التفاصيل “الحقيقية” لأول زيارة سورية “رسمية” لأمريكا.. من رفع العلم إلى “الرسائل”

خطوات متسارعة في الملف السوري بدأت تتبلور خلال الساعات الأخيرة وأخرى يجري الإعداد لها، من أبرزها الزيارة الرسمية الأولى للولايات المتحدة ورفع العلم السوري في أروقة الأمم المتحدة، إلا أن خبراء يحذرون من الخلط بين التقدم بهذه الخطوات وبين الشروط التي تطرح للاعتراف بالحكومة السورية، غير أنّ خفايا الكواليس تكشف ما هو أبعد من مجرد خطوات رمزية.
مشروع تجريبي في الشمول المالي
في خطوة وُصفت بأنها الأولى من نوعها على الساحة السورية منذ التغيير السياسي الكبير في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وقّع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) اتفاقية تمويل بقيمة 2.9 مليون دولار مع أربعة بنوك تمويل صغير، بحضور عدد من كبار المسؤولين السوريين والدوليين، من بينهم عبد السلام هيكل وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وعبد القادر حصرية محافظ مصرف سوريا المركزي، إلى جانب الدكتور عبد الله الدردري، الأمين العام المساعد للأمم المتحدة ومدير برنامج UNDP في المنطقة العربية.
تهدف الاتفاقية إلى إطلاق مشروع “سعر الفائدة المدعوم”، الذي يُتوقع أن يوفّر تمويلاً مباشراً لأكثر من 1600 شخص، في خطوة تسعى لتعزيز الشمول المالي وتوسيع فرص الحصول على الائتمان، كجزء من رؤية وطنية للنمو الاقتصادي المستدام. وتعد هذه الاتفاقية مؤشراً على بداية انفتاح حذر للمؤسسات الدولية على دعم الاقتصاد السوري، ضمن بيئة سياسية لا تزال متقلّبة ومعقدة.
وشملت الاتفاقية مجموعة من البنوك السورية، هي “مصرف الأول للتمويل الأصغر”، و”بنك بيمو السعودي الفرنسي”، و”مصرف الإبداع”، و”مصرف الوطنية للتمويل الصغير”.
ووفق تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تحتاج سوريا إلى أكثر من 50 عامًا على الأقل، لاستعادة المستويات الاقتصادية للبلاد في مرحلة ما قبل الحرب في حال حققت نموًا قويًا.
الحضور الدولي المتزايد
في السياق ذاته، جرى التحضير لزيارة رسمية إلى واشنطن يشارك فيها وزير المالية محمد يسير برنية ومحافظ مصرف سوريا المركزي عبد القادر حصرية، لحضور اجتماعات الربيع للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهي اجتماعات تُعقد سنوياً لمناقشة السياسات الاقتصادية العالمية، وغالباً ما يتم خلالها بحث فرص الدعم الفني والمالي للدول النامية والهشة.
وتأتي هذه المشاركة بالتوازي مع اجتماعات وزارية مرتقبة في نيويورك نهاية أبريل، يحضرها وزير الخارجية أسعد الشيباني، الذي من المتوقع أن يشارك في جلسات مجلس الأمن، إلى جانب المبعوث الأممي غير بيدرسون وعدد من وزراء الخارجية، من بينهم الفرنسي جان نويل بارو.
وربط عدد من الخبراء بين هذه الزيارة وشروط أمريكية طرحت على دمشق بهدف الاعتراف بالحكومة الجديدة، ويبدو أن السلطات السورية وافقت على الكثير منها، ويجري التفاوض على أخرى.
السعودية والبنك الدولي: دفع باتجاه انخراط أكبر
وذكرت وكالة “رويترز” أن السعودية تخطط لسداد نحو 15 مليون دولار من متأخرات سوريا للبنك الدولي، وهي خطوة ستسمح حال تحققها بإعادة إدراج سوريا ضمن برامج الدعم التنموي التابعة للمؤسسة الدولية للتنمية (IDA)، التابعة للبنك الدولي.
ويتوقع أن تُترجم هذه الخطوة في حال نجاحها إلى دعم بقيمة 300 مليون دولار لقطاع الكهرباء والبنية التحتية، وهو ما قد يمثل بداية لتدفق أموال إعادة الإعمار تحت مظلة دولية منظمة.
أصول مجمّدة ومعضلة قانونية
وفي وثيقة أعدها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وُصفت الأموال والأصول السورية المجمدة في المصارف الأوروبية بأنها من أعقد الملفات المالية التي تواجه المشهد الانتقالي في سوريا. وتُقدّر هذه الأصول بحوالي 500 مليون دولار أميركي، ظلت مجمّدة بموجب العقوبات الأوروبية المفروضة منذ عام 2011.
وطرحت الوثيقة مقترحاً بإنشاء آلية مؤسسية عبر الأمم المتحدة تستثمر هذه الأصول في مشاريع تنموية داخل سوريا، بدلاً من الإفراج المباشر عنها، لما يمثله ذلك من حساسية سياسية ومخاوف من سوء الاستخدام.
مقاربة وليست اعتراف؟!
وعلّق الباحث السياسي عزت البغدادي في تصريح لوكالة “ستيب الإخبارية” حول هذه الخطوات قائلاً: “رغم الطابع الاقتصادي والتقني لاجتماعات البنك الدولي، سارعت وسائل إعلام إلى الترويج لها كخطوة نحو الاعتراف الدولي.”
ويضيف البغدادي أن الدعوة لا تشكل اعترافًا سياسيًا، بل تعكس مقاربة جديدة للبنك الدولي تجاه الدول الهشة أو التي تفتقر لحكومات شرعية، قائلاً: “فالدعوة لم تصدر اعترافًا سياسيًا، بل تأتي ضمن مقاربة تحاول التعامل بمرونة أكبر مع الدول المتفككة، حيث تبقى الحاجة ملحّة لتدخلات طارئة.”
ويرى البغدادي أنه: “بدل أن تُفهم المشاركة ضمن سياق تقني لتقدير تدخلات مشروطة، تم توظيفها إعلاميًا لإعادة إنتاج مشهد الدولة الأمنية ولكن بواجهة تكنوقراطية منسلخة عن واقع الناس.”
ويوضح أن البنك الدولي بالتعاون مع الأمم المتحدة أطلق مشروع “أهداف التنمية للألفية” (MDGs). ويشرح المشروع أن التنمية الدولية ستدخل في مأزق إذا بقيت دول الجنوب تنحدر اقتصادياً، وقد حدد في تقريره العوائق أمام التنمية على رأسها الاستبداد.
ويتابع: “كان هذا المشروع يهدف إلى خفض الفقر، وتعزيز التعليم والصحة، وتحقيق تنمية مستدامة في الدول الفقيرة والهشّة ليس من دوافع إنسانية ولكن من ضغوط المنظومة الرأسمالية التي لا تشبع من مراكمة المال. وقد مثّلت سوريا حينها حالة نموذجية للتدخل التنموي من بوابة الإصلاح الاقتصادي وتحديث البنية المالية لتتلاءم مع خطط البنك الدولي. لكن النظام السوري، بهيكليته الأمنية والاقتصادية الريعية، لم يكن مستعدًا لفتح مجالات التعاون. فتم تقويض التدخل، وتحوّل التعاون الدولي إلى مجرّد أوراق سياسات لا تُنفّذ، أو برامج محصورة ضمن نوافذ ضيقة لا تمس جوهر السلطة”.
ويشير الباحث السياسي إلى أنه مع انسداد الأفق أمام التدخل الرسمي، لجأ البنك الدولي في العقد الماضي إلى خيار بديل: “العمل مع رجال أعمال سوريين في المهجر، تُوّج بمحطتين في مرسيليا، حيث جمعتا خبراء من البنك مع ثلة سورية اقتصادية مقيمة في أوروبا والخليج وتركيا. الهدف كان خلق قناة موازية للدولة، وربما استثمار رأس المال السوري الخارجي في مشاريع اقتصادية”.
لكنه يؤكد أن هذه المحاولة فشلت لأسباب بنيوية. قائلاً:” فالعلاقة بين بعض الشخصيات الفاعلة كشفت عن تداخل بين الشبكات التي اعتمد عليها النظام في اقتصاد الظل وتلك الشخصيات المقيمة في المهجر. والبعض الآخر يفتقر إلى الخبرة أو الرؤية التنموية. كما اصطدمت المحاولة بعوائق قانونية وسياسية، أبرزها أن البنك الدولي لا يستطيع التدخل دون إطار سيادي معترف به”.
ويشدد “البغدادي” على أن “البنك الدولي مؤسسة بيروقراطية مثقلة بقيود إجرائية ومعايير سياسية معقدة. هذا ما جعله عاجزًا عن التدخل الفعّال في الحالة السورية، رغم كونها إحدى أكثر النماذج وضوحًا للانهيار التنموي والأكثر جاذبية كحقل أبحاث وتعلم”.
إلا أنه يشير أن البنك الدولي منذ نهاية عام 2022 غير سياسته، حين أعلن عن تحديث جوهري، يتيح له التعامل مع السياقات التي لا تتوفر فيها حكومة معترف بها، أو التي تخضع لسلطات أمر واقع. شرط هذا التغيير أن تتم المشاريع من خلال قنوات شفافة، وعبر المجتمع المدني أو منظمات دولية وسيطة.
ويتابع: “إن هذا التحول لا يعني الاعتراف بتلك السلطات، بل يعكس استجابة للواقع: كيف يمكن أن يتدخل البنك الدولي دون التعامل مع سلطات الأمر الواقع الموجودة على الأرض”؟
خفض تأشيرات الوفد السوري.. رسالة أميركية واضحة
في دلالة على استمرار الفجوة بين واشنطن والسلطات السورية الجديدة، أقدمت الخارجية الأميركية على خفض مستوى تأشيرات الوفد السوري المشارك في اجتماعات الأمم المتحدة، ليصبح ممثلاً لحكومة “لا تعترف بها واشنطن”، وهو إجراء لم يتم اتخاذه حتى خلال سنوات حكم النظام السابق.
ومع ذلك، سجلت العلاقات السورية الأميركية تطورًا حذرًا، تمثل بلقاء جمع مساعدة وزير الخارجية الأميركية باربرا ليف بالرئيس السوري أحمد الشرع في دمشق، إضافة إلى زيارة عضو الكونغرس كوري لي ميلز، الذي بحث مع القيادة السورية ملفات التعاون الأمني ورفع العقوبات.
وبحسب بيان رسمي، جرى خلال لقاء الشرع ميلز التطرق إلى “التهديدات المشتركة التي تواجه البلدين، بما فيها الميليشيات العابرة للحدود وانتشار المخدرات”، كما ناقش الطرفان أثر العقوبات الأميركية، وسط دعوات سورية لـ”رفع هذه الإجراءات غير القانونية كخطوة أساسية نحو بناء الثقة”.
ويقول البغدادي: “ما تحتاجه سوريا اليوم ليس مجرد مساعدات مالية، بل اعتراف بأن الشعب هو مصدر الشرعية الوحيد، وأن أي مشروع تعافٍ حقيقي يجب أن ينبني على أدوات تمثيلية نزيهة.”
فرصة أم اختبار؟
في ضوء ما تقدم، تبدو سوريا اليوم أمام مفترق طرق تنموي وسياسي. إذ تلوح الفرص الدولية في الأفق، لكن واقع السيادة والتمثيل لا يزال عالقاً في التجاذبات. وبين دعم مشروط ومؤسسات قيد التشكيل، ينتظر السوريون انفراجات ربما تكون مرهونة بدفعة “عربية” متفائلة بالتغيير الجديد بسوريا.
اقرأ أيضاً|| من 12 بنداً.. تفاصيل خطة دولية جديدة بشأن سوريا “تُطبخ” في أروقة الأمم المتحدة
المصدر: وكالة ستيب الاخبارية