اخر الاخبار

“التفكير الصفري” بعد حكم الوحوش في سوريا

أحمد عسيلي

شهد المجتمع السوري خلال الأسبوع الماضي ثلاثة حوادث مهمة، كانت محور حديث السوريين، سواء في الواقع، أو على وسائل التواصل الاجتماعي.

الحدث الأول تصريح السيدة عائشة الدبس، رئيسة مكتب شؤون المرأة، في مقابلة مع قناة “TRT”، حين قالت، “إذا كان الدعم يدعم النموذج الذي نبنيه فأهلًا وسهلًا، لكنني لن أفتح المجال لمن يختلف معي بالفكر. عانينا من المنظمات التي كانت لها أجندات مضرة بأطفالنا ونسائنا، إذ كانت تقدم برامج غير ملائمة نتجت عنها نتائج كارثية”. وكانت هنا تتحدث عن المنظمات الغربية التي تطرح أفكارًا ومشاريع ذات مضمون أخلاقي غربي، ترى الدبس أنها لا تتلاءم مع المجتمع السوري، وقد رأى الكثيرون فيها تصريحات إسلامية متزمتة، فيها نفي لوجود الآخر، وخصوصًا اقتطاع جملة “لن أفتح المجال لمن يختلف معي بالفكر” من سياقها، لتصبح “تريند” لدى السوريين (يشاركها هذه الرؤية أيضًا بعض تيارات اليسار المتطرف وحراك ما بعد الاستعمار، لكن لم يطرح أحد هذا الرأي نتيجة محدودية انتشار هذا التيار في عالمنا العربي).

الحدث الثاني كان محاولة قوات النظام الجديد دخول محافظة السويداء، دون تنسيق مع قيادات المحافظة، ما أدى إلى رفض الشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية، لهذا الإجراء، فاحترمت القيادة موقف الهجري وأهالي المحافظة، وعادت إلى دمشق مؤجلة هذه العملية (خطوة عدّها أهل الساحل كيلًا بمكيالين).

الحدث الثالث والأهم، والذي شغل معظم كتابات السوريين، كان خطة وزارة التربية لتعديل بعض الفقرات في المنهاج الدراسي، منها حذف اسم زنوبيا كإحدى البطلات العربيات من مادة التربية الدينية، بالإضافة إلى تغييرات أخرى، بعضها رفض بشدة من مختلف الناس (كحذف مادة تطور الدماغ في مقرر العلوم)، وبعضها إشكالي في كتابة التاريخ، كالحكم على العثمانيين إن كانوا احتلالًا أم لا، وهي قضية خلافية بين الكثير من المثقفين، سواء من المتدينين أو العلمانيين، ولكل منهم أدلته وبراهينه.

هنا أيضًا، لن أخوض في صحة أو خطأ أي موقف، فهي بالنهاية قضايا شائكة، ولها أبعاد متشعبة، بل سأتناول الموضوع من زاوية أسلوب تعاطي الرأي العام معها (أصبح لدينا وأخيرًا رأي عام)، وطريقة التفكير السائدة حاليًا في المجتمع السوري، لتحليل سبب هذا الأسلوب في التفكير والعوامل التي أدت إليه.

أول ما يلفت النظر في ردود الفعل، وبعد قراءة أكبر عدد ممكن من الكتابات والأحاديث المتداولة، فإن هناك طريقة تفكير سائدة حاليًا، أقرب ما تكون لـ”التفكير الصفري”، بمعنى أن الحكم على الأشياء يكون دومًا بالنصر أو الهزيمة، الواحد أو اللاشيء، وهي طريقة تفكير مستمدة أساسًا من الألعاب، ففي كل لعبة هناك منتصر ما، وأي نصر لفريق يعني حتمًا هزيمة للفريق الآخر، فحين تلعب إيطاليا وفرنسا مثلًا في كرة القدم، ونقول إن فرنسا فازت، فهذا يعني حكمًا أن إيطاليا هزمت، لا مجال هنا لحل آخر، مع أنه حتى في الألعاب، لو كانت لدينا رؤية أوسع، قد لا تكون خسارة فريق تعني خروجه من السباق، فأحيانًا تتوقف النتائج على مباراة أخرى، وأحيانًا يكون التأهل محسومًا بنتيجة نتائج بقية الفرق، لكن في اللعبة الواحدة هناك إما منتصر أو مهزوم، والإحساس بأي خسارة يوحي بالخسارة الشاملة وضياع كل شيء.

وقد دلت الدراسات والأبحاث النفسية على أن هذا الشكل من التفكير يزداد كلما تدهور الوضع الاقتصادي والسياسي في الدول، وبالتالي ازدياد الإحساس بعدم الأمان، والعكس بالعكس، يقل كلما ازداد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وفي حالتنا السورية، فإن هذا التهويل يعتبر طبيعيًا في مجتمع خرج للتو من الجحيم، بعد أكثر من نصف قرن من حكم الوحوش، لذلك يسيطر علينا الخوف وكأن العودة إلى هذا الجحيم ممكنة مرة أخرى، سلوك نشاهده أيضًا عند الناجين من ضحايا العنف والاغتصاب والتعذيب في السجون، فيمكن لأي لمسة حتى لو كانت بريئة، أن تثير الذعر عند الضحية، هذا الخوف من المستقبل ومن أي فعل يقوم به النظام الجديد، موجود حتى عند المثقفين والكتّاب، فقد قرأنا الكثير خلال الأيام الماضية عن هواجس “حرب أهلية شاملة”، بينما استحضر الكثيرون لغة وسلوك النظام السابق بعد حديث الدبس، مستعيدين بعض كلمات متل عودة التشبيح وعودة نظام الأسد بشكل مختلف، وحركة تصحيحية أخرى ونظام دكتاتوري جديد، بل وذهب البعض لمدى أبعد ليتحدث عن مستقبل مظلم وكوارث وقتل، لمجرد تغييرات في مناهج الدراسة أو تصريح صحفي لرئيسة شؤون المرأة أو تنسيق لعملية دخول مدينة لم يجرِ فيها أي احتكاك ولا قتل (جرت عمليات قتل في السويداء في نفس الفترة، لكن بظروف مختلفة ليس هنا مكان نقاشها، وإنما ذكرتها لرسم الصورة كاملة).

هذا التفكير يكاد ينعدم تقريبًا كلما استقرت الدول وازدادت ثقة الناس بهذا الاستقرار. كحالة فرنسا مثلًا، وهي جمهورية مستقرة منذ عهد الجمهورية الثالثة عام 1875 (بعد أحداث كومونة باريس)، لذلك ورغم كل الصدمات التي تلقاها الشعب في عهد ماكرون، وصلت إلى مرحلة عدم الاستماع لرأي الأغلبية حول قانون التقاعد، وتجاهل عرضه حتى على البرلمان، في سابقة تعتبر نادرة جدًا في السياسة الفرنسية، لم يفقد الناس الثقة في ديمقراطية البلاد، ورغم أنه سمى رئيس وزراء من التكتل الرابع في البرلمان، في سابقة تعتبر أيضًا الأولى في عمر الجمهورية الخامسة، دون أي اهتزاز للثقة.

وهذا لا يعبر عن اختلاف في عقلية الشعبين، بل للظروف التي حكمت كلا البلدين، فلا خوف عند الفرنسيين من دكتاتور قادم، ولا من “صيدنايا” جديد، بينما ما زالت كل هذه الذكريات حاضرة في ذاكرة السوريين (إن كنا نستطيع أن نقول عنها ذاكرة، وليس حاضرًا).

فهذا الأسلوب في التفكير وإن كان خطيرًا على المدى البعيد، لكنه طبيعي جدًا في السياق الحالي، لفقدان الأمان والثقة، نتيجة القرب الزمني من لحظة انهيار النظام البائد، وفشل معظم التجارب الديمقراطية في منطقتنا بعد الربيع العربي (هنا الضغط النفسي مضاعف)، لذلك فإن أي حدث مهما كان صغيرًا يفسره السوريون بقرب انهيار تلك التجربة، لذلك فالجميع بحاجة إلى الوقت لنسيان مآسي تلك العائلة المجرمة، وللكثير من الإنجازات لتحقيق الثقة في النفس والقدرة على بناء وطن ديمقراطي، عندها فقط يخف هذا التشنج في المواقف ويصبح التواصل أكثر صحية فيما بيننا.

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.

المصدر: عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *