– أمير حقوق
في قرى وبلدات القلمون الغربي بريف دمشق، تظهر بلدات جبعدين والصرخة ومعلولا، وكأنها مجتمعات ريفية قادمة من تاريخ طويل، لا تزال تتشبث باللغة السريانية وتنطقها كلغة أساسية.
وتعتبر اللغة السريانية أحد أبرز الجوانب الثقافية التي يتميز بها أهل المنطقة، كجزء لا يتجزأ من هويتهم المجتمعية، التي لا تزال تحافظ على تراثها العريق وثقافتها التي تمتد إلى آلاف السنين.
اللغة السريانية ليست مجرد لهجة، بل هي جزء من ماضٍ بعيد، حينما كانت السريانية لغة الإمبراطورية الآشورية والكلدانية، وكانت من أهم اللغات في المنطقة التي تضم ما يعرف اليوم بالعراق وسوريا وتركيا، وفق ما قاله أستاذ التاريخ المتقاعد في بلدة معلولا إلياس خوري، ل.
لغة التعامل والتعليم والكنيسة
في بلدات الصرخة وجبعدين ومعلولا، لعبت السريانية دورًا محوريًا في الحياة اليومية لسكان “الجارات الثلاث”، حسب وصف أستاذ التاريخ إلياس خوري، لدرجة أنها كانت لغة التعامل والتعليم والكنيسة في بعض الأوقات.
وأشار إلى أن أبناء “الجارات الثلاث” يعتزون بتاريخهم السرياني، ويصرون على الحفاظ على هذه اللغة وإحيائها، فظلوا يتحدثون بها في منازلهم، ويستخدمونها في الأعياد الدينية والمناسبات الاجتماعية.
وتتمتع السريانية في القلمون برمزية قوية جدًا، فهي تمثل أكثر من مجرد تراث لغوي، فكانت رمزًا للتعايش السلمي، ولا تقتصر ممارستها على المجتمع المسيحي فقط، بل تشمل المسلمين أيضًا، هذا التداخل بين الأديان يعكس تاريخًا طويلًا من التعايش والتفاهم بين مختلف المجتمعات في المنطقة.
نطق الأطفال لغة الأجداد
محمد سالم أحد سكان بلدة الصرخة، قال ل، إن السريانية من أقدم وأندر اللغات في المنطقة، ويحرص السكان على الحفاظ عليها، إذ يعتبرونها جزءًا من تراثهم الذي يتوارثونه عبر الأجيال.
السريانية هي اللغة المستخدمة في التواصل اليومي بين سكان القرية، مما يجعل من الطبيعي أن يتعلمها الطفل منذ الصغر، فمنذ ولادته، يجد نفسه في بيئة يتحدث فيها الجميع هذه اللغة، مما يجعله ينشأ ويتحدث بها بشكل تلقائي، بحسب ما أضاف محمد.
أكد مدرس التاريخ إلياس خوري، أن الأطفال ينطقون أولى كلماتهم باللغة المحكية في وسط بيوتهم، وأطفال “الجارات الثلاث” غالبًا ما يتحدثون السريانية قبل أن يتحدثوا اللهجة القلمونية الخاصة بكل قرية أو بلدة.
وأوضح أن لهجة سكان الصرخة القلمونية المحكية، تختلف عن لهجة سكان جبعدين، وتختلف عن لهجة سكان معلولا، أما السريانية فتوحدهم، مشيرًا إلى أن مدن وبلدات وقرى القلمون لكل منها لهجة خاصة.
نطق الأطفال اللغة السريانية يعكس تمسك أهل “الجارات الثلاث” العميق بجذورهم وتاريخهم، ويسهم في التأكيد على أن التراث الثقافي لا يمكن أن يموت إذا كانت هناك إرادة حقيقية لإحيائه.
ارتباطها بالحياة اليومية
في الحياة اليومية لأهالي البلدات الثلاث، لا تقتصر السريانية على كونها لغة تعلم فقط، بل هي جزء من واقعهم الاجتماعي، فخلال جلساتهم العائلية، وبينما يتناولون الطعام أو في رحلاتهم إلى أسواق القرى، يتواصلون بهذه اللغة التي ترتبط بالأصالة والتاريخ العريق، إذ أصبح الحديث بالسريانية بين الأجيال الشابة والمسنّة يشكل علامة تميز هذه المجتمعات عن غيرها من المناطق.
وفي الوقت نفسه، يظهر الفخر عند الأهالي الذين يرون أن الحفاظ على السريانية ليس مجرد مسعى تعليمي، بل هو التزام ثقافي ووجودي، ويُعبّر عدد من الأهالي عن مشاعرهم، معتبرين أن إحياء السريانية يعني إحياء جزء من تاريخهم الذي يربطهم بالأرض والأجداد، حتى في أصعب الأوقات.
كيف وصلت السريانية إلى القلمون؟
تاريخ وصول السريانية إلى منطقة القلمون هو جزء لا يتجزأ من التاريخ المسيحي في سوريا، ففي العصور القديمة، كانت للقلمون مكانة دينية وثقافية مهمة، خاصة مع انتشار المسيحية في المنطقة، وقد أسس الآشوريون والكلدان في المنطقة العديد من الكنائس والمدارس التي كانت تستخدم السريانية في العبادة والتعليم.
وعبر قرون من الزمن، تزاوجت السريانية مع اللهجات المحلية الأخرى، ما جعلها جزءًا من الحياة اليومية في القرى التي لا تزال تُستخدم فيها هذه اللغة حتى اليوم، وفق ما قاله أستاذ التاريخ إلياس خوري.
محمد سالم أحد أبناء قرية الصرخة قال، إن اللغة السريانية التي تعتبر مشتقة من الآرامية، لا تزال تُستخدم في البلدات الثلاث، ويعود سبب دخولها إلى أن سكانها الأصليين كانوا مسيحيين ويتكلمون السريانية.
وعلى مر الأجيال، تحوّل بعض السكان إلى الإسلام، بينما ظل بعضهم الآخر متمسكًا بالمسيحية كسكان بلدة معلولا، حتى أصبح اليوم سكان قريتي الصرخة وجبعدين يشكلون مجتمعًا إسلاميًا، مع الحفاظ على هذه اللغة النادرة، وهذا ما يعطيها نكهة خاصة، كونها كانت لغة المسيحيين، والمسلمون اليوم يحاولون الحفاظ عليها بالقريتين، وفق ما قاله محمد.
وتابع أنه رغم تأثر القرية بعدة حقب تاريخية، لم تتأثر السريانية بتلك التغيرات، بل ظلت اللغة الأساسية للتواصل اليومي بين الأفراد، وسكان “الجارات الثلاث” لا يعتبرون السريانية لهجة، بل هي لغة متكاملة تحمل رمزية قوية لهم، إذ إنها مشتقة من لغة السيد المسيح، مما يعزز شعورهم بالانتماء والتآخي بين المسلمين والمسيحيين في المنطقة.
اللغة السريانية هي إحدى اللغات السامية التي تنحدر من الآرامية، وقد كانت في الأصل لغة الشعب الآشوري في شمال بلاد الرافدين، تطورت السريانية في أوقات لاحقة لتصبح لغة الأدب المسيحي الكلاسيكي في مناطق شرق البحر المتوسط، وخاصة في بلاد الشام والعراق، وفق مصادر متعددة.
ظهرت الآرامية في القرن الـ11 قبل الميلاد في مناطق وسط وشمالي سوريا، ثم أصبحت لغة الممالك الآرامية مثل: دمشق، أرفاد (تل رفعت)، بيت عديني، حماة، الرها (أورفه، أورفا الحالية).
وكان للسريانية دور بارز في الفكر المسيحي القديم، إذ كانت اللغة المستخدمة في الكتابات الدينية والفلسفية، بما في ذلك الكتابات المسيحية التي تمثل جزءًا مهمًا من التراث الأدبي والروحي.
السريانية تُكتب بالحروف السريانية، التي هي اشتقاق من الأبجدية الآرامية، وتعتبر إحدى أقدم اللغات التي تُكتب بهذا النظام، كما أن السريانية كانت لغة طقوسية ودينية في العديد من الكنائس الشرقية، بما في ذلك الكنيسة السريانية الأرثوذكسية والكاثوليكية، والكنيسة السريانية المارونية.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي