لمى قنوت
صدر التعميم رقم “17” عن وزارة العدل السورية في كانون الأول الحالي، أسقطت فيه السلطة الجديدة حق النساء بالولاية على أولادهن وبناتهن القصر، وحصرته بالأب ثم للجد العصبي عند عدم وجود الأب، ثم بسلسلة طويلة من ذكور العائلة، وهم “العصبات بالنفس على ترتيب الإرث، تصل إلى ابن عم الجد العصبي لأب”، ومن كانت قرابته من الأبوين، قُدِم على من كانت قرابته من الأب فقط، وحدد التعميم، بأن الولاية على القاصر هي ولاية على النفس، وولاية على المال.
تعارض مع اتفاقيات دولية ومع الإعلان الدستوري
يأتي التعميم الحالي في سياق عنف قانوني قديم- متجدد، يطول النساء بتنوعهن وتنوع سياقاتهن، يعمق الإقصاء القانوني والاجتماعي، ولا يعترف بمواطنيتهن، بل يسعى لحصر مكانتهن وأدوارهن ووجودهن بمواطنية منقوصة، ويتجاهل مصلحة القُصر الفضلى، ويتناقض متن التعميم المذكور مع الاتفاقيات التي صدّقت عليها سوريا، مثل جوهر اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، على سبيل المثال: (المادة 2) و(المادة 5) و (المادة 15-3) و(المادة 16، د-و)، واتفاقية حقوق الطفل (المادة 2) و(المادة 3، 1 -2) و(المادة 12) و(المادة 18)، ويتعارض التعميم رقم “17” بنيويًا مع هذه المواد لأنه لا ينطلق من تقييم فردي دقيق لمصلحة الطفل أو الطفلة من قبل مختصين قانونيين واجتماعيين ونفسيين، من النساء والرجال، بل يفترض أولوية ذكور العائلة بغض النظر عن علاقة الرعاية الفعلية. ولا يقتصر التناقض الصارخ على الاتفاقيتين فقط، بل ينسحب على جملة مواد من الإعلان الدستوري الذي هندسته السلطة الانتقالية كـ)المادة (10 و(المادة 12) و(المادة 20) و(المادة 21). كما أن ذريعة التعميم التي سيق من أجلها، وهي، إرهاق المحاكم الشرعية وقضاتها، وتخفيف عدد مراجعيها، ستفتح باب النزاعات العائلية وستغرق المحاكم بالمزيد من الدعاوى.
ومن عدسة نسوية تقاطعية، يمكن تسليط الضوء على بعض النقاط:
أولًا: وفق الفقه القانوني الحديث، فإن التعميم يخلط بين مفهومي الولاية والوصاية، فالولاية هي دور رعائي وتمثيل قانوني للقاصر، طفلًا كان أم طفلة، ومرتبطة بمصلحته الفضلى، وهي مسؤولية قانونية مشروطة بالأهلية والرعاية، وليست امتيازًا قائمًا على الجنس البيولوجي، والنسب لذكور عائلة الأب أولًا، ومن ثم ذكور عائلة الأم في حال كانت القرابة مشتركة بين الأبوين. أما الوصاية فهي تُستخدم في حال غياب أو عدم أهلية الولي، امرأة أم رجل، وهو إجراء استثنائي ومؤقت، ويمنح بحكم قضائي معلل. بينما يستخدم التعميم الولاية كأداة ضبط وهيمنة وعقاب للأمهات.
ثانيًا: إخفاء الفاعل السياسي، إن لغة التعميم ليست محايدة، فهي لغة تخفي النساء ولا تظهرهن كذوات فاعلات ومتضررات منه، وهو ما تسميه الدراسات الإعلامية النسوية بالغياب الهيكلي (Structured Absence)، فهو ليس سهوًا، بل تغيب منهجي منسق ومنظم يخفي علاقات القوة التي تمارسها السلطة وتشرعن ممارساتها دون مساءلة، وتكرس تهميش النساء، وتختار من يُصنف كـ”صاحب حق”. وبشكل محدد، هو تغييب وتهميش أيديولوجي يخدم نسقًا معينًا من القوة، جندرية وطبقية وسياسية.
وفي التركيز على الحمولة الأيديولوجية لمصطلح الولاية، فهي معبأة ومشحونة بالسلطة والسيطرة والقوة والامتداد الذكوري، وتغييب كلمة “الأم” هو اختيار واعٍ يساوي بين السلطة والذكورة، ورعاية الأم دون أهلية قانونية. ورغم أن لغة الخطاب تذكر “مصلحة الطفل الفضلى”، فإنها مصلحة غير مفعلة، وأدائية، وتبرير أخلاقي شكلي، ويعتبر متن التعميم أن الطفل امتداد للسلطة الأبوية، مع تفضيل ولاية قريب من ذكور عائلة الأب، ثم ذكور عائلة الأم، على الأم نفسها. وبالطبع فإن التعميم لا يصب في مصلحة الطفل، ويعيد هرمية ترتيب الجندر، والامتثال الاجتماعي له. ويمكننا القول إن التعميم يفرض القرارات القسرية التعسفية وكأنها إجراءات إدارية تحت ذريعة تخفيف العبء على المحاكم وقضاتها.
ثالثًا: العنف القانوني كأداة ضبط اجتماعي، فالتعميم يؤكد على أن الولاية الذكورية سلطة سياسية- اجتماعية، وهي تنقل الطفل من الأم الحاضنة إلى شبكة ذكورية، قد تكون غائبة عن الطفل، ولا تدرك مصلحته الفضلى، وقد تستفيد من التحكم القانوني. كما أنها تتجاهل تقاطعية الأذى على النساء بتنوعهن وتنوع سياقاتهن، في عدم القدرة للوصول إلى العدالة، وأثر النزاع عليهن مثل النزوح القسري المتكرر واللجوء والإخفاء القسري والاعتقال، والبنى التي أدت إلى تأنيث الفقر، إضافة إلى بنى اجتماعية تتقبل وتطبع العنف ضدهن.
ويصب التعميم في ضبط النساء بعد الحرب أو الصراع، ويؤكد على مركزية “العصبة الذكورية”، ويعاقب الأمهات الناجيات والمعيلات، وغيرهن من الأمهات غير الخاضعات لهيمنة النظام الأبوي بشكل مباشر ومكثف، فيكون إقصاؤهن من الولاية أداة لحرمانهن من حقوقهن، وترسيخًا لعقود من المظالم الهيكلية بدل من المضي قدمًا بمسار عدالة انتقالية تحولية، تجبر الضرر الهيكلي الراسخ في التمييز ضدهن، واضطهادهن.
رابعًا: تفكيك “أسطورة” حيادية الدولة ومؤسساتها، فهي ليست محايدة بين أفراد متساوين بالحقوق والواجبات والامتيازات، ولا تنتج عنها أحكام عادلة ومحايدة، بل لها بنية مجندرة، أي ذكورية، تعيد إنتاج الجندر وعلاقات الهيمنة عبر القانون والإدارة واللغة. ويعتبر التعميم رقم “17” مثالًا راهنًا على ممارسة سلطوية ذكورية واعية لإعادة ضبط المجتمع بعلاقات قوة هرمية مجحفة، دون الاكتراث بالإرادة العامة لأصحاب المصلحة، أي الأمهات وأطفالهن وطفلاتهن.
وفي الإطار نفسه، فإن الانسحاب التدريجي والمتسارع للدولة من دورها في تحقيق العدالة الاجتماعية بمفهومها الحديث، بالإضافة إلى الانهيار الاقتصادي، وتآكل القدرة الشرائية، وضعف الخدمات العامة، وانعدام الأمن والاستقرار، وإقصاء أصحاب المصلحة من مناقشة وإقرار القوانين والسياسات، والتجريب والارتجال الذي ساد خلال عام بعد إسقاط النظام البائد، فإن السلطة تتخلى عن مسؤوليتها الاجتماعية والسياسية لتقديم خدمات الرعاية الحديثة، وتلقيها على الرجال من الذكوريين، بصفتهم ضامنين للنظام الأبوي، ومتوافقين مع سلطويته، ونموذج السلطوية السياسية التي تمارسها المنظومة الحاكمة اليوم بعد عام من سيطرة عصبة من رجالات “هيئة تحرير الشام”، المنحلة، على مفاصل القرار في المرحلة الانتقالية، وهكذا يعزز التعميم في المخيال الجمعي بأن النساء يهددن “الأسرة المستقرة”، ويستخدم القانون كأداة لتقنين، وضبط العلاقات الاجتماعية، وتحولاتها، بما يتناغم مع تصور السلطة عن “الاستقرار”، وبطبيعة الحال فهي لا تحمي الأطفال والطفلات، بل تحمي، وتجذر نموذجًا اجتماعيًا أبويًا، وعقلية ذكورية ترفض التغيير والانتقال إلى دولة حديثة.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي
