من بلدة تغفو على منحنى النيل، شمال السودان، تحدّر حمّور زيادة، ابن الأسرة السياسية والقانونية، المتشربة بالثقافة، والمولعة باقتناء الكتب. انطلق في عالم الرواية الساحر، ليضع بصمة في الأعمال السودانية، قدّر لها أن تحصد جوائز، وتترجم للغات عدّة، ما يضعه في مصاف الكتّاب السودانيين ذائعي الصيت، واسعي الانتشار، بتجربة منوّعة وعميقة، تحوّل بعضها لأعمال سينمائية، مثل “ستموت في العشرين”.
الكاتب زيادة الذي يبذل سخرية “مُرّة” في كتاباته التي تعالج نقدياً واقع بلاده السياسي، يبدو حين الاقتراب منه، رقيقاً قلقاً وميّالاً إلى الهدوء.
في رام الله، التي زارها غير مرّة، تلبية لدعوات وزارة الثقافة الفلسطينية، انفطر قلبه عندما رأى أمهات الأسرى، وهن يذرفن الدموع في خيمة، نُصبت لإحياء المطالبات بالإفراج عن أبنائهنّ عام 2017.
أما مكانه المفضّل في المدينة، فهو قبر محمود درويش ومتحفه، إذ يبدو شديد الولع بشعره. ووسط أصدقائه، تظهر شخصية مغايرة تماماً، حيث يبدو أكثر مرحاً وميلاً لإلقاء النكات، مع شغف بالأحاديث حول الثقافة والفنون. كما تحتل الكتابة معظم حديثه، وتشغل باله تماماً، وكأنه يلاحق حلماً يكاد يصحو منه.
يقول زيادة في حديثه لـ “الشرق”: “إن الكتابة هي محاولة لفهم العالم؛ نحن نعيش في عالم مضطرب، متوحش، غير منطقي إلى حدّ كبير، والكتابة واحدة من الطرق التي يمكن أن نعيد بها ترتيب العالم، ونطرح أسئلتنا، حتى التي لا تمتلك إجابات”.
يظن الكاتب “أن حكاية القصص ربما كانت من أقدم وسائل بناء الثقة بين الغرباء، كما أن الكتابة ليست رسالة، وإنما وسيلة نجاة. وبمحاولة فهم العالم، والتواصل مع الآخر “ربما ننجو”.
يجزم زيادة بأنه “لا يتتبع ثيمات معينة في أعماله”، لكن ثمّة موضوعات تعود إليه باستمرار، وأسئلة لا تكفّ عن فرض نفسها، “فأغلب أعمالي يبرز فيها الموت كحدث رئيسي، جنباً إلى جانب مع نقاشات العدالة والسلطة”، الحاضرة دائماً في رواياته. ويقول: “بالتأكيد أنا مفتون بالتاريخ، والكتابة عنه”.
وبشأن التغيير الذي لمسه في تقنيات السرد بين روايته الأولى وعمله الأخير، يوضح أن “حذره قلّ، والرقيب الداخلي تراجع، كما أن أسلوبه ينضج أكثر بمرور السنوات، وتراكم التجارب”.
ويبدي زيادة انزعاجه البالغ من فكرة سجنه في رواية واحدة، قائلاً: “حتى الكبار، لم يكن الطيب صالح يحب أن يرتبط اسمه فقط برواية “موسم الهجرة الى الشمال”. وكان يحيى حقي يغضب إن قيل إنه صاحب القنديل، في إشارة إلى روايته “قنديل أم هاشم”.
يرى زيادة أن “الكُتّاب لا يحبون أن تتلخص مسيرتهم بعمل واحد، مهما أحبوه، وهذا ما شعرت به بعد “شوق الدرويش”. الكثيرون لم يقرأوا لي قبلها أو بعدها، وربما لن يقرأوا، لكنهم عرفوني بكاتب “شوق الدرويش”، حتى أن بعضهم يظن أني لم أكتب غيرها”.
يتابع زيادة: “في الكتابة النقدية حاول بعضهم أن يطلق عليّ لقب “درويش الرواية”. ولحسن الحظ لم يلق رواجاً، و”تلقيت عرضاً ذات مرّة للكتابة الصحفية، فعرض عليّ أن يكون عنوان الزاوية الثابت هو “واحة الدرويش”. كل شيء أصبح يدور حول الدرويش وشوقه. لكن أعتقد ان المرحلة الأسوأ مرّت”.
الترجمة.. لا أخشاها
لا يخشى الكاتب السوداني الترجمة التي يعتبرها البعض “خيانة للنص”، لكنه في المقابل، لا يراها بحد ذاتها “دليلاً للنجاح، بل فرصة”.
ويؤكد على ضرورة إتاحة الفرصة للقارئ أن يقرأ ما يُكتب بلغة أخرى”. ويلفت إلى أن ترجمة رواية “الغرق” إلى الفرنسية لم تلقَ رواجاً، رغم حصولها على جائزة ونقد إيجابي، في مقابل الترجمة الإنجليزية لرواية “شوق الدرويش”، التي لم تنل ذلك، بينما تتفوّق “شوق الدرويش” على الغرق في نسختيهما العربية”.
يثق زيادة عادة بالمترجم، ولا يحبّذ التدخل في عمله، إلا بالإجابة عن بعض أسئلته. ويعتبر “أن المترجم منتجاً جديداً للعمل”. ويضيف: “في ترجمة “شوق الدرويش” إلى الفارسية، قام المترجم بحذف بعض المقاطع. لم يزعجني ذلك. في المجمل أظن تجربتي مع الترجمة حتى الآن جيدة، أتقبّلها بلا انزعاج، وتعاملني بلطف”.
رؤية العالم بشكل مختلف
يثير زيادة مسألة لطالما أثيرت، وهي العلاقة بين القراءة والكتابة، مشيراً إلى أن الكاتب الجيد هو قارئ جيد أوّلاً. ويلفت إلى أن الأمر “ربما لا ينطبق على كل مبدع. ومن النادر أن يكون المرء موهوباً ولديه سعة في الخيال، من دون اطلاع واسع”.
يضيف: “أظن أن الكاتب المتميّز يحتاج أن يقرأ كثيراً، وأن يوسّع مداركه ويدرب مشاعره بالاطلاع والمشاهدة، فالفنون عموماً مترابطة حتى لو لم نشعر بذلك. إجادة التصوير أو الشغف به، أو الرسم أو التمثيل، كلها تفيد الكاتب وتعينه على بناء أسلوبه، بل تعينه على رؤية العالم ذاته بشكل مختلف”.
في هذا الإطار، يبدي زيادة ولعه البالغ بالسينما والدراما. لا يخفي متعته بتحويل عمله “النوم عند قدمَي الجبل” إلى فيلم سينمائي باسم “ستموت في العشرين”، من سيناريو وإخراج السوداني أمجد أبو العلا، بمشاركة السيناريست الإماراتي، يوسف إبراهيم.
يؤمن الكاتب بأنه ليس من الكُتّاب الذين يتمسّكون بنقل ما كتبوه حرفياً إلى الشاشة. ويقول: “هذه طريقة بعض الكُتّاب، ومنهم أساتذة كبار وعظماء. أما ما أفضّله، فهو حرية المخرج في عرض الرواية كما يريد تأويلها”.
ويرى أن القارئ من حقّه أن يقدّم تأويلاته للنص، ويفسّره حسبما تلقاه، فإن كان ذلك من حق القارئ، فهو أيضاً من حق المبدع”. يتابع: “في تجربة “ستموت في العشرين”، أحببت مشاهدة كيف فهم المخرج النص، وكيف تعامل معه”، ملخصاً الأمر “أن النتيجة كانت مرضية جداً، وحصد الفيلم نحو 20 جائزة من مهرجانات دولية، كما تمّ طرحه للعرض العام في دول عدّة”.
الكتابة في السودان عمل “بطولي”
لا يستبعد زيادة الفرضية القائلة “بشحّ الإنتاج السوداني من الأعمال الروائية”، لكنه يشير إلى أن “الرواية بشكلها الحديث هي منتج غربي، وأن تطوّر الرواية العربية ارتبط بشكل ما بالحداثة”.
في المقابل، يعتبر أن “المزاج السوداني في عمومه أقرب للشعر، ابن بيئته لا المنتج المستورد. كما أن الكتابة في السودان، ليست مسألة سهلة، إذ تتّحد الظروف الاقتصادية والسياسية ضدّ الكاتب. فإذا قلنا إن الإنتاج السوداني قليل، علينا أن نتذكر أن الموجود منه نجح في تحدّي عقبات متشابكة. لذلك أحبذ الاحتفاء بما صدر، دون التوقف كثيراً عند ما لم يصدر”.
ويؤكد أن الكتابة السودانية، وتحديداً من داخل السودان، “هي عمل بطولي”، معتبراً أن “رواية قد تلقي بك في المعتقل، هذا إن استطعت توفير الوقت لكتابتها، والمال لطباعتها”.
أن تذهب إلى رام الله
لا يحبّذ حمّور زيادة الروايات التي يصفها بـ “المعقّدة”، ولا يعني ذلك برأيه أنها “غير جيدة”، ورغم أنه ينظر للفلسفة باعتبارها “تقدّم للروائي أدوات للتأمل، وتعينه على توسيع أسئلته، فمن دون الفلسفة، كل الأشياء ستكون سطحية، لكني لا أميل للروايات الفلسفية المعقّدة”.
وبخصوص زياراته للضفة الغربية، يصفها بـ”المهمة”، ذلك أن “جيلنا تفتّح وعيه على انتفاضة أطفال الحجارة في ثمانينيات القرن الماضي، ورسومات ناجي العلي في الصحف والمجلات العربية، وصورة ياسر عرفات بغطاء رأسه وبذلته الكاكية”.
ويحكي أن الروائي الإريتري حجي جابر، كان رفيقه في زيارته الثانية لفلسطين، وكتب حينها: “المؤكد أن فلسطين مكان حقيقي”، معتبراً “أن هذا الشعور ينتاب كل من يزور الضفة الغربية”.
ولفت إلى أنه خاطب الجمهور الفلسطيني الذي أمّ المنتدى قائلاً: “أهلاً بالذين لم أكن أظن أنهم موجودون إلا على شاشة تلفازي”.
ويؤكد الكاتب أن “فلسطين تحوّلت عبر السنوات إلى معنى، أكثر منها مكاناً حقيقياً يعيش فيه بشر حقيقيون”.
ويضيف: “أن تذهب الى هناك. أن ترى المعنى وهو يتحوّل إلى بشر من لحم ودم، يقفون على حواجز الاحتلال، يضحكون، يتظاهرون ضد الاحتلال، يسهرون في المقاهي، يتبايعون في الأسواق. أن ترى إعلاناً لمهرجان للرقص المعاصر في رام الله، فتعرف أنهم يقاومون بالحياة، وأن كل لحظة طبيعية يعيشونها إنما يقتلعونها عنوة من بين أنياب المحتل. أن تدخل المسجد العمري، وتزور كنيسة المهد، فتشعر بكثافة التاريخ هناك. وربما في يوم أحكي عن قبور الشهداء السودانيين قرب القدس”.
بعد زيارة الضفة الغربية أصبح للقضية الفلسطينية لدى زيادة، ملامح وأسماء، وللأماكن معاني. إذ لم يعد حاجز قلنديا مجرد مكان تسمع عنه في نشرة الأخبار. إنه الآن مكان لي فيه ذكريات. أريحا، رام الله، بيت لحم، نابلس، وغيرها لم تعد مجرد أماكن أو فقرات في الأخبار”.
الحرب شقيقتنا الكبرى
من فلسطين إلى السودان، يرى زيادة “أن الكثير من المجتمعات السودانية، شكّلتها الحروب الأهلية المتواصلة”. ويتابع: “هناك مناطق في السودان لم تعرف الهدوء والسلام ربما إلا لسنوات قليلة، فالحرب حاضرة دائماً في الواقع السوداني. هي كما وصفها جوزيه كاتوتسيلا في روايته “لا تقولي إنك خائفة”، بأن الحرب شقيقتنا الكبرى”.
يبدو للكاتب أن التفكير السوداني يمكن اختزاله لصدام “هوياتي”، لكنه يعتقد أنه ليس الأجدر بالإجابة على هذا السؤال، فهو بعد الحرب الحالية، أضحت أسئلته أكثر من إجاباته، “مع رغبة بمراقبة المواقف والتحالفات والتقلبات، لفهم ما يحدث، وكيف ولماذا حدث، أكبر من الرغبة في إبداء رأي أو اتخاذ موقف”.
من نحن.. وما تاريخنا؟
ومن جدل الهوية إلى التاريخ القديم، وتجاهل السودانيين ربما له يقول: “إن السؤال شديد التعقيد. لكن حتى لا ننزلق إلى متاهات لا نهائية، يمكن القول إن الاهتمام بالتاريخ والاعتزاز به هو ابن إجابة سؤال من نحن؟”
يضيف: “من تحديد ذلك، يمكننا الانتقال إلى سؤال ما هو تاريخنا؟ ثم بعدها يمكن أن نسأل هل نحن نهتم به أم لا، ولماذا؟ وفي تقديري أن بلداً يستعر بالحروب الأهلية المتواصلة، من الصعب أن يجيب على سؤال الاهتمام بالتاريخ”.
وحول تشابك كل ذلك مع الأدب السوداني، وما إذا انعكست فسيفساء البلد على الكتابة الإبداعية، ينظر زيادة للأمر بوصفه “قطعاً متنافرة أكثر منها فسيفساء، مع ترجيح أنها لم تنعكس على الأدب السوداني”.
يقول: “أنا لا أحمّل الأدب قدرات سحرية ولا واجبات ليست له، لكن الأدب قد يقرّب الناس من بعضها. الأدب يجعلنا نفهم بعضنا. وبالتأكيد هناك أدب وفن يفعلان عكس ذلك. لكن في ظني، نحن لم نقرأ بعد أدب مجتمعات سودانية كثيرة. ربما نجد وقتاً لذلك، وربما لا. فقد زلزلت الأرض زلزالها، بالمعنى المجازي. لكن لو قرأنا عن مجتمعاتنا أكثر، بحثنا عن مشتركات، فهمنا بعضنا أفضل، والأدب أحد أمتع الوسائل لذلك، ربما يتغيّر واقعنا. وتصبح لوحة فسيفساء حقيقية”.
عالم ليس في أحسن أحواله
يعبّر حمّور زيادة في سياق حديثه لـ”الشرق” عن تشاؤمه حيال العالم المعاصر، “فهو ليس بأحسن أحواله، وربما نشهد واحدة من لحظات الانهيار العظمى. ربما نحن الآن في ما بعد بعد نهاية التاريخ. وستكون مفاجأة غير سارّة إذا انهار كل شيء فجأة. لكن الواقع أن أجراس الإنذار التي لم تتعطّل بعد، تدوّي حولنا في كل مكان. المؤسف أننا لن نعرف. وقد يأتي بعدنا زمن يتحسّر فيه الناس على ما يعيشونه، ويحلمون بهذه الأيام الجميلة التي نعيشها اليوم”.
لا يجد زيادة بالجوائز الأدبية مشكلة، بل يظن أنها لم تعد أمراً دخيلاً على صناعة الثقافة. ويقول في هذا الصدد: “ربما فقط ارتفاع القيمة المادية لعدد من الجوائز في السنوات الأخيرة، جعل البعض يشعرون بالقلق. لكن الجوائز صمدت واستمرت، ومازلنا نحن نتحدث عنها كأنها بدعة جديدة”.
يسأل زيادة ويجيب: “هل يمكن للجوائز أن تفسد الأدب أو الكاتب؟ طبعاً يمكن، مثل أي شيء آخر. هل لها فوائد ومردود جيد على الكُتّاب والكتابة؟ أعتقد أن المردودات الحسنة حتى هذه اللحظة أكثر من السيئة. لكن ما المشكلة إذا فازت رواية، روايتان وأكثر، لا أجدها جيدة، بجائزة؟ هل هي نهاية الدنيا؟ هل توقف العالم عن الدوران، لأن هنريك بونتوبيدان فاز بجائزة نوبل للأدب؟ أو عندما فاز بها شاعران سويديان عضوان في الأكاديمية ذاتها؟”
ولخّص المسألة باعتقاده “أن الجوائز تلعب دور رجل الإعلانات القديم، الذي كان يمشي في المدينة ليُسمع الحاضر فيُبلغ الغائب. تُخبرك الجوائز بأن هناك رواية يظنّها بعض المحكّمين جيدة. هل يعني حصول رواية على جائزة أنها جيدة بالضرورة؟ لا. هل يعني عدم حصولها على جائزة هو عدم جودتها؟ لا أيضاً”.
يضيف: “نحن ننفق الكثير من الوقت في افتراضات وظنون واتهامات، بدلاً من أن نقرأ الأعمال الجيدة التي تعجبنا ونروّج لها. الجوائز هي تقدير واعتراف، إن لم تعجبني اختيارات لجنة جائزة في وقت ما، فستعجبني في وقت آخر. لكن رأيي ليس الأهم هنا”.