“الحريفة 2″.. الفرق بين الاحتراف و”الحرفنة”!
بعد أقل من عام على عرض فيلم “الحريفة”، الذي شكل نجاحه مفاجأة في سوق التوزيع، يحقق الجزء الثاني للفيلم الذي يحمل اسم “الحريفة 2: الريمونتادا” مفاجأة أكبر، حيث وصلت ايراداته لأكثر من 100 مليون جنيه، ما يبين أننا أمام ظاهرة تستحق التوقف.
لا تتمثل الظاهرة في الأرقام نفسها، ولكن في كون الفيلم تجربة صغيرة انتاجياً وفنياً، مقارنة بالأفلام ضخمة الميزانية التي يلعب بطولتها كبار نجوم الأكشن والكوميديا، والتي يٌعتقد (كان يعتقد) المنتجون والموزعون أنها شروط لا غنى عنها للنجاح.
نجاح “الحريفة”، مثل نجاح “الهوى سلطان” وبعض الأفلام “الصغيرة” الأخرى، يبين أن السوق بات يتسع لأنواع وأسماء جديدة، وأن الوقت قد حان للدفع باتجاه تغيير في تركيبات الإنتاج السائدة.
الخلطة إياها
على أي حال يجب ألا نبالغ في تقدير هذا النجاح، فقد تضاعفت أسعار التذاكر خلال العام الماضي، وارتفعت بنسبة 10 أضعاف عنها منذ حوالي عقدين، ما يعني أن رقم الـ100 مليون ليس قياسياً أو استثنائياً.
كذلك لا ينبغي أن نتصور أن هذه الأفلام صنعت طفرة في معادلات الإنتاج، أو أنها حققت قفزة فنية من نوع ما، فحين نحلل عناصر هذا النجاح سوف نجد أننا أمام نفس الخلطة المعتادة، لكن تغيرت الوجوه.
والخلطة في “الحريفة 2” لا تختلف عنها في الفيلم الأول: قصة صعود ونجاح يتضامن فيها شباب فيهم الغني والفقير، العاقل والمضحك، فاتن النساء والعبقري الغلبان.
أنماط سبق أن شاهدناها في عشرات الأفلام، وفي المقابل الأنماط المعتادة من النساء: الطيبة المؤدبة والفاتنة الغاوية وخفيفة الظل، وهذا النجاح يتمثل في كرة القدم، بما أن النجاح في المجالات العلمية والاقتصادية صعب ودمه ثقيل، وبما أن كرة القدم جمهورها كبير، وحلم النجاح فيها يراود الكثيرمن اليافعين.
والخلطة التي يعتمدها الجزء الجديد، بتوقيع المخرج المونتير كريم سعد والكاتب إياد صالح، تتكون من ممثلين شباب صاعدين، بعضهم من مؤثرين السوشيال ميديا ونجوم التيك توك: نور نبوي (ماجد)، أحمد بحر الشهير بكزبرة (حتة)، أحمد غزي (ششتاوي)، نور إيهاب (لانا)، عبد الرحمن محمد (عمر) وعدد من الأسماء الجديدة، بجانب عدد من ضيوف الشرف (كعادة معظم الأفلام المصرية مؤخرا) منهم أحمد فهمي، أسماء جلال، آسر ياسين، مروان موسى مغني الراب، ومايكل أوين لاعب الكرة الإنجليزي الشهير.
هذه الخلطة مذابة في فكرة بسيطة بساطة الماء: مجموعة لاعبي كرة في حي شعبي يحلمون بتحقيق النجاح، وبعض قصص الحب، والكثير من أغاني المهرجانات والراب، في قالب من الكوميديا، وفواصل من العاطفية الحزينة، مع بعض الشعارات القومية الدعائية لاعطاء بعد وطني، تنموي، للفيلم.
خليط سردي
يمتد الخليط أيضا إلى أشكال السرد: الخط الجماعي، المعتاد في هذه الأعمال، حيث تتعدد الأصوات، والخط الفردي الذي يحتكره نور النبوي من خلال صوت راوي الفيلم ومشاهد الـ”فلاشباك”، لا أحد غيره يملك هذه الميزة، وفوق ذلك لديه خط درامي فائض، يسافر فيه إلى البرتغال للاحتراف، ولكن سرعان ما يعود إلى مصر بعد اكتشاف إصابته بمشكلة في القلب.
هذا الخط المبتور قد لا يكون له هدف سوى التصوير في البرتغال وملعبها الشهير، أبطالنا، أصلاً، يلعبون كرة خماسية تختلف كلية عن الكرة الاحترافية، ولكن الفيلم لا يبين لنا ذلك.
تجربة البرتغال، فوق ذلك، لا علاقة لها ببقية الأحداث، سوى أنها تفصل نور النبوي قليلاً ليصبح له خط سردي مواز ومنفرد.. واستطراداً لخط الاحتراف في الخارج الذي كان يراوده في الجزء الأول، وربما تمهيداً لابرازه باعتباره البطل المضحي، الذي يصر على اللعب وتحقيق الانتصار للفريق رغم أنه يمسك بقلبه في الكواليس وأثناء اللعب، على طريقة عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش في الحفلات الختامية لأفلامهم.
انتصارات خيالية
الاحتراف في العامية المصرية يطلق عليه “حرفنة”، التي لا تعطي معنى الاحتراف الفصحى، بل معنى أقرب إلى “الفهلوة” و”الشطارة” والمهارة الفردية في معالجة الأمور بشكل “تكتيكي”، شخصي، وليس وفق منظومة العمل الاحترافي ولا وفق نظام تدريبي وإعدادي محترف.
جزء من خلفية صنع “الحريفة” يعود إلى نجاح اللاعب محمد صلاح في الوصول إلى العالمية، ولكن صلاح، وغيره من المحترفين، يقضون 10 ساعات يومياً على الأقل في التدريب، ولديهم فريق من المدربين المتخصصين وفقاً لأحدث ما وصل إليه علم الرياضة.
ولكن “حريفة” فيلمنا يقضون وقتهم في التسكع مع البنات (ششتاوي) أو بيع كعك “الكرواسون بالفزدق” (حتة)، ونجم الفريق (ماجد) لديه مشكلة في القلب ويحتاج إلى عملية جراحية عاجلة، أما مدربهم (عمر) فليس له علاقة بالكرة أو الرياضة، وكل إمكانياته أنه يجيد استخدام الكمبيوتر.
من ثم، يدرك المشاهد في أعماقه أن الانتصارات التي يحققها فريق “الحريفة” على المغرب وألمانيا وأمريكا نفسها، هو مجرد خيال سينمائي، وأن الانتصارات في الواقع لا تحدث إلا عندما تجتمع “الحرفنة” بالاحتراف، أي الموهبة التي يصقلها التدريب ويوجهها العلم والنظام، وهذه أشياء لا يتحدث عنها الفيلم، ولا أعتقد أن صناعه وجمهوره يريدون الحديث عنها، لإنها قد تكون “محرجة” لمن يفضلون الفهلوة والاستسهال والنجاح بقدرة قادر.
هجين فكري وأسلوبي
قد يبدو هذا أكثر مما يحتمل الفيلم، الذي يهدف إلى الترفيه والمتعة وليس محاكاة الواقع أو تقديم درس في التنمية البشرية، ولكن صناع العمل يجعلون من نجاح أبطالهم رمزاً وطنياً من خلال الحوار المحمل بالشعارات الكبيرة والنشيد الوطني قبل المباريات، وعدد من الإشارات الأخرى، مثل حكم المباراة النهائية الذي يتواطأ ضد الفريق المصري لصالح الأميركي.
بشكل أوضح: لسنا أمام نجاح كوميدي عبثي مثلما نجد في “4-2-4″، ولا معالجة جادة للواقع الذي يحبط أحلام أبطاله مثلما نجد في “الحريف”، ولا قصة صعود شاب ريفي إلى القمة وما يتعرض له من عقبات وإغراءات مثلما نجد في “غريب في بيتي”، ولكننا أمام هجين من هذه الأفكار، هجين يخلط بين الاحتراف و”الحرفنة”، وبين الأفكار والأساليب بمهارة وسطحية تتناسبان مع العصر.
لنر، مثلاً، كيف تم تنفيذ مشاهد لعب الكرة في الفيلم، هناك، مبدئياً، تطور كبير مقارنة بالأفلام المصرية التي صورت كرة القدم ومن الجزء الأول، ولكنها تظل أقل بكثير من أن تُبهر الجمهور أو تقنعه بحرفنة هذه الشخصيات.
وبجانب تواضع التنفيذ، رغم أن معظمها يدور في ملاعب خماسية صغيرة، فهي أيضاً تركز على مهارات فردية مكونة من جملة واحدة أو جملتين، في لقطات ضيقة مقطعة، ونادراً ما تصور لنا الملعب ككل، رغم صغر حجمه، حيث يمكن أن نرى الفريقين وخططهما والتعاون الخلاق الذي يجمع اللاعبين.
هذا الأسلوب في تصوير المباريات يعكس وجهة نظر في مفهوم السينما التي تعتمد على المونتاج واللقطات المقطعة لا اللقطة المشهد، كما يعكس مفهوم “الحرفنة” الذي يقدمه الفيلم، والذي يعتمد على الشطارة الفردية أكثر من التنظيم الجماعي، ورغم أن الفيلم يستعين بمايكل أوين، إلا أنه لا يوظفه جيداً لإبراز الجانب الجماعي والاحترافي لكرة القدم.
وبعيداً عن الكرة يجمع “الحريفة” خليطاً من القصص والشخصيات السينمائية النمطية، بشكل خاص هناك تشابهات عدة مع فيلم “صعيدي في الجامعة الأمريكية”، ليس فقط على مستوى التصور العام للجامعة الخاصة: البنات الجميلات المتحررات، المؤدبات منهن والغاويات، والأولاد الطيبون القادمون من الريف أو الأحياء الشعبية في مقابل الأولاد المتغطرسين القادمين من أسر ثرية، وامتداد هذه التقسيمة إلى الأساتذة أيضاً، وهي “ثيمة” تنتهي غالباً بزواج الطيبين من الطيبات، وخيبة أمل المتغطرسين والغاويات، وانتصار أبناء الريف والحي الشعبي على أولاد “الباشوات”.. وإمعاناً في توضيح الرسالة يدور كل هذا على خلفية “وطنية” دعائية، تنتصر للبطل المحافظ، وللبنت المهذبة المبهورة بالبطل “الحِمش”، وللقيم الأصيلة في مقابل المستوردة، ولأبناء البلد في مقابل الأجانب أو من يمثلونهم.
روح الفريق أم رابطة الذكورة؟
موضوع الفيلم، كما يظهر من خلال قصته الدرامية، هو “رابطة الذكور”، أكثر مما يدور عن روح الفريق أو العمل الجماعي، وقوة الرجال هنا ترتبط بمدى بقاءهم معاً، فيما تشوش النساء غالباً على هذا الترابط، سواء بإغواء الرجال أو بالتسبب في التنافس والتخاصم بينهم. هناك نساء في الفيلم، ولكنهن سلبيات ولا يشكلن حضوراً إلا فيما يتعلق بعلاقتهن بالأبطال.
وحتى كحبيبات لا يلعبن دوراً فارقاً في تعزيز ودعم هؤلاء الرجال، و(ماجد) يخفي عن حبيبته سبب عودته المفاجئة من البرتغال لسبب غير مفهوم، سوى الخجل، وعندما يقرر أن يعترف يخبر أعضاء الفريق في غرفة خلع الملابس بين شوطي المباراة النهائية، بينما حبيبته تكتفي بالتشجيع في المدرجات.
وبشكل عام ليس لدى نساء الفيلم حضور خاص بهن، صحيح أن حبيبة البطل تلعب الكرة أيضاً، ولكننا نراها وحدها، دون فريقها، ولا يذكر شئ عن صديقاتها أو زميلاتها أو عن الفريق الذي تنتمي إليه، والرابطة التي تجمعها بعضواته، كما لو أن “الترابط” مشكلة ذكورية فقط.
على أي حال يجب أن نذكر للفيلم تقديمه لفريق نسائي لكرة القدم، وتخصيصه لمشهد طويل نسبياً لمباراة نسائية، حتى لو خرجت نور إيهاب بعد المباراة بالمساحيق وأحمر الشفاه يزينان وجهها، بشكل عام هذا فيلم عن الرياضة يخلو من العرق!
ضحكات تختلط بالدموع
يحتوي “الحريفة 2″، كما أشرت، على كوميديا، غالباً ما يصنعها كزبرة وعبد الرحمن محمد، وإلى حد ما أحمد غزي، يبدأ الفيلم بموقف “كوميدي” في ساحة كرة قدم شعبية، حيث يظهر ضيف شرف الفيلم الأول أحمد فهمي، عندما يحاول أحد اللاعبين إعاقته يتوقف ناظراً إليه ونسمع موسيقى مسلسل “سفاح الجيزة” الذي لعب فيه دور سفاح، فيخاف اللاعب ويفسح له الطريق.
موقف طريف ومبتكر، ولكن في المشهد التالي، حيث يذهب الأصدقاء للقاء مسئول يخبرهم بأنهم حصلوا على منحة للدراسة بإحدى الجامعات الخاصة تعتمد الكوميديا على التهريج اللفظي الخارج عن السياق والذوق، تتراوح محاولات الإضحاك في الفيلم بين الجيدة والغليظة، ولكن نوع الفيلم ينتمي بشكل عام لما يعرف بالـlight comedy الخفيفة، ولا يعني ذلك أنه يحافظ على هذا الأسلوب طوال الوقت.
هناك اعتقاد أنه حتى تحقق فيلماً يحترمه النقاد والجمهور فلا بد أن يحتوي على مشاهد “حزينة”، وهذه المشاهد يؤديها بطل الفيلم الأساسي نور النبوي، وأحدها يقدمه عبد الرحمن محمد.
هذه المشاهد تعتمد على خطين: مرض (ماجد) المفاجئ، الذي يظل متقاطعاً مع الأحداث ويتصاعد قرب الخاتمة، وهو خط اقتضي الكثير من مشاهد الحركة البطيئة والفلاشباك لحياة (ماجد) على موسيقى وترية حزينة.
هذه المشاهد أحياناً تطول قليلاً، وأحيانا تقتصر على لقطة عابرة وسط المشاهد، لكنها بشكل عام ساهمت في تلوين الفيلم بصبغة “جادة” “مؤثرة عاطفياً”.
الخط الثاني هو الخطر الذي تتعرض له “رابطة الصداقة الذكورية” التي يقوم عليها الفيلم، في منتصف الفيلم بالضبط تصاب العلاقة بينهم بأزمة ويقررون الانفصال ليمضي كل منهم وحده، ولكن عندما يصاب (عمر) في حادث طريق يهرعون جميعا إلى المستشفى لزيارته، وهناك تتجدد أواصر الرابطة بعد خطبة مؤثرة يلقيها عليهم (عمر) عن الصداقة.
يخاطب “الحريفة 2” جمهوراً أغلبه من المراهقين والشباب، من متابعي كرة القدم الذين يحبون استخدام مصطلحات “الكلاسيكو” و”الدربي” و”الريمونتادا”، ويعشقون مؤثري “التيك توك” و”اليوتيوب” و”انستجرام”، وأغاني الراب والمهرجانات بكلماتها الغامضة والمهجنة، جمهور يتعطش لضحكة، وانتصار، و”حبة” عواطف، في طبق كشري أو عصير كوكتيل.
وكل هذا جميل ويحسب لصناع الفيلم، حتى لو كانت السينما وجمهورها يستحقان ما هو أفضل!
* ناقد فني