يستكمل الباحث سامر بكور، في الجزء الثاني من كتاب “التغريبة السورية: الحرب الأهلية وتداعياتها المجالية والسكانية 2011-2020″، ما بدأه في الجزء الأول حول الجنوب والوسط والساحل، لكنه يركز هذه المرة على أكثر مناطق سوريا تعقيدًا، الشمال الشرقي والشمال الغربي.
يوثق الكتاب تحولات الجغرافيا والبشر، ويحلل خريطة القوى المسلحة التي تناوبت على السيطرة، ويرصد أسباب خسارتها الأراضي التي استولت عليها خلال سنوات الحرب.
ينطلق بكور من إطار نظري واسع، مستندًا إلى أبرز مفاهيم الواقعية في العلاقات الدولية، حيث تعد الحرب أداة لإنتاج السلطة، كما تقول فرضية تشارلز تيلي بأن “الحرب تصنع الدولة والدولة تصنع الحرب”.
ويستحضر تعريف فيبر للدولة بوصفها صاحبة “احتكار القوة المشروعة”، ليظهر كيف أدت محاولات سلطات الأمر الواقع “في غياب الشرعية والاحتكار” إلى تآكل نفوذها، فيما يستند المؤلف إلى أبحاث معاصرة مثل أعمال “كير–ليندسي وستانسفيلد وكاسبرسن” لفهم العلاقة بين “الدولة الأم” والقوى المنفصلة عنها، وكيف يحدد الدعم الدولي أو فقدانه، درجة استعداد هذه القوى للتنازل أو الصمود.
يقدم الكتاب سردًا تفصيليًا لتحولات السيطرة في محافظات الدراسة، التي أسست تنظيم “الدولة الإسلامية”، و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، و”هيئة تحرير الشام”، و”الجيش الحر” وغيرها أنماط حكم مختلفة، لكنها تشابهت في إنتاج تغييرات بنيوية وسكانية عميقة.
ويشرح بكور كيف أدت التحالفات المتقلبة بين هذه القوى، وتدافع الدعم الإقليمي والدولي، إلى صراعات داخلية مزمنة، قلما تناولتها الأبحاث الأكاديمية.
يستشهد في هذا السياق بدراسات نادرة تناولت “قتال الإخوة” بين الفصائل، مسلطًا الضوء على مساحات غير مستكشفة في تحليل “الديناميات” الداخلية للجماعات المسلحة.
يتتبع الكتاب التغييرات على الأرض منذ خروج قوات النظام السابق من الشمال، مرورًا بتمدد التنظيمات الجهادية والقومية، وصولًا إلى استغلال النظام لانشغال خصومه بصراعاتهم الداخلية، ليستعيد أجزاء من دير الزور والرقة وحلب وإدلب.
ويخلص إلى أن القوى المتصارعة، بمن فيها النظام السابق، أخفقت في بناء نموذج حكم مستقر، ما يجعل جميعها “دولًا فاشلة” بحكم العجز عن ضبط الأرض والسكان وإدارة الموارد، بحسب تعبير الكاتب.
يركز الجزء الثاني على آثار الحرب في البشر قبل الجغرافيا، والتهجير الواسع، والقصف الممنهج، والحصار، والتجويع، والتطهير العرقي والطائفي، وسياسات مصادرة الأملاك ومنع العودة، موثقًا كيف تحول الشمال السوري إلى خريطة ديموغرافية جديدة بالكامل. ويعتبر المؤلف أن هذه التحولات تمثل “قنبلة ديموغرافية” مرشحة للانفجار، بما قد يخلف “تشظيات” سياسية ومجتمعية يصعب احتواؤها.
الكتاب ليس مجرد تأريخ للحرب، بل قراءة للفوضى التي تشكلت في الشمال السوري، وتحولت إلى معمل لإنتاج سلطات متنافرة، تبحث كل منها عن شرعية ضائعة.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي
