“التكويع” لدى أبناء الساحل.. قراءة سلوكية
أحمد عسيلي
وأخيرًا سقط الدكتاتور، ورحلت تلك العائلة المجرمة، لتأخذ مكانها المناسب في قعر مزبلة التاريخ.
كان أسبوعًا حافلًا على السوريين جميعًا، اختبروا به الأحاسيس كلها، من الترقب والمتابعة لسير المعارك، إلى الفرح بالانتصارات المتتابعة لغرفة العمليات المشتركة، ذهولًا من ضعف النظام وهرب شبيحة كان يعتقد الكثيرون أنهم أكثر عنادًا من ذلك، إلى فرح يشوبه الحذر، ثم فرح وقلق من تغير قد يحدث في اللحظات الأخيرة، ثم فرح تام، وخروج للاحتفال في الشوارع، لتمزيق صور وتماثيل الأسد، وسط مزيج مختلف من مشاعر مختلطة، لم يختبروها من قبل، هي إحساس بالحرية، وزوال جبل ثقيل من الخوف، كان يجثم على قلوب الملايين من السوريين، حتى من هم بالخارج، لأن لمعظمهم أهالي وأحباء كانوا أشبه بالرهينة عند النظام السابق (وما أجملها من كلمة، النظام السابق، ولن نكتب السوري لأنه لم يكن سوريًا يومًا).
رافق تلك الأحداث المفصلية في تاريخنا بعض الظواهر السلوكية، التي شغلت السوريين خلال الأيام الماضية، والتي أسلط الضوء عليها تباعًا خلال الأسابيع المقبلة، أهمها، وهو ما سأناقشه في مادة هذا الأسبوع، تلك الظاهرة التي أطلق عليها “التكويع”، أي الانقلاب السريع، من مؤيدين للنظام السابق، وحتى شبيحة له، ليصبحوا وبسرعة قياسية، أي خلال عدة ساعات، مؤيدين للتغيير، بكل ما رافق هذا التحول من كوميديا، لأن الكثير من الصفحات التي كانت تنشر تهديدات، وتحتفل بنصر الأسد، حتى مساء السبت، تحولت للاحتفال بالانتصار، لكن انتصار الطرف الآخر هذه المرة، صباح الأحد، دون أي محاولة لقراءة ما حدث، أو مراجعة فكرية، أو أي شكل من أشكال النقد الذاتي، وهنا لن أتحدث عن بعض الفنانين أو الكتاب، المستعدين دومًا لركوب أي موجة، فليس لدى هؤلاء غالبًا أي موقف سياسي أو أخلاقي، ولا يستحقون أصلًا دراسة نفسية خاصة، فهم موجودون بكل زمان ومكان، وسبق وكتب عنهم سابقًا في أماكن عديدة لأنهم حالة مكررة جدًا حد الاشمئزاز، بل أتحدث هنا تحديدًا، عن بعض أبناء ساحلنا السوري.
ربما لا يعرف الكثيرون من أبناء دمشق أو غيرها من المدن السورية شيئًا عن هذا المجتمع، فالصورة المرتسمة لهم، هي بكل بساطة، ضابط الجيش والمخابرات، أو عنصر الأمن الشرس (هي صورة عززها وعن قصد إعلام الأسد)، وهو اختصار مخلّ لمجتمع كامل، لكنه صحيح من حيث تأثير هذه النسبة الصغيرة على طريقة عيش وتفكير المجتمع ككل، فالأسد قام بعسكرة المجتمع الساحلي منذ عشرات السنين، هذه العسكرة لم تشمل فقط من تطوع بالجيش، لأن هذا المتطوع لديه عائلة وامتداد اجتماعي، وسيمارس على عائلته سلوكه العسكري نفسه، لتشمل العسكرة المجتمع ككل، وخاصة أننا هنا وتحديدًا في الساحل، لا نتحدث عن شخصين أو ثلاثة، أو مئة أو ألف، بل لا تكاد توجد هناك قرية ساحلية لا تحوي العشرات من هؤلاء العسكريين ذوي السلوك العسكري (بكل ما لهذا السلوك من قسوة، ومطالبة بالطاعة العمياء)، هو سلوك تناقلته الأجيال، فالتطوع في الجيش، بجميع أجهزته، كان المشروع الشخصي والمهني للكثيرين من أفراد ذلك المجتمع، بل هو “المصير المحتوم” لكل شباب هذه العوائل، بحكم انسداد أفق التجارة والسياحة في تلك المناطق (رغم امتلاكها لكل مقوماته)، لكن الأسد أحكم الخناق على جميع الناس في هذه المنطقة، وأغلق عليهم جميع أفق العمل، حتى يصبحوا جزءًا من خزانه البشري (وهذا ما كان للأسف)، ما جعل الكثير من الناس في الساحل تابعين وبشدة للسلطة، لا عن قناعة أو مصلحة، بل عن خوف، وربما تكون كلمة خوف غير وافية بالغرض هنا، فهي حالة رعب وهلع دائم، وهنا لا أتحدث عن الضباط الكبار الذين سرقوا واستغلوا الوضع، والذين لا تتعدى نسبتهم 1% من نسبة هؤلاء الناس، بل عن الأغلبية التي بقيت ترزح تحت معاناة الفقر والرعب الدائم.
هذا الانصياع للسلطة ليس عائدًا لخنوع أو لعوامل ثقافية، بل لعنف دكتاتورية الأسد تحديدًا، لدرجة أصبح الخلاص من الأسد هو رغبة الناس الدفينة، التي لم يستطيعوا حتى قولها لأنفسهم (ربما هنا نفهم الفيديو الذي انتشر خلال الساعات الأولى لوصول قوى الثورة، حين كان أحد عناصر “الجيش الوطني” يطمئن إحدى قرى الساحل، فصرخ صوت كله لهفة ووجع بأننا “والله احنا كنا ناطرينكم”، صوت واحد نطق بما يخاف حتى من الشعور به أبناء قريته) فأهل الساحل وإن استطاعوا التغلب على الخوف، فهم عاجزون عن إيجاد فرص أخرى للعمل أو الحياة. بمعنى أدق، كانوا محاصرين بالخوف ولقمة العيش، حصارًا تامًا ومقصودًا، وهو حصار بالتأكيد ما زال موجودًا إلى الآن، فلا مكسب لهم إلا الوظيفة التي ترتبط مباشرة بأجهزة الحكم.
هذا الخوف المبالغ فيه تجاه السلطة بقي، وانتقل إلى السلطة الجديدة، وقد أشار إلى هذا عادل محفوض، وهو سوري معارض للنظام منذ الثمانينيات، تعرض للاعتقال عدة مرات، وهو من أبناء الطائفة العلوية الذين بقوا في طرطوس طيلة فترة الثورة، فقد حاول بعد النصر النقاش مع بعض جيرانه ومعارفه حول مستقبل البلاد بعد هذا الانتقال للسلطة، ففوجئ بمدى الخوف الذي ما زال يسيطر عليهم، خوف ورثته السلطة الجديدة رغم عدم مسؤوليتها عنه، فقد أبقوا على خوفهم رغم محاولته تشجيعهم على إبداء رأيهم، لكننا هنا نتحدث عن 50 سنة من تحكم أكثر السلطات همجية بهم، فهل نستغرب بعد هذا الخوف المبالغ فيه من أي سلطة قائمة، وتحولهم السريع لموالاتها؟
الآن هم بحاجة لبعض الوقت، لنزع هذه العسكرة الاجتماعية كي يندمجوا في المجتمع المدني، لذلك فإن إقامة مشاريع سياحية وتجارية، وإتاحة الفرصة لأبناء الساحل للعمل وكسب المال، وإفساح مجالات أخرى أمامهم غير مجالات الجيش والأمن، سيساعد في تخلصهم من إرث الأسد المظلم، وإعادتهم إلى الحياة السياسية، ومشاركتهم بشكل فعال، بعيدًا عن أي خوف.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية
أرسل/أرسلي تصحيحًا
مرتبط
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي