المبكر”، وتعظيم فرص استرداد النظام لشرعيته السياسية، وهذا أمر بالغ الخطورة، وفق تعبيره.
وأضاف طلاع أن “التعافي المبكر” له دور في تعظيم أدوار النظام والانتقال عبر المشاريع التي يطلقها من آلية المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى نقل المساعدات عبر الخطوط ليكون للنظام دور أساسي بالتحكم فيها، وهذا إن تم سيسهم في تقسيم سوريا، ويؤكد فكرة استغلال تلك المشاريع لتسكين الملف السوري وتجاوز الحل السياسي وملف المحاسبة وعودة اللاجئين.
وسيلة ابتزاز بيد الأسد
استخدم النظام السوري “التعافي المبكر” كوسيلة ابتزاز لتحقيق المكاسب، ففي تموز 2021، اشترط النظام تضمين مسألة “التعافي المبكر” ضمن قرار مجلس الأمن “2642” الصادر في 9 من تموز 2021، مقابل موافقة حليفته روسيا على تجديد آلية تمديد المساعدات الأممية عبر معبر “باب الهوى”.
رئيس النظام السوري، بشار الأسد، كذلك استخدم “التعافي المبكر” كوسيلة ابتزاز أخرى بملف اللاجئين، إذ ربط وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، عودة السوريين إلى بلدهم، بدعم مشاريع “التعافي المبكر” في سوريا لإعادة تأهيل البنى التحتية.
وقال المقداد خلال اجتماع لجنة الاتصال الوزارية العربية بالقاهرة في آب 2023، “من الملاحظ أن الدول الغربية تعرقل أي توجه نحو تنفيذ مشاريع التعافي المبكر، وتعمل على تسييس هذا الموضوع، لذلك من المهم أن تتضافر الجهود العربية للدفع نحو تنفيذ هذه المشاريع، وتأمين التمويل اللازم لها، إذ سيسهم ذلك في تحسين الوضع الإنساني وفي عودة اللاجئين”.
وفي حزيران 2023، استقبل الأسد وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، في دمشق. حينها نقلت “رئاسة الجمهورية” عن الاجتماع، أنه تطرق إلى حشد الجهود لدعم مشاريع “التعافي المبكر” المرتبطة بعودة اللاجئين السوريين ومتطلباتها، وأن عودتهم مرتبطة بتوفير متطلبات إعمار البنى المتضررة في القرى والمدن التي سيعودون إليها، وتأهيل المرافق الخدمية بمختلف أشكالها، إضافة إلى ضرورة تنفيذ مشاريع “التعافي المبكر” الضرورية لعودتهم.
مساعد الباحث في مركز “جسور للدراسات” عبد العظيم المغربل، حذر من أن “التعافي المبكر” يمكن أن يتحول إلى خطوة سلبية، إذا استغلها الأسد لتعزيز شرعيته وابتزاز الدول الغربية، إضافة إلى محاولته الالتفاف على العقوبات المفروضة عليه بجانب تخصيص قسم من أموال المشاريع ضمن عمليات إعادة الإعمار التي هي في الأصل ليست ضمن “التعافي المبكر”.
وأضاف المغربل أنه من الممكن أن تتم مشاريع “التعافي المبكر” على مستوى ضيق، لا يسهم في تحسين الشؤون المعيشية للسكان في سوريا، بجانب تفاوت سرعة عملية التعافي بين المناطق المستهدفة، إضافة إلى احتمال عدم دعم المشاريع المهمة على حساب الأقل أهمية، وهذه كلها سلبيات تجعل “التعافي المبكر” لا يصب في مصلحة السوريين بل في مصلحة النظام.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي