التنازل التجاري أمام أميركا تمهد طريق الهند مكاسب استراتيجية

بعيداً عن احتفاء وسائل إعلام هندية بالتقارب الذي ساد زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى واشنطن ولقائه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وإشارتها إلى إمكانية وجود “زخم قوي” في العلاقات الهندية – الأميركية، إلا أن العديد من خبراء السياسة الخارجية يتوقعون أن تواجه نيودلهي مشكلات عدة، محذرين تحديات مستقبلية لنيودلهي مع إدارة ترمب.
ويعد مودي ثاني زعيم، بعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يزور البيت الأبيض ويلتقي ترمب بعد تنصيبه في ولاية رئاسية ثانية، كما وقع البلدان عدداً من الاتفاقيات بعد محادثات أجراها الزعيمان، ولكن ذلك جاء بعد ساعات فقط من انتقاد الرئيس الأميركي لظروف العمل التي توفرها الهند للشركات الأميركية، كاشفاً عن خارطة طريق للتعريفات الجمركية المقرر فرضها على بضائع الهند.
واتفقت الهند والولايات المتحدة على بدء محادثات لإبرام اتفاقية تجارية مبكرة وخفض حدة المواجهة بينهما بشأن التعريفات الجمركية، ووعدت نيودلهي بشراء المزيد من النفط والغاز والمعدات العسكرية الأميركية ومكافحة الهجرة غير الشرعية، في ما بدا أنه نجاح جديد لترمب في عقد صفقات مُربحة، ذات عائد مادي لبلاده وللشركات الأميركية، بعد ممارسة الضغوط على الأطراف المعنية.
وبعد المؤتمر الصحافي للزعيمين والمعلومات التي تصدرت وسائل الإعلام، بدا الأمر على الفور أن ترمب ربما دعا مودي إلى البيت الأبيض لإجراء محادثات حول الدور المهم للهند في الشراكات العالمية.
رعاية المصالح الأميركية أو عُزلة الهند
وفي هذا السياق، حث أحد الخبراء الهنود خلال تصريحات لـ”الشرق”، حكومة بلاده، على تقديم بعض التنازلات في العلاقات الاقتصادية والتجارة والتعريفات الجمركية، في مقابل الحصول على بعض النفوذ على الجبهة الاستراتيجية.
وفي هذا الصدد، قال السفير الهندي السابق، محمد أفضل، الذي مثّل بلاده في أكثر من دولة، لـ”الشرق”، إن الهند ستواجه تحديات ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، ولكن أيضاً في الشؤون الاستراتيجية.
وأوضح أفضل، أن “العلاقات الجيوسياسية ليست أولوية لدى ترمب، فبالنسبة إليه، تعتبر الفوائد التجارية والتجارية مسألة مهمة، وبالتالي فإن الهند ستواجه العديد من التحديات في الأيام المقبلة”، متوقعاً أن تتأثر “العلاقات الاقتصادية والجيوسياسية”، مضيفاً أن “الأمر متروك لحكومة مودي، وكيف ستتعامل مع هذه القضايا”.
واعتبر أنه “من السابق لأوانه أن نقول ما سيحدث، ولكن في غضون شهر واحد في السلطة، أصبحت التأثيرات واضحة وحكومة مودي تحاول السيطرة على الأضرار”.
لكن الحكومة الهندية تقول إنها واثقة من قدرتها على العمل مع إدارة ترمب الجديدة، وهي تجري بالفعل محادثات مع السلطات الأميركية وستتوصل الدولتان قريباً إلى اتفاقية تجارية شاملة.
ومع ذلك، فقد بدا واضحاً أنه طُلب من مودي أن يشرح أن الأمور تغيرت، وأن أولويات الإدارة الجديدة مختلفة، وإذا كانت نيودلهي لا تريد أن تكون معزولة، فسيتعين عليها رعاية المصالح الأميركية في التجارة، وكذلك أخذ التعاون الدفاعي مع واشنطن، في الاعتبار.
من هنا، يتوقع ألّا تنحصر تحديات نيودلهي مع واشنطن في قضايا التعريفات الجمركية أو التجارة أو الاقتصاد، إنما ستتعدّاها، إلى تحديات أخرى أكثر مما واجهته في ولاية ترمب الأولى.
ومر 40 يوماً فقط منذ عودة ترمب إلى البيت الأبيض، وفي هذه الفترة القصيرة من الزمن، يمر العالم بالعديد من الاضطرابات الجيوسياسية والاقتصادية، والتي تحظى الهند بنصيب فيها، إذ يتوقع أن تنعكس آثارها عليها، ويتمثل التحدي الأول في هو كيفية استقرار الاقتصاد المتباطئ.
وبعد عودة مودي من الولايات المتحدة، أوضح ترمب مراراً أن التعريفات الجمركية تعتبر قضية مهمة في العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين، إذ قال ترمب خلال مؤتمر صحافي: “نحن نتعامل بالمثل مع الهند. أياً كانت الرسوم التي تفرضها الهند، فإننا سنفرضها عليها”.
ويعكس ذلك أن سياسات الرئيس الأميركي قد تخلق تحديات لتدفقات التصدير في القطاعات الهندية الرئيسية، وقد تشكل سياسة الهجرة الأميركية أيضاً تحدياً لقطاع تكنولوجيا المعلومات والاستعانة بمصادر خارجية في الهند، ما يتطلب تنويع هذه الأنشطة.
بدوره، قال المؤلف والكاتب البارز في الشؤون الخارجية في الهند، براكاش بهانداري، لـ”الشرق”، إن “الولايات المتحدة في مزاج حازم، ويجب على الهند أن تخلق جواً مناسباً وأن تتنازل، هذا هو الطريق إلى الأمام. يجب أن تقبل الحقائق الجديدة وتمضي قدماً، هذا ما تحاول نيودلهي القيام به”.
وتشير الدلائل إلى أنه في غضون بضعة أشهر، سيتم حل القضايا الاقتصادية مع الولايات المتحدة؛ ومع ذلك، فإن التغييرات الجديدة تزيد من عدم اليقين في تدفقات التجارة البينية، ما يؤثر على ثقة المستثمرين.
ويضاف إليها المخاوف بشأن تدفقات رأس المال خارج البلاد، بسبب قوة الدولار الأميركي، بينما عكست الأسواق الهندية أيضاً مخاوف بشأن التأثير الاقتصادي والجيوسياسي المحتمل لسياسات إدارة ترمب.
مبادرة المحيطين الهندي والهادئ
وهناك ضجة مفادها أن المصالح التجارية والاقتصادية للولايات المتحدة قد تضر بتجارة الهند، لكن تلك التجارة يمكن أن تزدهر عبر الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
وقد تُثبت الهند أهميتها في استراتيجية الرئيس الأميركي لمواجهة الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والتي يراها الكثيرون في إدارته المنافس، الرئيسي للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه، تشعر الهند بالقلق من الحشد العسكري للصين المجاورة، وتتنافس معها على العديد من نفس الأسواق.
لكن الخبراء في نيودلهي يشككون في ارتباط شركات الدفاع بمصالح الولايات المتحدة البحتة، إذ قال كالول باتاتشيرجي، الخبير في الشؤون الاستراتيجية والخارجية، إن ترمب يعمل وفق شعاراته المتمثلة في “جعل أميركا عظيمة مجدداً” و”أميركا أولاً”.
وأضاف، خلال تصريحات لـ”الشرق”، “العامل المهم بالنسبة للهند هو أن ترمب يركز على مدى تأثير العلاقات الاقتصادية والتجارية والعسكرية على رفاهية أميركا، ولكن من منظور هندي، سيتعين على نيودلهي أن تنظر إلى مصالحها وسياساتها الخارجية”.
ومجال المحيطين الهندي والهادئ، نشأ في عام 2017، خلال إدارة ترمب الأولى، وكان الهدف منه التعاون الاستراتيجي في ذلك الوقت، وتم تسليط الضوء على العديد من العوامل المختلفة في تلك المبادرة الواحدة، مثل عامل الصين، والعلاقة الجديدة بين الولايات المتحدة والهند واليابان وما إلى ذلك.
ولكن باتاتشيرجي يرى هذا المجال “غير مؤكد حالياً”، إذ كانت هذه نظرة استراتيجية شاملة للعمل معاً، وهكذا تم إطلاق Indo Pacific. ولكن في ظل إدارة ترمب الحالية، أصبحت مؤسسة Indo Pacific تجارية بالكامل.
والآن يؤكد ترمب أن Indo Pacific على ما يرام، و”لكن يجب دعمها بشكل أساسي من خلال المصلحة الاقتصادية”.
ويتفق براكاش بهانداري مع باتاتشيرجي، مشيراً إلى أنه “على مدار الشهر الماضي، شوهدت تغييرات هائلة، وفي الوقت الحالي يبدو أن جوهر كيان Indo Pacific قد فقد بريقه، والآن ما يهم هو مصلحة أميركا فقط. ولكن من السابق لأوانه قول أي شيء عن مستقبلها”.
واعتبر باتاتشيرجي، أن “لكل علاقة حدودها، لذلك إذا أخذت تلك العلاقة مع الولايات المتحدة إلى هذا الحد، فهذا يعني أنك لم تتوقع أن يكون هناك تغييراً مفاجئاً في هذا المسار من قبل الإدارة الأميركية. هذا يعني أنه عندما أطلقت (مبادرة المحيطين) الهندي والهادئ في عام 2017، لم تكن تتوقع أن يصل إلى هذا المستوى”.
صفقة مقالات F-35
وفي مؤتمر صحافي مشترك في البيت الأبيض، أشاد ترمب ومودي ببعضهما البعض، واتفقا على تعميق التعاون الأمني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في إشارة مبطنة إلى المنافسة مع الصين، بالإضافة إلى بدء الإنتاج المشترك لتقنيات تكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي.
وقال ترمب خلال المؤتمر الصحافي المشترك: “نحن نمهد الطريق لتزويد الهند في النهاية بمقاتلات F-35، كما قال إن الهند ستشتري معدات عسكرية من الولايات المتحدة بموجب صفقة دفاعية وأن الولايات المتحدة ستبيع للهند أحدث طائراتها المقاتلة من طراز F-35”.
وقد تم تفسير هذا التصريح من قبل الرئيس الأميركي في وسائل الإعلام الهندية على أنه نجاح كبير في العلاقات الدفاعية بين الولايات المتحدة والهند، ولكن أحزاب المعارضة والعديد من خبراء الدفاع في الهند وصفوا عرض ترمب بأنه “ضغط من الولايات المتحدة”، وأثاروا تساؤلات حول فائدة هذه الطائرة المقاتلة للقوات الجوية الهندية.
وتجدر الإشارة إلى أنه قبل زيارة مودي إلى الولايات المتحدة، لم تبد الهند أي اهتمام بشراء هذه الطائرة، ووفقاً لخبراء الدفاع، فإن هذا العرض الذي قدمه ترمب أحادي الجانب على ما يبدو.
وأثيرت العديد من الأسئلة في الهند بشأن هذا الأمر، فقد وجه زعيم حزب المؤتمر المعارض رانديب سينج سورجيوالا، أسئلة عدة إلى حكومة مودي بشأن شراء مقاتلات من طراز F-35.
في منشور على منصة “إكس”، سلط سورجيوالا الضوء على قضايا مثل العيوب التشغيلية للطائرة الشبحية F-35، وكلفتها المرتفعة، والفشل في تأمين نقل التكنولوجيا للإنتاج المحلي.
وأضاف: “هل نظرت حكومة مودي في جوانب شراء مقاتلات F-35 وفي المصلحة الوطنية قبل اتخاذ قرار أحادي الجانب بشراء طائرات F-35 بناءً على طلب الرئيس ترمب”.
ويرى الخبراء أن طائرة F-35 باهظة الثمن، فيما يعتقد سلاح الجو الهندي أنها ليست ضرورية الآن، لكن أميركا تريد بيعها للهند، وهذا هو السبب وراء انتقاد حزب المؤتمر المعارض لحكومة مودي.
وسأل الحزب: “هل تريد القوات الجوية الهندية شراء طائرات مقاتلة من طراز F-35، بما يتوافق مع مصالح البلاد الدفاعية؟ هل تم أخذ رأي القوات الجوية؟ لماذا لم تقم لجنة طياري القوات الجوية الهندية وخبراء الدفاع بالتحقيق والتوصية بشراء تلك المقاتلات؟”.
وعند سؤاله عما إذا كانت الهند وافقت على شراء طائرات F-35 من أميركا بعد إعلان ترمب، قال وزير الخارجية الهندي فيكرام ميسري في مؤتمر صحافي، إن القضية “كانت مجرد اقتراح في هذه المرحلة، دون أي عملية رسمية جارية”.
ويرى خبراء في نيودلهي أن F-35 كانت لتكون مفيدة للهند في السابق، لكنها تبحث عن أفضل طائرة بدون طيار وتكنولوجيتها بدلاً من مثل هذه الطائرات المقاتلة باهظة الثمن.
الهجرة.. التحديات والفرص
وبينما كان مودي لا يزال مشغولاً في واشنطن، لتحديد موقفه بشأن مختلف القضايا الخلافية، كانت رحلات المهاجرين الهنود غير الشرعيين المقيدين في طريقها لترحيلهم إلى الهند.
ويريد ترمب المزيد من المساعدة من الهند بشأن الهجرة غير الشرعية، إذ تعد الهند مصدراً رئيسياً للمهاجرين إلى الولايات المتحدة، بما في ذلك العدد الكبير من العاملين في صناعة التكنولوجيا بتأشيرات عمل، وآخرون بشكل غير قانوني.
وذكر البيان المشترك، أن البلدين اتفقا على معالجة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر بقوة من خلال تعزيز التعاون في إنفاذ القانون.
ويرى الخبراء، أن مودي يخشى أن يبرم ترمب صفقة مع الصين تستبعد الهند، وأن هذا العامل يفرض الكثير من الضغوط على نيودلهي.
وفي مؤتمر صحافي مشترك مع مودي عُقد في فبراير الماضي، قال ترمب إن إدارته مستعدة لتقديم المساعدة لإصلاح العلاقات بين بكين ونيودلهي، لكن الهند اختارت رفض عرض الرئيس، وأكدت أنها ستتعامل مع مثل هذه القضايا من خلال نهج ثنائي.
ويرى السفير الهندي السابق محمد أفضل، أن “المشهد الجديد مثير للاهتمام للغاية بالنسبة للهند، فهو يطرح بعض التحديات من جانب الولايات المتحدة، فضلاً عن الفرص الجديدة لتوسيع آفاقها، والآن الأمر متروك لحكومة مودي لكيفية التنقل في مسارات جديدة”.
وأعرب بهانداري، الكاتب المتخصص في الشؤون الخارجية، عن اعتقاده بأن “الوقت حان للتكيف، وتقديم بعض التنازلات والمضي قدماً”.
وأضاف: “لا تستطيع الهند تحمل الخسارة أمام الجانب الأميركي، لذا سيتعين عليها البحث عن تقديم تنازلات أكبر للأميركيين، في العلاقات الاقتصادية، والتجارية على وجه الخصوص، والتعريفات الجمركية، وما إلى ذلك، والحصول على بعض النفوذ على الجبهة الاستراتيجية”.
بدوره، اقترح كالول بهاتاشيرجي، أن التحولات السياسية الرئيسية، مطلوبة من نيودلهي لمعالجة السياسات.
وأضاف: “سيتعين علينا الانتظار ومراقبة كيف تتقدم العلاقات الهندية الأميركية، إنه وقت حاسم، وقول أي شيء بعبارات معينة أمر مبكر بعض الشيء. سيسعى ترمب إلى تحقيق أجندة أميركا أولاً، بمعزل عما إذا كانت تتعارض مع مصالح الهند، أو أي دولة أخرى في العالم، والأمثلة على مضيّه في هذه السياسة كثيرة، من كندا، إلى أوكرانيا وصولاً إلى الصين”.