تسببت قيود صارمة تفرضها الصين على تصدير “مغناطيسات مقاومة للحرارة” في “أزمة إمدادات” تهدد القدرات العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها، فيما تعد المعادن الأرضية النادرة “قضية محورية ” في محادثات التجارة الجارية حالياً في لندن بين واشنطن وبكين، حسبما أفادت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية.
وأوضحت الصحيفة، في تقرير نشرته، الاثنين، أنه بدون هذه المغناطيسات المقاومة للحرارة المصنوعة من معادن أرضية نادرة، ستواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا صعوبة في تعويض النقص الحاد في مخزون المعدات العسكرية التي استُنفدت مؤخراً، ما يسلط الضوء على “هشاشة سلاسل التوريد الغربية في ظل الهيمنة الصينية”.
وعلى مدى أكثر من عقد، فشلت الولايات المتحدة في تطوير بديل لإمدادات الصين من معدن أرضي نادر وغامض، يُعدّ ضرورياً لصناعة مغناطيسات تُستخدم في الصواريخ والطائرات المقاتلة والقنابل الذكية، وغيرها من المعدات العسكرية الأخرى، إذ تنتج بكين كامل إمدادات العالم من “الساماريوم” الذي يُستخدم بشكل شبه كامل في التطبيقات العسكرية.
“لوكهيد مارتن” مستورد رئيس
وتتميز مغناطيسات “الساماريوم” بقدرتها على تحمل درجات حرارة عالية تكفي لإذابة الرصاص دون أن تفقد قوتها المغناطيسية، ما يجعلها ضرورية لتحمل حرارة المحركات الكهربائية سريعة الحركة في الأماكن الضيقة، مثل مخاريط مقدمة الصواريخ.
وأوضحت الصحيفة أن شركة “لوكهيد مارتن”، المتخصصة في الصناعات الجوية والعسكرية، تعد المستهلك الأميركي الرئيسي لهذا المعدن النادر، حيث تضع نحو 50 رطلاً من مغناطيسات “الساماريوم” في كل طائرة مقاتلة من طراز F-35.
وصرّحت الشركة الأميركية في بيان مقتضب: “نجري تقييماً باستمرار لسلسلة توريد المعادن الأرضية النادرة على مستوى العالم لضمان الحصول على المواد الأساسية اللازمة التي تدعم مهام عملائنا”.
وفي 4 أبريل الماضي، أوقفت الصين تصدير سبعة أنواع من المعادن الأرضية النادرة، إلى جانب المغناطيسات المصنوعة منها، كما أنها تسيطر على معظم إمدادات العالم من هذه المعادن والمغناطيسات.
“حماية الأمن القومي”
وأعلنت وزارة التجارة الصينية أن هذه المواد ذات استخدام مزدوج، مدني وعسكري، وأنه لن يُسمح بتصديرها إلا عبر تراخيص خاصة تصدرها الحكومة. ووفقاً للوزارة، فإن هذه الخطوة تهدف إلى “حماية الأمن القومي” و”الوفاء بالالتزامات الدولية مثل منع الانتشار”.
وأضافت الصحيفة أن الوزارة منحت بالفعل بعض التراخيص لتصدير مغناطيسات تحتوي على عنصرين من هذه المعادن الأرضية النادرة المحظورة، وهما “الديسبروسيوم” و”التيربيوم”، إلى شركات صناعة السيارات في أوروبا والولايات المتحدة.
وتُستخدم المغناطيسات التي تحتوي على هذين العنصرين الأرضيين النادرين في أنظمة الفرامل والتوجيه، حيث يمكنها تحمل حرارة محركات البنزين، لكنها لا تتحمل بشكل موثوق الحرارة العالية التي تتطلبها التطبيقات العسكرية، ومع ذلك، لم تُظهر بكين أي مؤشرات حتى الآن بشأن السماح بتصدير “الساماريوم”، الذي لا يُستخدم إلا في تطبيقات مدنية قليلة.
وبحسب الصحيفة، فقد بدأ المسؤولون الصينيون والأميركيون يوم الاثنين محادثات تجارية تستمر ليومين في لندن، إذ تعد إعادة تدفق المعادن الأرضية النادرة أولوية للمسؤولين الأميركيين، لكن القليل منهم يتوقع أن تلغي بكين نظام تراخيص التصدير الجديد بشكل كامل.
ونقلت الصحيفة عن مايكل هارت، رئيس غرفة التجارة الأميركية في الصين، والذي ينسّق جهود القطاع الخاص الأميركي في بكين للحصول على المزيد من هذه المعادن، قوله: “لا أعتقد أن هذا النظام سيُلغى”.
اعتماد كلي
ولفتت الصحيفة إلى أن إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن كانت قلقة للغاية من غياب الإمدادات المحلية من “الساماريوم” لدى الجيش الأميركي، لدرجة أنها أبرمت عقوداً ضخمة لبناء منشأتين لإنتاج هذا المعدن داخل البلاد، لكن لم يُبنَ أي منهما، لأسباب تجارية، مما جعل الولايات المتحدة تعتمد كلياً على الصين.
وتابعت الصحيفة أن انقطاع إمدادات “الساماريوم” خلال الشهرين الماضيين يأتي في وقتٍ تسعى فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا لإعادة بناء مخزوناتهم من الأسلحة المتطورة، التي تراجعت بشكل كبير بسبب الدعم العسكري لأوكرانيا بعد الغزو الروسي، وكذلك الدعم الأميركي لإسرائيل خلال حرب غزة.
كما تحاول إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب توريد المزيد من الأسلحة إلى تايوان، التي تدّعي بكين سيادتها عليها.
وبالإضافة إلى وقف صادرات المعادن النادرة للاستخدام العسكري، فرضت الصين مؤخراً عقوبات على بعض شركات الدفاع الأميركية بسبب دورها في تسليح تايوان.
وأوضحت “نيويورك تايمز” أن هذه العقوبات باتت الآن تمنع الشركات والأفراد الصينيين من إقامة أي علاقات مالية مع مقاولي الدفاع الأميركيين.
وحتى وقت قريب، لم يكن لذلك تأثير كبير على صناعة “الساماريوم”، لأن الصين كانت تصدره إلى شركات كيميائية تخلطه مع الكوبالت قبل بيعه لشركات صناعة المغناطيسات، والتي بدورها تبيعه لشركات الأسلحة.
“المستخدم النهائي”
لكن ضوابط التصدير الجديدة التي فرضتها بكين على المعادن النادرة تنُص على أنه لا يمكن إصدار التراخيص إلا بناءً على “المستخدم النهائي” للمعدن في نهاية سلسلة التوريد، وهو ما قد يطال مباشرةً مقاولي الدفاع.
ونقلت الصحيفة عن ستانلي تراوت، وهو خبير معادن في جامعة ولاية متروبوليتان في دنِفر، ومتخصص في مغناطيسات “الساماريوم” منذ سبعينيات القرن الماضي، قوله إن من بين الأنواع السبعة من المعادن الأرضية النادرة التي تفرض الصين قيوداً على تصديرها، يعتبر الطلب على ستة منها ذا طابع مدني إلى حد كبير.
لكن “الساماريوم” يشكل استثناءاً، إذ أوضح تراوت أنه “يُستخدم بشكل حصري تقريباً في الأغراض العسكرية”.
وأضاف أنه وفقاً للوائح وزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون)، يجب أن تُصنّع مغناطيسات الاستخدام العسكري، بما في ذلك صبها أو صهرها، داخل الولايات المتحدة أو في دولة حليفة، لكن القواعد تسمح باستيراد مكونات المغناطيسات العسكرية من أي مكان، وهو ما مكّن من الاعتماد على “الساماريوم” الصيني منخفض التكلفة لسنوات.
وأوضحت “نيويورك تايمز” أن المخاوف بشأن الاعتماد على بكين في الحصول على “الساماريوم” ليست جديدة، إذ كانت الجيوش الغربية تعتمد منذ سبعينيات القرن الماضي على مصنع كيميائي واحد في مدينة لاروشيل الفرنسية، كان يُكرّر “الساماريوم” المُستخرَج من أستراليا.
لكن المصنع أُغلق في عام 1994، وذلك جزئياً لأسباب تتعلق بالتلوث، ولعدم قدرته على منافسة الإنتاج منخفض التكلفة من مدينة باوتو الصينية في منطقة منغوليا الداخلية، والمعروفة بضعف تطبيق معايير البيئة، حتى وفقاً للمعايير الصينية.
وفي عام 2009، بدأ المشرعون الأميركيون يدقون ناقوس الخطر بشأن اعتماد الولايات المتحدة على مصافي “الساماريوم” في باوتو، وطلب الكونجرس من وزارة الدفاع وضع خطة بحلول العام التالي لمعالجة هذه القضية. وكان ذلك قبل أن تُوقف الصين في أواخر عام 2010 تصدير جميع أنواع المعادن النادرة السبعة عشر إلى اليابان لمدة شهرين، كجزء من نزاع إقليمي.
ورداً على ذلك، أطلقت الولايات المتحدة مشروعاً بقيمة مليار دولار لإصلاح وتوسيع وإعادة تشغيل منجمها الوحيد لهذه المعادن الأرضية النادرة، في منطقة ماونتن باس بولاية كاليفورنيا، والذي كان قد أوقف عملياته عام 1998 بسبب تسرب في خط أنابيب.
الجدوى الاقتصادية
وتوجد المعادن الأرضية النادرة في جميع أنحاء العالم، ولكن نادراً ما تتوفر بتركيزات عالية تسمح باستخراجها بشكل مجدٍ اقتصادياً، فضلاً عن كون هذه المعادن مترابطة بإحكام، ولذا فإن استخلاصها يتطلب كسر هذه الروابط عبر سلسلة من 100 عملية كيميائية أو أكثر باستخدام أحماض شديدة القوة، بحسب الصحيفة.
ولم يحاول منجم “ماونتن باس” سابقاً فصل عنصر “الساماريوم” أو استخلاصه من الخامات التي يستخرجها، ولم يدرج هذه الخطوة حتى ضمن خطط التوسعة التي أجراها لاحقاً، فقد أُعيد فتح المنجم عام 2014، وتم التركيز على معادن أرضية نادرة أخرى، قبل أن يُغلق مجدداً ويفلس بعد عام واحد، لعدم قدرته على منافسة الإنتاج الصيني.
وأشارت الصحيفة إلى أن شركة MP Materials، التي استحوذت على منجم ماونتن باس وأعادت تشغيله عام 2018، كانت في البداية ترسل الخامات إلى الصين لمعالجتها.
وفي أوائل عام 2022، منحت وزارة الدفاع الأميركية الشركة مبلغ 35 مليون دولار لبدء إنتاج “الساماريوم” ومعادن نادرة أخرى تخضع لقيود التصدير الصينية.
وصرّح جيمس ليتينسكي، الرئيس التنفيذي للشركة، أن MP Materials استثمرت نحو 100 مليون دولار من أموالها الخاصة لشراء المعدات اللازمة لتكرير هذه المعادن.
لاحقاً، قدمت إدارة بايدن تمويلاً إضافياً بقيمة 351 مليون دولار لشركة Lynas Rare Earths الأسترالية لبناء منشأة لإنتاج “الساماريوم” في ولاية تكساس.
لكن ليتينسكي أوضح أن سوق “الساماريوم” ضيق للغاية، بحيث لا يكون وجود منتجين اثنين له في الولايات المتحدة مجدياً اقتصادياً، لذا لم تقم MP Materials بتشغيل معداتها لمعالجة الساماريوم حتى الآن، ولا تزال هذه المعدات مُخزنة.
أما Lynas Rare Earths فلم تنشئ مصنعها في تكساس، بعد أن تم تجديد تصريحها لتعدين المعادن الأرضية النادرة في ماليزيا، وهو التصريح الذي كان موقوفاً في وقت سابق.
واختتم ليتينسكي بالقول: “MP Materials لن تكون مستعدة لتركيب معدات معالجة الساماريوم ما لم نحصل على شروط مالية أفضل من العملاء..لقد شعرنا بخيبة أمل كبيرة من مجمل هذه التجربة”.
ونقلت الصحيفة عن جاي تروسديل، وهو دبلوماسي أميركي سابق لعب دوراً بارزاً في ملف المعادن الاستراتيجية في وزارة الخارجية في الفترة بين عامي 2014 و2015، قوله إن إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما كانت تركز على استخدام قواعد منظمة التجارة العالمية لإلزام الصين ببيع معادنها الأرضية النادرة. وأضاف: “لم يكن هناك شعور بالخطر في ذلك الوقت، لأن منظمة التجارة كانت تُعتبر الوسيلة المُثلى لحل مثل هذه النزاعات”.
وخلال فترة ولايته الأولى، قلّص الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشكل كبير مشاركة الولايات المتحدة في منظمة التجارة العالمية، وتدهورت العلاقات مع الصين. وعند تولّي جو بايدن الرئاسة، بدأت إدارته بإظهار اهتمام متزايد بقضية “الساماريوم”.
محادثات تجارية
واجتمع مسؤولون كبار من الولايات المتحدة والصين في لندن، الاثنين، بهدف نزع فتيل توتر تجاري كبير اتسع نطاقه وتجاوز الرسوم الجمركية المتبادلة، فيما أبدت واشنطن استعدادها لإزالة القيود المفروضة على بعض صادرات التكنولوجيا، مقابل ضمانات بأن بكين ستخفف القيود على شحنات المعادن الأرضية النادرة.
وتستمر محادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين ليوم إضافي في لندن، حيث من المقرر أن يلتقي مسؤولون من الجانبين مجدداً الثلاثاء، بعد يوم أول مكثف، وفقاً لما أفاد به مسؤول أميركي لوكالة “بلومبرغ”.
وأنهى ممثلو البلدين يومهم الأول من المفاوضات في لندن بعد أكثر من 6 ساعات في “لانكاستر هاوس”، وهو قصر من القرن التاسع عشر بالقرب من قصر باكنجهام في لندن.
واختتمت المحادثات حوالي الساعة الثامنة مساءً بتوقيت لندن، ومن المقرر أن يلتقي المسؤولون مجدداً، الثلاثاء، الساعة العاشرة صباحاً.