خطيب بدلة
أكبر إهانة توجه للإنسان، عندما يعتبره الآخرون رقمًا، مادة خامًا.. يضعونه في الفرن، كما لو أنه الحديد، يحمونه، ثم يطرقونه، ليصنعوا منه أداة يستخدمونها لأغراضهم السياسية، وبمجرد ما تنتهي الفائدة من هذه الأداة، يقذفونها في غرفة الكراكيب.
الأنظمة الدكتاتورية، ذات الأيديولوجيا القومية، بلغت ذروة الإبداع في صناعة الجماهير، من نظام عبد الناصر، إلى نظامَي صدام حسين وحافظ الأسد. هذه الآلية تقوم على مبدأ النظر إلى الإنسان/الفرد على أنه عديم الأهمية والقيمة، يمكن تحويله، عند الحاجة، إلى جزء من حشد يتجمع في ساحة عامة، أو يمشي في شارع محدد، والكاميرات ترصده وهو يهتف، يعيش الحاكم، ويعلن، بالفم الملآن، أنه يفديه بالروح، وبالدم، ويسب أعداءه، وخصومه، ومعارضيه.
أكذوبة الجماهير التي تعشق القائد، مكشوفة لجميع الأطراف، فالحاكم يعرف أنه لا يوجد بين “المليون” إنسان الذين يهتفون “بالروح، بالدم، نفديك يا فلان”، واحد يفديه بشيء، وكل فرد في هذا الحشد المسكين، عندما يختلي بالناس المقربين إليه، يمكن أن يصارحهم بأنه لا يفتدي القائد المذكور أعلاه ببابوجته العتيقة، وفي أثناء هذا الحديث، إذا بلغه أن ثمة حشدًا يتجمع، الآن، في الساحة الفلانية، يسارع للالتحاق بالكتلة الجماهيرية المسكينة، التي سيُنظر إليها، فور انتهاء هذه “الزنبريطة”، على أنها كركوبة، ستذهب، مباشرة، إلى غرفة الكراكيب.
الأنظمة الدكتاتورية لا تكتفي بإهانة جماهير الشعب، بإرغامهم على التظاهر بحب كاذب، وقول أشياء لا يعتقدون بها، فالأمر يتعدى ذلك إلى ضرب الجماهير التي يمكن أن تتظاهر احتجاجًا على سياساته، وارتكاب مجازر بحق المتظاهرين، ما يحدث ردود فعل غاضبة من المجتمع الدولي، الذي يبدأ، على الفور، بفرض عقوبات اقتصادية على الحاكم، وهذا، بدوره، يؤدي إلى نقص المواد الاستهلاكية في الأسواق، وهنا يأخذ تشكل الجماهير شكلًا مختلفًا، وهو الطوابير، فإذا أنت مررت بصالة بيع المفرق، في شركة التجزئة، تجد طابور توزيع الزيت النباتي، متقاطعًا مع طابور الواقفين عند باب الفرن.. ومما كان يحصل، أيام حكم حافظ الأسد، أن الحكومة كانت تمنع استيراد السيارات، وفي سنة 1983، أعلنت مؤسسة “أفتوماشين” عن التسجيل على بيكآبات زراعية، بسلفة مقدارها 30 ألف ليرة سورية، وعلى الفور، بدأ الازدحام الجماهيري أمام باب المؤسسة، وحينما أعلنوا أن الدفع سيكون في المصرف التجاري السوري، نزحت الحشود، عفويًا، إلى شارع الجلاء، ليصطفوا أمام باب المصرف، ومع مرور سنين طويلة، بدأت الكذبة تنجلي، إذ لم يكن هناك بيكآبات، ولا ما يحزنون، وبدأ الازدحام يتشكل، مجددًا، أمام باب المصرف التجاري، لاسترداد السلفة التي فقدت ثلاثة أرباع قيمتها الشرائية!
الأنظمة الدكتاتورية، ذات الأيديولوجيا الدينية، لا تختلف كثيرًا في نظرتها إلى الفرد، بوصفه رقمًا ضمن جمهور عريض، يؤيد الحاكم. والدكتاتوريتان، كلتاهما، تلجآن إلى صناعة الجماهير التي تهتف للحاكم، في فترات المحن، فكلما تعرض الدكتاتور لأزمة، نتيجة إخفاقه في إدارة ملف سياسي، أو اقتصادي، أو دبلوماسي، يسارع للاستقواء بالجماهير، ويأخذ الصور وهو في مكان عالٍ، ليزهو بمحبتهم، وأما مهمة الجماهير، فتنتهي فور توقف الكاميرا عن التصوير!
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي