اخر الاخبار

الجزائر وفرنسا.. تحركات دبلوماسية لرأب الصدع رغم ملفات عالقة

بعد أشهر من توتر العلاقات بين الجزائر وفرنسا، والذي ارتقى إلى حد تبادل الاتهامات، يسعى البلدان حالياً إلى رأب الصدع بينهما وفتح فصل جديد من التعاون.

وأعلن وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، استئناف أوجه التعاون كافة بين البلدين، وذلك في أعقاب لقائه مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مؤكداً أن بلاده “ترغب في طي صفحة التوتر مع الجزائر”.

‎وأضاف الوزير الفرنسي، في بيان، بعد محادثات استمرت ساعتين ونصف الساعة: “نعود إلى الوضع الطبيعي، ولنكرر كلمات الرئيس (عبد المجيد) تبون، فقد رُفع الستار” من أجل “إعادة بناء حوار هادئ”، مشيراً إلى أن “الجزائر وعدت بمنْح الشركات الفرنسية، بما فيها العاملة في القطاع الزراعي، دفعة جديدة من القوة”.

‎وبدأ بارو، في وقت سابق الأحد، زيارة إلى الجزائر بدعوة من نظيره الجزائري أحمد عطاف، والتي جاءت على خلفية مكالمة التهدئة بين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأسبوع الماضي.

‎وتُعد هذه الزيارة الأولى لمسؤول فرنسي رفيع المستوى إلى الجزائر منذ اندلاع الأزمة الدبلوماسية بين البلدين، على خلفية إعلان ماكرون دعمه لمبادرة الحكم الذاتي التي يطرحها المغرب بشأن قضية الصحراء.

‎عودة حذرة

‎اعتبر عضو مجلس النواب الجزائري، زكريا بلخير، أن الأزمة الدبلوماسية مع باريس، لم تُنهها زيارة وزير الخارجية الفرنسي، بل هي مجرد محاولة للتقدم خطوة إلى الأمام بعد قطيعة دامت عدة أشهر، بهدف العودة إلى “الوضع الطبيعي”.

‎وقال بلخير في تصريحات لـ”الشرق”، إنه “من الصعب استرجاع العلاقات إلى ما كانت عليه سابقاً، وذلك بالنظر إلى تعقيدات الأزمة وتداخلاتها العميقة”.

‎واعتبر أن حرص باريس على طي صفحة التوترات “يبدو أمراً طبيعياً”، خاصة وأنها “أصبحت الطرف الأكثر تضرراً لا سيما اقتصادياً”، لافتاً إلى أن “فرنسا فقدت جزءاً كبيراً من السوق الجزائرية التي استحوذت عليها دول منافسة”.

يُذكر أن حجم الاستثمارات الفرنسية في الجزائر لا يتجاوز 2.5 مليار دولار، وفق آخر الإحصائيات.

‎من جانبه، قال عضو لجنة الشؤون الخارجية والنائب عن الجالية الجزائرية في باريس، عبد الوهاب يعقوبي، إن العلاقات بين الجزائر وفرنسا مرت بمرحلة اضطراب غير مسبوقة، وتوتر حاد لم يعرفه البلدان من قبل.

‎واعتبر يعقوبي في حديثه لـ”الشرق”، أن “الخطوة الأخيرة قد تُمثّل بداية لعودة تدريجية نحو علاقات دبلوماسية طبيعية، تمهيداً لتسريع وتيرة إعادة السفير الجزائري إلى باريس”.

‎ونبّه إلى أن هذه العودة تحمل طابعاً ملحاً بالنظر إلى الوضع الحساس للجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا، والتي كانت في الآونة الأخيرة هدفاً لهجمات من قِبَل اليمين المتطرف، على حد قوله.

‎وأكد يعقوبي أن إعادة العلاقات الدبلوماسية إلى إطارها الطبيعي، حتى وإن كانت في حدودها الطبيعية، “من شأنها أن تخفف حدة التوترات التي تغذيها بعض الأحزاب الفرنسية التي تفتقر إلى برامج سياسية واضحة”، وتلجأ إلى ما وصفها بـ”شيطنة الجزائريين”.

وأضاف أنه “على الرغم من أن عدد الأشخاص غير المرغوب فيهم لا يتجاوز العشرات، إلا أن الخطاب الموجه يستهدف ملايين الجزائريين، ما يفرض تحركاً دبلوماسياً جاداً لحماية الجالية والدفاع عن مصالحها”.

‎وفي منتصف شهر مارس، أعدّت باريس قائمة تضم أسماء جزائريين من أجل إبعادهم عن فرنسا، غير أن الجزائر رفضت القائمة باعتبار أن الجانب الفرنسي أخلَّ بالمعاهدات والاتفاقات القنصلية المبرمة بين الجانبين.

“اتفاقيات إيفيان”

وجدد وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو، في مارس الماضي، تهديده بالتنصل من اتفاق أبرمته بلاده مع الجزائر في عام 1968، يخص هجرة الجزائريين وإقامتهم في فرنسا.

وسبق أن هدّد رئيس الحكومة الفرنسية، فرانسوا بايرو، في فبراير الماضي، بمراجعة جميع الاتفاقيات الثنائية بين البلدين، بما في ذلك اتفاقية الهجرة المبرمة في عام 1968، في مهلة مدتها 6 أسابيع، ولكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قال في وقت لاحق إن هذه الاتفاقية من اختصاص رئيس الجمهورية، الذي له حق في النظر فيها.

ووقَّعت الجزائر وفرنسا الاتفاق في 27 ديسمبر 1968، وهو وثيقة من 8 صفحات تحدد تدابير وشروط دخول الجزائريين إلى فرنسا والإقامة فيها، والذي تم في إطار إعلان مبادئ “اتفاقيات إيفيان”، التي أنهت الحرب بين البلدين في 1962.

ونصَّت “اتفاقيات إيفيان” على حرية تنقل الأشخاص التامة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، أي أن الجزائريين يدخلون إلى فرنسا، دون تأشيرة ولا جواز سفر، كما يدخل الفرنسيون إلى الجزائر من دون قيود.

‎ملف حساس

في السياق ذاته، قال أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، زهير بوعمامة، في تصريحات لـ”الشرق”، إن من بين النقاط الإيجابية للزيارة أنها “ساهمت في احتواء التصعيد والتوتر الذي كانت تسعى إليه أطراف معينة في فرنسا”.

‎لكن بوعمامة، لم يُنكر وجود خلافات حقيقية وعميقة وملفات ذات وجهات نظر متباينة بين الجانبين، مشدداً على أن “التهدئة لا تعني بالضرورة نهاية هذه الخلافات”.

‎وبشأن التعاون القضائي بين البلدين، أشار إلى أنه “ملف بالغ الحساسية، خصوصاً وأنه استُغل من قبل (وزير الداخلية الفرنسي) برونو ريتايو واليمين المتطرف لتأزيم العلاقات”، على حد تعبيره.

‎ويرى أن تصريحات الرئيسين الجزائري والفرنسي بشأن استئناف التعاون القضائي على الفور، يعكس وعي الطرفين بضرورة معالجة الإشكالات المطروحة في هذا الجانب.

وبحسب بيان الرئاسة الجزائرية، اتفق تبون وماكرون، على “العمل سوياً بشكل وثيق وبروح الصداقة هذه بُغية إضفاء طموح جديد على هذه العلاقة الثنائية بما يكفل التعامل مع مختلف جوانبها، ويسمح لها بتحقيق النجاعة والنتائج المنتظرة منها”.

‎واعتبر بوعمامة، أن الجزائر كانت ولا تزال تتعاون مع فرنسا بشكل طبيعي، مشيراً إلى أن الجزائر استقبلت أكثر من 3 آلاف حالة، ومنحت التراخيص القنصلية اللازمة لإعادتهم إلى بلادهم.

وفيما يتعلق بالمطلوبين للعدالة الجزائرية المقيمين في فرنسا، أوضح أن الموقف الفرنسي مؤخراً كان رافضاً في قضية تسليم وزير الصناعة الجزائري السابق عبد السلام بوشارب المدان قضائياً بتهم فساد، إلى جانب أشخاص آخرين مدرجين ضمن قوائم القضاء الجزائري، ممن تُصنّفهم الجزائر “جماعات إرهابية”.

وقال بوعمامة، إن “فرنسا بالمقابل ما زالت توجّه دعوات بلفتة إنسانية بشأن الكاتب الفرنكو-جزائري بوعلام صنصال، الذي يعد ملفه شأناً قضائياً بحتاً، والجزائر ستعامل باريس بالمثل”.

وبوعلام صنصال كاتب وروائي جزائري يحمل الجنسية الفرنسية قضت محكمة جزائرية بسجنه 5 سنوات بتهمة “المساس بالوحدة الوطنية”، و”إهانة هيئة نظامية”، و”القيام بممارسات من شأنها الإضرار بالاقتصاد الوطني”، و”حيازة فيديوهات ومنشورات تهدد الأمن والاستقرار الوطني، مع مصادرة جميع المحجوزات”.

وعقب صدور الحكم، قال ماكرون في مؤتمر صحافي بباريس: “نأمل أن تكون هناك قرارات إنسانية من جانب أعلى السلطات الجزائرية لإعادة حريته والسماح له بالعلاج من المرض الذي يحاربه”.

وعبَّرت الخارجية الفرنسية عن أسف باريس للحكم الصادر عن محكمة جزائرية بحق صنصال، ودعت إلى “إنهاء هذا الوضع بسرعة، وعلى نحو يصون الكرامة”.

‎لقاءات مرتقبة

‎ومن المنتظر أن تشهد الأيام القليلة المقبلة زيارة وزير العدل الفرنسي جيرالد دارمانان إلى الجزائر، في إطار بحث ملفات التعاون القضائي بين البلدين، وفق ما أفاد به البيان المشترك الفرنسي-الجزائري، عقب مكالمة بين الرئيسين الجزائري والفرنسي.

‎ومن المتوقع كذلك أن ينعقد الاجتماع السادس للجنة المشتركة للذاكرة في باريس بعد استئناف نشاطها، إثر توقف دام لنحو 8 أشهر بسبب الأزمة.

‎وفي هذا السياق، أكد رئيس اللجنة الجزائرية للتاريخ والذاكرة، محمد لحسن زغيدي، أن “هذا اللقاء سيُعقد خلال الأيام المقبلة، وهو خطوة أولى نحو الاعتراف واسترجاع ما استولت عليه فرنسا خلال الحقبة الاستعمارية، من خلال تطبيق ما تم الاتفاق عليه في اللقاء الخامس بالجزائر”، على حد تعبيره.

وذكر زغيدي في تصريحات صحافية على هامش ندوة تاريخية، أن الاجتماع السادس للجنة الجزائرية-الفرنسية يأتي تنفيذاً لما تم الاتفاق عليه في المكالمة الهاتفية بين تبون وماكرون، “التي تميزت بوضوح الموقف الجزائري، واحتلت فيها قضية الذاكرة حيّزاً مهماً، لتكون منطلقاً مباشراً لاستئناف عمل اللجنة”.

‎وأضاف أن “اللقاء الخامس، الذي انعقد في الجزائر في مايو الماضي، أفضى إلى قرارات مهمة جداً بخصوص المسترجعات من الأرشيف وممتلكات أخرى تم الاستيلاء عليها خلال 132 عاماً من الاستعمار، ومن المنتظر أن تُنفَّذ هذه القرارات خلال اللقاء المقبل”.

ويمكن أن تمهد عودة الحوار بين الجزائر وفرنسا، لزيارة من تبون إلى باريس، أو زيارة لماكرون إلى الجزائر، بحسب ما جاء في بيان المكالمة الهاتفية بين الرئيسين.

تجدر الإشارة إلى أن تبون ألغى زيارة إلى باريس بسبب الأزمة التي اندلعت في يونيو الماضي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *