الحرب الثانية في درعا.. الجفاف ونزيف البشر
على كتف بحيرة، أضحت أثرًا بعد عين، ترامت مراكب صغيرة حملت ذكريات المصطافين لسنوات طويلة غير معلومة، واضمحلت المياه إلى أن تلاشت، ثم تحول المكان صيف عام 2024 إلى يباس زرعه أحد الفلاحين بشتلات الفلفل والبندورة.
أشجار “الكينا” المتعبة من العطش، تكشف عن ما حلّ ببحيرة “المزيريب” في الريف الغربي لمحافظة درعا، وكأنها تختصر الحكاية. لقد تغير وجه الحياة، هنا في أرض الينابيع، فماذا عن بقية مناطق المحافظة. يقول كثيرون إن الهجرة “أمر لا بدّ منه” مع ثنائية الجفاف وانعدام الأمن.
الحرب التي أرخت بثقلها على البلاد منذ عام 2011، واستنزاف آلاف الآبار العشوائية لمصادر المياه، كانت سببًا في تعميق أثر موجة الجفاف الأخيرة، وتراجع الزراعة، وهي مورد الرزق الأهم في درعا “سلة الخضار السورية”، وزاد الأمر صعوبة فشل وضعف قدرة الحكومة على إيجاد البدائل.
بحيرة “المزيريب”.. أبرز الملامح
كانت بحيرة “المزيريب” أوضح الدلائل على الجفاف في درعا، إذ تناقصت مياهها منذ عام 2017، حتى جفّت عن آخرها ابتداءً من عام 2022، وهو ما رصده تحقيق/ سيريا انديكيتور بالرجوع إلى صور الأقمار الصناعية.
سبق ذلك تحذيرات من استنزاف حوض اليرموك، الذي تعتمد عليه المنطقة الجنوبية، وخصوصًا محافظة درعا، وأربعة أحواض مائية أخرى في سوريا، هي بردى والأعوج، العاصي، السهوب، ودجلة والخابور، وفق موقع “Fanack” المتخصص بدراسة الوضع المائي في منطقة الشرق الأوسط.
تعد بحيرة “المزيريب” أكبر المسطحات المائية في درعا، وكانت تغذي بلدات المزيريب واليادودة وأحياء درعا البلد وضاحية درعا بمياه الشرب، وكانت تغطي 18% من حاجة محافظة السويداء المجاورة.
تقع البحيرة غربي بلدة المزيريب، وتبلغ مساحتها كيلومتر مربع بطول 500 متر وعرض 250 مترًا.
إلى جانب “المزيريب”، لحق الجفاف الجزئي بينابيع وبحيرة “زيزون”، وكانت تغطي قسمًا من حاجة المنطقة من مياه الشرب والري للزراعة عبر محركات الضخ.
كما جفت شلالات تل شهاب ذات المنظر الخلاب، جراء جفاف “عيون الساخنة” بشكل كامل صيف 2023، وعادت في الشتاء الماضي، ثم جفت صيف 2024، وحرم جفافها أكثر من 15 ألف نسمة في بلدة تل شهاب على الحدود السورية الأردنية من مياه الشرب.
وقبلها، عام 2022، جفت “عيون العبد”، التي كانت تغذي ما يقارب 200 ألف نسمة في مناطق الجيدور بمياه الشرب.
وكانت المياه العذبة تضخ من “عيون العبد” عبر ستة محركات ذات استطاعة عالية، فيما تذهب المياه الفائضة عن حاجة مياه الشرب لأعمال السقاية في بساتين مدينة طفس وقرى العجمي وزيزون.
وبحسب تصريحات حكومية تعود لعام 2008، فإن غزارة “عيون العبد” كانت تصل إلى 280 ليترًا في الثانية.
موجات سابقة
بحيرة “المزيريب” شهدت انخفاضًا حادًّا في منسوب المياه قبل الموجة الأخيرة، ابتداء بمطلع التسعينيات من القرن الماضي، إذ انخفض مستوى الضخ منها من 1085 ليترًا بالثانية عام 1990 إلى 206 ليترات في الثانية عام 2008، وهو العام الذي نضبت فيه مياه أكثر من 25 نبعًا في درعا.
جفاف البحيرات والينابيع يعيد إلى ذاكرة شهود ممن قابلهم التحقيق موجات جفاف أخرى ضربت المنطقة، إذ جفّت ينابيع “عين البصل” في بلدة المزيريب، عام 1986، و”عين السرية” في مدينة الشيخ مسكين عام 1989، و”عين بندك” في قرية العجمي عام 1990، بالإضافة إلى عيون كانت تنفجر في بساتين الريف الغربي تصل غزارة بعضها إلى أربعة إنشات.
وبعدها، في عام 2004، جفت بحيرة “العجمي”، وهي مصدر مائي كان يستخدم للري، وكانت تروي بساتين زيزون والعجمي وطفس، بحسب سكان من المنطقة قابلهم فريق التحقيق.
آلاف الآبار العشوائية تفاقم الجفاف
بالتزامن مع امتداد الجفاف على مساحة درعا الجغرافية، تعمل الحفارات دون توقف، لحفر آبار جديدة، أو زيادة أعماق الآبار الموجودة، إلى درجة أن بعض المزارعين يحفرون أكثر من بئر ضمن مساحة جغرافية ضيقة، وهو ما يهدد بخطر أكبر على المياه الجوفية.
يعتبر الحفر العشوائي للآبار، السبب الرئيس للجفاف في درعا، إذ وصل عدد الآبار المخالفة عام 2024 إلى 20 ألف بئر، مقابل 8000 بئر قبل عام 2010، بحسب ما أكده المهندس علي البقيرات، خبير الموارد المائية والرئيس السابق المسؤول عن مراكز الضخ في حوض اليرموك، لفريق/ سيريا انديكيتور.
وكان مدير الموارد المائية في درعا، أحمد محسن، ذكر أن مواطنين من سكان المنطقة أبلغوا عن 4000 بئر مخالفة في المحافظة خلال عام 2023 وحتى مطلع شهر كانون الأول من العام نفسه، وأن هناك عددًا كبيرًا من الآبار العشوائية لم يصرح عنها مالكوها، وما زالت تشكل خطرًا على مصادر الينابيع.
وذكر المسؤول أن تلك الآبار تستنزف كميات كبيرة من المياه، قائلًا، “سنواجه في المدى المنظور عجزًا مائيًا لا يمكن تعويضه”.
الخبير المهندس علي البقيرات، أشار إلى أن الحفر أثر على مسارات حوامل الطاقة المائية، إذ وصل منسوب الحفر في الريف الغربي حاليًا إلى عمق 300 متر، وهو ما يهدد تغير مسارات عروق المياه، حيث تعتبر الطبقة الأولى الحاملة للمياه على عمق أقل من 50 مترًا.
سأل التحقيق بعض المزارعين عن الأعماق التي وصل الحفر إليها للتثبت من أثر الآبار على المياه الجوفية، وذكر المزارع أنس المحمد، أحد مالكي الآبار أنه زاد من عمق بئره من 50 مترًا إلى 150 مترًا، “لكن دون فائدة”، إذ إن البئر جفت بشكل كامل مطلع صيف 2024.
وفي مناطق الريف الشرقي، أشار أكثر من مصدر ذي صلة إلى أن الحفر يتم بالأساس على أعماق تتجاوز 400 متر وتصل إلى 550 متر.
ثلاثة مهندسين متخصصين من مختلف أنحاء المحافظة، ذكروا أن حفر آلاف الآبار العشوائية، سواء داخل التجمعات السكنية أو في الأراضي الزراعية المحيطة بها، سبّب تخريبًا في أطراف الأحواض المائية الصبابة، في معظم مناطق درعا، وأدى لهدر المياه من هذه الأحواض، وبالتالي انعكس على انخفاض غزارة الآبار.
ونبه الهندسون إلى خطر الحفر على طرف الحوض الصباب، ما يؤدي إلى تخريب المنطقة الحاملة للمياه، وهروب المياه من الحوض، وهو ما يدخل المنطقة في حالة العجز المائي، و”حدوث كارثة إنسانية بالمنطقة”، بحسب وصف أحدهم، وهو المهندس علي البقيرات.
في السنوات الأخيرة التي سبقت احتجاجات عام 2011، سجلت درعا حضورها كواحدة واحدة من المحافظات السورية المنتجة للزيتون والفاكهة، وقدر عدد أشجار الزيتون فيها بنحو ستة ملايين شجرة، مزروعة على مساحة 30 ألف هكتار عام 2010.
بعد 2011، تراجع العدد، عام 2023، وصولًا إلى ثلاثة ملايين شجرة، وانحسرت المساحة المزروعة بالزيتون إلى نحو 22901 هكتار، وفق رئيسة مكتب الأشجار المثمرة بمديرية الزراعة بمحافظة درعا، المهندسة حنان الخياط.
هذه الأرقام تعكس تدهور وسوء الواقع الزراعي إثر الجفاف الحاصل، خاصة مع محصول الزيتون، إذ تعد أشجار الزيتون أكثر مقاومة للعطش من غيرها، ويمكن سقايتها مرتين في فصل الصيف، شريطة حراثة الأرض باستمرار للمحافظة على رطوبة التربة، وفق ما قاله المهندس خالد الحشيش ل/ سيريا انديكيتور.
أشجار مثمرة أخرى كانت ضحية للجفاف، فأنس المحمد، المزارع الذي يملك 500 شجرة من الرمان في الريف الغربي للمحافظة، تعرضت أشجاره لليباس والاصفرار جراء نقص المياه.
ويشتكي تراجعًا تدريجيًا في حجم المحاصيل التي ينتجها منذ عامين، بالتزامن مع انخفاض مياه البئر الذي يسقي منه محصوله.
في 2020، وصل إنتاج الدونم الواحد من محصول الرمان في أرض المزارع أنس إلى أربعة أطنان، لكنه تراجع إلى طن ونصف عام 2023، ثم إلى طن واحد عام 2024.
أما المزارع حسين من بلدة تل شهاب، فقطع معظم أشجار الرمان التي كان يزرعها على مساحة 20 دونمًا، بعد تراجع منسوب بئره من 40 متر مكعب بالساعة قبل عامين إلى النصف في العام الماضي، وتراجع إثر ذلك محصوله من 100 طن إلى 30 طنًا فقط.
الرمان يحتاج لرية مشبعة كل 15 يومًا، وهذا ما دفعه للتخلص من الأشجار، والاحتفاظ بخمسة دونمات فقط، يقول المزارع حسين.
لم ينحصر الأثر على الأشجار المثمرة، بل امتد ليطال الخَضْراوات الصيفية، ورصد التحقيق، انحسار المساحات المزروعة بالخَضْراوات في محافظة درعا خلال الأعوام الأربعة الماضية، إلى 2110 هكتارات عام 2024، في حين وصلت المساحة عام 2020 إلى 2658 هكتارًا، بتراجع قدره 540 هكتارًا.
وهذا العام، لم يزرع نور الدين الخَضْراوات الصيفية في أرض اعتاد على استئجارها كل عام في بلدة زيزون، رغم اعتماده على زراعة المحاصيل الخضرية في تأمين دخل لأسرته.
يقول نورالدين لفريق التحقيق، إن منسوب البئر الذي كان يعتمد عليه في سقاية أرضه انخفض عام 2023، ما أثر على إنتاجه من المحاصيل، لذلك قرر ترك زراعة المحاصيل الصيفية هذا العام.
ومثل نور الدين، ضاع جهد المزارع محمد الأكرم، وفقد موسمه من الخَضْراوات الصيفية (الباذنجان والفليفلة)، بعد جفاف البئر الذي كان يعتمد عليه في السقاية، ما سبب خسارة مالية قدّرها بأكثر من 30 مليون ليرة سورية (كل 15 ألف ليرة تساوي دولارًا واحدًا).
لم يكن محمد يتوقع جفاف بئره بشكل كامل، إذ تراجع منسوبه في آب 2023، إلا أن جفافه في تموز 2024 كان مفاجئًا ومبكرًا.
وبعد اشتداد الجفاف خلال العامين الماضيين، لجأ بعض المزارعين للتركيز على الزراعات الشتوية (الخس والقرنبيط والفول والبازلاء والحشائش)، لكونها أقل استهلاكًا للمياه، كما يتزامن موسمها مع استعادة الآبار والينابيع بعضًا من منسوبها، لكن هذه الزراعات لا تسدّ الرمق، وفق المزارع نور الدين الذي اكتفى بالبقدونس والكزبرة في فصل الشتاء الماضي.
تربية المواشي تأثرت هي الأخرى بالجفاف الذي أثر على المراعي، وبات الاعتماد على الأعلاف الجاهزة مكلفًا، ما دفع كثيرًا من المربين للتخلي عن جزء كبير من هذا النشاط، وهو حال محمد (28 عامًا) ابن قرية عمريا بريف درعا الغربي، إذ باع ثلاثة أبقار وعددًا من الخراف بعد جفاف البئر الذي كان يؤمن مياه الشرب لمنزله وللماشية، وصار يعتمد على مياه الصهاريج فقط.
تستهلك ماشية محمد نحو متر مكعب من المياه يوميًا، وهي تكلفة زائدة أضيفت على عملية إنتاج الحليب، والتي تعتبر خاسرة في ظل غلاء الأعلاف، فهو يشتري متر المياه بـ30 ألف ليرة سورية، وكيلو العلف بنحو 5800 ليرة، بينما يبيع كيلو الحليب بـ5000 ليرة، وهي عملية “خاسرة”، حسب وصفه.
الجفاف حرب ثانية يواجهها السكان الذين صمدوا داخل مدنهم وقراهم في محافظة درعا، ودفعت بالمزيد للهجرة أو التخطيط لها، بعد الموجة السابقة التي بدأت بسبب الظروف الأمنية منذ آذار 2011، فنضوب الماء عطّل أهم شريان للحياة، وهو الزراعة.
يقول المزارع نور الدين، إنه لم يزرع أرضه صيف هذه السنة بسبب الجفاف، كما أن الزراعة الشتوية لا تؤمن كفاف أسرته، لذلك بدأ يفكر في تأمين سفر أحد أبنائه إلى دول أوروبا عبر طرق “التهريب”.
لعبت الأحداث الأمنية دورًا كبيرًا في حركة النزوح والهجرة لمئات الآلاف من أبناء محافظة درعا، واستمرت حركة الهجرة بعد “التسوية” التي سمحت لقوات “الحكومة” باستعادة السيطرة على أرجاء المحافظة منذ تموز 2018.
الجفاف والصراع، يتبادلان الدور ليكون أحدهما مسببًا للآخر، وتحدثت دراسة استقصائية صدرت عن مركز “السياسات وبحوث العمليات” (OPC)، في حزيران 2022، حول تأثير الجفاف على طبيعة وشكل الصراع في سوريا، متوقعة ارتفاع معدل الجريمة بأشكالها المنظمة وغير المنظمة، وتزايد معدلات الانضمام للميليشيات والجماعات المتطرفة.
بعد “التسوية” التي رعتها روسيا، استمرت الفوضى الأمنية عبر الاغتيالات والخطف مع سطوة عصابات تهريب المخدرات، وجاء الجفاف ليترك أثره الاقتصادي والبيئي في واقع مدمر بالأساس، ما دفع بموجة ثانية من هجرة سكان المحافظة.
وتشير الإحصائيات التي حصل عليها فريق التحقيق من وثائق مصدرها الحكومة السورية، وأخرى مفتوحة، (سجلات الأحوال المدنية – المكتب المركزي للإحصاء – دراسات (مديرية الإحصاء في درعا) – صندوق الأمم المتحدة للسكان) إلى إن عدد سكان محافظة درعا انخفض من 1.226.000 عام 2010 إلى 680.000 نسمة عام 2014، بتراجع قدره 464.000 نسمة.
وبعد “تسوية” 2018، وصل سكان المحافظة عام 2019 إلى 924.626 نسمة، واحتلت درعا ذلك العام أعلى المحافظات السورية في معدل الولادات، بنسبة اقتربت من 40 بالألف، وفق تقديرات اللجنة الفنية في المكتب المركزي للإحصاء (جهة حكومية)، بحسب تقرير رسمي سوري مدعوم من صندوق الأمم المتحدة للسكان.
وبناء على معدل الولادة، وتقديرات عدد السكان في العام الذي سبقه والبالغ 991.611، فإن المفترض أن يرتفع عدد سكان المحافظة في العام 2020، لكن العدد لم يتجاوز 944.646، وهو ما ينقص 16.965 نسمة، قياسًا للنسبة الطبيعية للزيادة.
ويتكرر النقص في العام 2021 إذ يبلغ عدد السكان، بحسب التقديرات الرسمية، 966.430 نسمة، في حين يفترض أن يصل إلى 982.431 نسمة، بنقص يتجاوز 16.000 نسمة قياسًا لمعدل الولادات.
ما سبق من إحصائيات وأرقام يمكن التشكيك بها بسبب توقف عمليات الإحصاء السكاني الموثوقة من قبل الحكومة، لكنها تشير إلى أن المحافظة شهدت نموًّا سلبيًا في عدد السكان، لا يمكن الجزم بسببه الرئيس، وأن المعطيات على الأرض تثبت استمرار النزيف السكاني جراء الضغط الاقتصادي والأمني.
سعى التحقيق للتثبت من حقيقة وجود موجة ثانية للهجرة، أسبابها وطبيعتها، عبر المعاينة وسؤال الأطراف المحلية ذات الصلة.
ففي “المزيريب”، التي جفت بحيرتها الشهيرة ومعظم ينابيعها، ذكر مصدران يقيمان في البلدة، أحدهما طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو موظف في دوائر السجل المدني بالمحافظة “النفوس”، والآخر هو أحد وجهاء البلدة، ويدعى أبو معاذ الزراق، أن عدد السكان انخفض إلى النصف منذ عام 2011، وأن هناك حركة انتقال وهجرة ونزوح، لكن الغالبية العظمى ممن يغادرون هم من فئة الشباب.
مصدر ثالث من وجهاء ريف درعا الغربي، قال إن نسبة الهجرة من المنطقة تراوحت ما بين 40% و50% من عدد السكان الإجمالي خلال السنوات التي تلت عام 2011.
وذكر الوجيه المحلي الزراق، أن جفاف مياه الري زاد من نسبة البطالة في ريف درعا، وكان له دور في هجرة الشباب، بحثًا عن فرص للعمل سواء في دول أوروبا أو الخليج العربي، دون إغفال الأسباب الأخرى من سوء الوضع الأمني وحالات الاغتيال، والهروب من الخدمة العسكرية.
وتابع الزراق، أن نقص المياه أدى إلى جفاف كثير من المزارع، ما دفع أصحابها لبيعها حطبًا للتدفئة، وبعد فقدان المورد الرئيس للدخل وهو الزراعة، “أصبح التفكير بالهجرة أمرًا واقعًا لا بد منه”.
وتحدث تقرير بعنوان “من الحقول إلى النزوح: كيف يقتلع تغير المناخ المزارعين السوريين في محافظة درعا”، نشره موقع الأمم المتحدة، في آذار 2024، حول الجفاف والتغير المناخي، إذ يروي المزارعون كيف جفت الآبار وتراجعت الزراعة، ما تسبب بتراجع فرص العمل وانتشار البطالة.
ويشير التقرير إلى مغادرة ألف أسرة لمنطقة “الرباط” جنوب غربي مدينة درعا حيث يقيمون، وذلك تحت تأثير الجفاف، إذ لم يتبق في المنطقة سوى عدد قليل من الأسر الفقيرة.
“خوض غمار البحر مخاطرة كبيرة لكن الحال الصعب يدفعني لهذه المجازفة”، يقول يوسف.ح، مفصحًا عن نيته الهجرة.
يمتلك الشاب الثلاثيني 10 دونمات مزروعة بأشجار الرمان، لم تعد “تجلب همها”، حسب وصفه، ويفكر بشكل جدي في السفر إلى إحدى دول الاتحاد الأوروبي عبر ليبيا، بطرق غير نظامية (تهريب) محفوفة بالمخاطر، ودافعه امتداد الجفاف لمساحات أوسع في ريف درعا، كما يقول ل/ سيريا انديكيتور.
يبدي يوسف مخاوف من “سماسرة التهريب” و”العصابات” التي تخطف المهاجرين وتطلب فدية من ذويهم.
ومثل يوسف، يخطط المزارع حسين، للهجرة إلى أوروبا بعد تدهور محصول الرمان هذا الموسم، إذ جفت مياه الري في آب الماضي، ما أدى إلى خسارته محصوله المزروع في 25 دونمًا، ولم يستطيع سوى إرواء خمسة دونمات.
يوسف، لم يكن يفكر بالهجرة، إلا أن جفاف مياه الري وانعدام الخيارات مع فقدان دخله لم يترك أمامه إلا هذا الخيار، لمساعدة أهله بعد الهجرة عبر إرسال حوالات مالية.
ويستمر نزيف القوى البشرية من درعا، إذ وثقت شبكات محلية في 31 من آب 2024، فقدان الاتصال بـ 19 مهاجرًا من أبناء مدينة طفس غربي المحافظة في ليبيا، بينهم أطفال ونساء موثقون بالاسم، بعدما كانوا على متن قارب أبحر من السواحل الليبية.
وكانت الحادثة الأكبر في حزيران 2023، حين قضى العشرات من أبناء درعا، إثر غرق سفينة صيد قديمة، على متنها نحو 750 شخصًا، قبالة السواحل اليونانية، بعد انطلاقه من ميناء طبرق الليبي.
وتوثق المنظمات الإنسانية الحقوقية مزيدًا من حالات وفاة واختفاء وفقدان الاتصال بمهاجرين من أبناء درعا، سلكوا طرق الموت سواء في البحر أو على اليابسة، بينهم أطفال ونساء.
كان لبنان المحطة الأولى لمعظم المهاجرين من أبناء درعا، قبل أحداث الحرب التي يشهدها هذا البلد منذ أواخر أيلول 2024، ويسلك المهاجرون المعابر النظامية أو طرق التهريب.
وإضافة إلى الظروف الاقتصادية والجفاف، تعتبر الفوضى الأمنية و”الخدمة الإلزامية” من الدوافع الرئيسة لهجرة سكان المحافظة، وخصوصًا الشباب منهم.
المطلوبون أمنيًا والمتخلفون عن “الخدمة الإلزامية” والمنشقون عن الجيش، يسلكون طرق التهريب إلى لبنان، بعد دفع ما يقارب 300 دولار أمريكي، ثم يجري إصدار جوازات لهم هناك بكلفة تقارب 2000 دولار، وبعدها ينطلقون إلى ليبيا أو قبرص أو صربيا، لحين الانتقال إلى دولة اللجوء النهائية.
وذكر شهود للتحقيق، أن البعض يتمكنون من السفر إلى إحدى دول الخليج، أو حتى إلى الشمال السوري أملًا في الوصول إلى تركيا عبر التهريب.
جهود المجتمع والمنظمات
يشتكي سكان درعا من تقصير الجهات الحكومية في تأمين مياه الشرب والري، وكذلك ضبط المخالفات جراء انتشار المحسوبية أو “الفساد”، وهو ما أكده شهود، أشار أحدهم إلى أن ظاهرة حفر الآبار المخالفة تعود إلى ما قبل 2011، لكنها تفاقمت بعدها، بسبب الانفلات الأمني.
المزارع حسين، حاول جاهدًا تأمين مصدر مياه، وحفر أربعة آبار، كلفته نحو نصف المليار ليرة سورية (أكتر من 33 ألف دولار)، دون أن يحصل على الماء منها، وكان سابقًا يستجر المياه من عيون الساخنة التي جفت بشكل كامل منذ عامين، كما حاول شراء المياه من بعض المزارعين، إلا أن ضعف منسوب المياه لم يمكنه من ذلك.
لجأت الحكومة إلى بعض الحلول الإسعافية في المحافظة، مثل حفر آبار في بلدة خربة غزالة لري مدينة درعا مطلع آب 2024، بعد تراجع ينابيع الأشعري.
كما عملت على حفر وترميم الآبار لتغذية مناطق في مختلف أرياف المحافظة، لكنها اعتمدت على جمع التبرعات من الأهالي.
وخلال الأعوام السبعة الماضية، أطلق المجتمع المحلي، مبادرات تم فيها جمع عشرات مليارات الليرات لترميم الآبار، لكن تلك الجهود لم تكن كافية، مع تهالك خطوط الجرّ وأحواض التخزين، وهي تحتاج إلى مبالغ طائلة لا يقوى عليها السكان، وفق ما قاله للتحقيق، ح.المقداد، وهو أحد الذين أداروا مبادرات محلية لحفر بئرين لتأمين مياه الشرب في الريف الشرقي للمحافظة.
وفي مثال على نجاح المجتمع المحلي، قام ابناء بلدة ناحتة في ريف درعا الشرقي، بحفر وترميم 12 بئرًا في البلدة على نفقتهم الخاصة، وحققت البلدة اكتفاءها من مياه الشرب، وفق قاطنين قابلتهم.
وعمل بعض السكان على حفر آبار في محيط منازلهم، لتأمين مياه الشرب، أو التعاون في حفر بئر مشترك لعدد من المنازل، وتزويده بالطاقة الشمسية كبديل عن الكهرباء النادرة التوفر.
في حين، لا تزال معظم مناطق درعا تعتمد على شراء المياه من الصهاريج الجوّالة، وغير الخاضعة لمعايير رقابة جيدة، ويتراوح سعر المتر المكعب من المياه بين 20 و30 ألف ليرة سورية (بين 1.5 و2 دولار).
ويعد سعر الصهريج مرتفعًا مقارنة بالوضع الاقتصادي والمعيشي، إذ يتقاضى العامل مبلغ 6 آلاف ليرة سورية في الساعة خلال عمله بالزراعة، بينما يبلغ الحد الأدنى للرواتب الحكومية 279 ألف ليرة سورية (أقل من 19 دولارًا).
وتبلغ أجور حفر المتر الواحد 300 ألف ليرة سورية (20 دولارًا)، وتصل الأعمال في بعض الآبار إلى عمق يزيد عن 500 متر، كما حصل في بصرى الشام، إذ يكلف حفر البئر ما يقارب 10 آلاف دولار أمريكي، دون احتساب الأدوات الأخرى منها “جوان معدني” والمضخة الدافعة وتجهيزات كهربائية مرافقة، ليتجاوز المبلغ ضعف تكلفة الحفر.
المنظمات الدولية بالتعاون مع المديريات ذات العلاقة، أنجزت عدة مشاريع في ريف درعا، لكنها لا تلبي حاجة السكان من مياه الشرب والري.
وأهّل برنامج الأغذية العالمي (WFP)، في حزيران 2024، مشروع جر مياه من نهر “اليرموك” لري وسقاية الحقول المجاورة، إلا أن انخفاض منسوب مياه النهر حال دون تشغيل المضخات المؤهلة، ولم يستفد من عمله المزارعون صيفًا، كما أهلت ذات المنظمة “عيون العبد”، على الرغم من جفافها الكامل.
ونفذت منظمة “يونيسف” بالتعاون مع مديرية مياه درعا، في حزيران الماضي، مشروع مد أنابيب “البولي ايتلين” من ينابيع عيون الساخنة حتى بلدة تل شهاب، بطول يقارب 7 كيلومترات، وذلك بعد كثرة التعديات وتلف الخط القديم المغذي للبلدة، إلا أن المشروع لم يقلع بعد جفاف مبكر للينابيع، في تموز 2024.
لا حلول لأزمة الجفاف في درعا بالمدى المنظور، وتكمن الخطورة في حالة الوصول لمرحلة العجز المائي. وجفاف عيون الساخنة الكبرى والصغرى مؤشر خطير على دخول المنطقة في مرحلة جفاف كلي.
المهندس علي البقيرات – الرئيس السابق لمراكز الضخ في حوض اليرموك
يوجد في درعا 16 سدًا بعضها خارج الخدمة، ومعظمها يحتاج إلى الصيانة والترميم، كسد “درعا” الخارج عن الخدمة منذ عام 2011، وسد “الشيخ مسكين”. ويؤكد المهندس خالد الحشيش، العامل في مديرية المياه، لفريق التحقيق، أن السدود قد تساعد في سدّ جزء من النقص في ظل الجفاف، لكنها تفتقد للصيانة والتأهيل، والصالح منها يفتقد للإدارة وعدالة في التوزيع.
ويركز الحشيش على اهمية هذه السدود في تخزين المياه خلال فصل الشتاء لاستخدامها في المشاريع الزراعية الصيفية.
لا يختلف الوضع في مناطق أخرى من سوريا، لكن درعا تبقى من المناطق الأكثر حساسية لآثار الجفاف، وسوء إدارة الموارد المائية، بالنظر لوقوعها في مناطق مطرية فقيرة.
يتعين على الحكومة (السورية) اتخاذ خطوات فعالة لمعالجة أزمة المياه في البلاد ككل، وفق المهندس الزراعي، جلال العطار، المتخصص بالأبحاث العلمية الزراعية.
وقدم العطار في مقال على موقع كارنيجي، مجموعة من المقترحات لتجاوز الأزمة في سوريا منها:
- العمل على تحسين البنية التحتية وتطوير التخطيط الحضري المستدام والذكي لتعزيز جهود التكيف مع التغير المناخي.
- تحسين إدارة الموارد المائية.
- تحسين الاستدامة في استخدام المياه من خلال تطبيق أنظمة الري الحديثة.
- تعزيز الزراعة المستدامة، وتشجيع زراعة المحاصيل المتكيفة مع تغير المناخ والتي تستهلك كميات أقل من المياه.
- زيادة قدرة المجتمع على التأقلم من خلال نشر الوعي بخطورة التغير المناخي.
- تعزيز التعاون الدولي مع دول الجوار لتقاسم الموارد المائية، والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة.
تقول دراسة، إن موجة الجفاف الأخيرة التي بدأت عام 1998 في سوريا ومنطقة شرق المتوسط، قد تكون الاسوأ منذ نحو 900 سنة،
وذكر خبير الجفاف، كولن كيلي، والذي ألف أبحاثا سابقة عن المنطقة، إن التوقعات تذهب باتجاه جفاف مستمر تشهده طوال القرن المقبل.
وتنقل “Climate Central“، أن ما يحدث في المنطقة الآن يمكن أن يكون مجرد بداية جفاف أطول وأكثر حدة، وأن ندرة المياه والصراعات، يمكن أن تؤدي إلى زيادة التوتر.
تحقيق: علي عيد – حسن إبراهيم
ساهم في التزويد من درعا: حليم محمد
دعم فني: يوسف حمّص
ترجمة: علا سليمان
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية
أرسل/أرسلي تصحيحًا
مرتبط
المصدر: عنب بلدي