كنت أرغب في جعل عنوان هذا المقال “السلم والثعبان: لعب عيال فعلاً”، على طريقة الناقد الراحل سامي السلاموني الساخرة، ولكنني تراجعت خشية أن يشعر صناع الفيلم بالإهانة، بما أن التعبير العامي المصري يحمل التقليل من شأن المشار إليه، ووصفه بأنه غير مسؤول أو جاد في تصرفاته.
تخرجت من استخدام التعبير، بالرغم من أن مخرج ومؤلف الفيلم طارق العريان لم يجد غضاضة في إطلاقه على الفيلم.
وهو يقصد بالطبع تصرفات أبطال الفيلم وخاصة أحمد (عمرو يوسف)، وهو زوج وأب يهجر زوجته الجميلة ملك (أسماء جلال) لأنه يريد استرجاع أيام “الشقاوة” ويتمنى لو تشاركه زوجته تخييلاته “الرومانسية”. ينفصل الزوجان، ولكن في إحدى الحفلات يلتقي أحمد بملك، فيعود إليها لمدة ليلة، قبل أن ينفصل عنها ثانية، ثم يعود ثالثةً، إلى آخر هذا النوع من “لعب العيال”!
ربع قرن عيال
ولكن ما الذي دفع العريان وفريقه إلى صنع فيلم عن رجل “عيل” أو بتعبير أليق: غير ناضج عقلياً ونفسياً؟ وما هو نوع الرحلة التي يجب أن يخوضها هذا الرجل لكي يصل إلى النضج؟
لكي نجيب على السؤال الأول، علينا أن نعود في الزمن ربع قرن، وبالتحديد 2001 حين صدر فيلم “السلم والثعبان” من تأليف وإخراج العريان أيضاً حول رجل غير ناضج آخر، اسمه حازم، لعب دوره هاني سلامة، مطلق ولديه ابنة، مدمن للخمر والسهرات الحمراء، يقع في حب فتاة رقيقة اسمها ياسمين (لعبت دورها حلا شيحة)، ولكنه لا يتخلى عن سلوكياته وعاداته الأنانية، ما يدفعها إلى هجره ورفض العودة إليه.
وهذا الرفض يؤلم حازم لدرجة أنه يتغير بالفعل (على الأقل مؤقتاً) ويتزوج الاثنان في النهاية، ذلك الزواج السينمائي الذي يوحي بأن البطلين سيعيشان في حب وسعادة إلى الأبد!
هموم ملكية
رغم أن الشخصيات مختلفة في الفيلم الجديد، لكنها بمثابة امتداد لحكاية الحبيبين: أحمد وملك تزوجا عن حب منذ 10 سنوات، ولا يوجد أي مشكلة “خارجية” تعكر صفو حياتهما، لم تزل ملك في قمة أنوثتها، ولم يزل أحمد وسيماً فحلاً، ناجحاً في عمله كمهندس معماري، وهما يعيشان في رفاهية ورغد لا يملكه ملك وملكة بريطانيا: بيتهما أشبه بالقصر الفاخر، وعندما ينتقل أحمد للعيش بمفرده يعيش في شقة فاخرة شاسعة لا تقل عن بيت الزوجية، طبعا ناهيك عن نوع الحياة نفسها، إنهما يرفلان في أغلى السيارات والثياب، وحمامات السباحة المنزلية والمجوهرات وساعات المعصم الذهبية (هناك لقطة غريبة يفتح فيها البطل خزانة مليئة بالساعات الثمينة، كما لو أنه أحد أمراء العصر، وهم يقضون أوقاتهم بين المطاعم والبارات واليخوت الفاخرة وكل أنواع “الجواري”، أقصد هؤلاء الأجنبيات العاريات اللاتي يتعامل معهن الفيلم كطالبات متعة رخيصات.
في المشهد الأول من الفيلم نرى أحمد بين زملاء عمله الرجال على متن يخت وسط عدد من الفتيات اللواتي يرتدين البكيني، والكؤوس المترعة بأفخر أنواع الخمور، وقد تعتقد، عزيزي المشاهد، أن هؤلاء مجموعة من أبناء المليارديرات المدللين العزاب، الذين يمضون حياتهم في اللهو والتسكع، وتحدي بعضهم على من يوقع بأكبر عدد من النساء، أو من يشرب أكثر عدد من الكؤوس، ولكن الحقيقة، كما يتبين بعض دقائق، أنهم موظفون في شركة هندسية، ومتزوجون ولديهم أبناء وبنات من مختلف الأعمار.
والمدهش أنهم جميعاً يخونون زوجاتهم، وأن هؤلاء الزوجات صديقات حميمات، وليس لديهم أو لديهن أي نوع من المشكلات، باستثناء أحمد وملك.
بعد 10 سنوات من العيش Happily Ever After يشعر أحمد بالملل من الحياة الزوجية، لأنه، حسبما يردد، يريد استعادة حالة الشوق والYيروتيكية التي كان يشعر بها مع زوجته.
الذكر الحائر
يتكرر هنا نمط الفيلم الأول: يخاف الرجل من الارتباط، ويريد أن يعيش دور الذكر الأبدي المنفلت من أي ارتباط، ولكن الحب يجذبه إلى الأرض، والمرأة العفيفة القوية تجبره على احترامها وقبول الدخول في عهد الزواج المقدس.
لا غبار على “ثيمة” الفيلم أو نمط البطل الذكر الذي يقدمه، وهناك عشرات الأفلام التي تناولته، ومنها الأصل الأميركي About Last Night، إخراج إدوارد زويك، 1986، الذي اقتبس منه “السلم والثعبان”، كما اقتبس منه فيلم أمريكي آخر، يحمل الاسم نفسه، في 2014!
يدور الفيلم الأميركي حول شابين بالغين متحررين، البطل والبطلة، لم يدخلا في علاقة جدية من قبل، ولكن ليس لديهما مشكلة مع الدخول في علاقات عابرة، وكلاهما يتعلم الالتزام عن طريق الحب، رغم أن الشاب هو الذي يستغرق وقتاً أطول في حسم تردده. وصديق البطل المتزوج ينال التوبيخ والرفض عندما يدخل في علاقة مع امرأة أخرى.
وفي كل الأحوال لا يوجد ملاهي ليلية أو شواطئ تلتف فيها فتيات أجنبيات ومحليات حول الأبطال الرجال، البطلة في “السلم والثعبان” لا تدخل في علاقات بالطبع، وحتى مع البطل تحافظ على تلك المسافة المعروفة للمرأة الشرقية العربية: لا شرب، لا مخدرات، لا جنس قبل الزواج، وإلا أصبحت واحدة من هؤلاء الرخيصات المتسكعات حول موائد الأبطال الرجال.
كل ذلك مفهوم بالطبع، خاصة بالنظر إلى تاريخ إنتاج الفيلم في بداية الألفية.
ولكن الآن بعد ربع قرن، لا بد أن يتساءل المرء عن الصورة التي ستقدم بها العلاقات بين الجنسين في الفيلم الجديد، ومن المدهش واللافت قدر التغيير الحادث ولكن للأسوأ!
نساء بلا ظلال
الرجل متعدد العلاقات حتى لو كان متزوجاً، وثنائية العذراء/ العاهرة لم تزل تخيم على العمل بطريقة أكثر بروزاً:
في الفيلم الأول كان الرابط الذكوري يقتصر على حازم وصديقه (أحمد حلمي). في “.. لعب عيال” الرابط يشمل عدة رجال، أصدقاء وزملاء عمل، أزواج، يعانون جميعاً، كما هو واضح، من حالة مراهقة متأخرة، بالمعنى الدارج، أو “عقدة الدون جوان”، بالمعنى الأدبي، المهووس بمصاحبة أكبر عدد ممكن من النساء.
والمدهش أكثر، كما أشرت، أن زوجات هؤلاء الرجال متواطئات أو مغفلات، حتى أن أحدهم وهو مصطفى (حاتم صلاح) يدخل في علاقة تؤدي إلى الحمل، ويتهرب من المرأة، ويمر الفيلم مرور الكرام اللئام على الموضوع في لقطة واحدة كوميدية، (حيث تتخيل ملك أن الفتاة على علاقة بأحمد)، ولا يعود الفيلم إلى ذكرها مرة أخرى، بل على العكس تبدو علاقة مصطفى بزوجته (فدوى عابد) أكثر استقراراً بمراحل من علاقة أحمد وملك.
مثلما تفعل الأفلام عادة، يركز “.. لعب عيال” على مشكلة البطلين فقط، دون أن ينتبه لحظة إلى أي من الشخصيات الأخرى ولا مشاكلها، ولكن الأمر هنا يتعدى حدود المنطق والحس السليم تماماً، فرغم أن مشكلة أحمد وملك تافهة مقارنة بمشاكل الحياة والحياة الزوجية وحياة ومشاكل المحيطين بهم، إلا أن العالم كله يتمحور حولهما، وبقية الشخصيات لا عمل لها في الفيلم والدنيا سوى مناقشة مشكلة أحمد وملك ومحاولة حلها. لا يوجد مشهد واحد يوحد ربنا يتعرض لمشكلة أي شخصية أخرى، من باب تعميق الدراما وصنع خطوط جانبية تعزز الخط الرئيسي، وتفتحه على آفاق أوسع، أو حتى من باب ذر الرماد في العيون.
هناك مشاهد بالجملة للنساء المجتمعات، وليس هناك نقاش سوى حالة ملك، والأمر نفسه بالنسبة لـ”شلة” أحمد وأصحابه: ليس هناك شيء يناقشونه في العالم سوى مشكلة أحمد، ولا أعتقد أن المسألة لا تتعلق بقلة كفاءة كاتبي السيناريو (العريان وأحمد حسني) بقدر ما يتعلق بحالة النرجسية التي يعاني منها الفيلم وبطله، ويكشف المشهد الختامي من الفيلم قدراً من المبالغة السخيفة التي تفاقم هذه الحالة النرجسية المرضية.
خيال نرجسي
يؤكد هذه الحالة الطريقة التي ترسم بها شخصيتي أحمد وملك:
أحمد في النهاية شاب طيب، والإشارات العابرة إلى سلوكيات أصدقاءه، مثل صديقه مصطفى الذي يتهرب من صديقته الحبلى، ومديره حسين (ماجد المصري) الذي يخون زوجته بانتظام، موجودة فقط لتبين أن أحمد، رغم كل شيء، لا يخون ملك، وأنها، فقط، كانت تسيء الظن به!
وبالطبع ليس في حياة ملك سوى أحمد، وعندما تذهب مع صديقاتها إلى حفل على يخت يجمع رجالاً وفتيات بالمايوهات مثل حفلات زوجها وأصدقاءه، فهي تفعل ذلك لكي تثير انتباهه فقط.
وعندما يحاول حبيبها القديم أمير (ظافر العابدين) أن يظفر بحبها بعد انفصالها عن أحمد، فهي تظل مخلصة جسدياً ونفسياً لزوجها السابق، إن وجود أمير في الفيلم لا يتعلق بملك ومشاعرها، ولكن بنرجسية أحمد التي تجرح برفض ملك له، وتستدعي أن تداوى باستعادة المرأة نفسها التي رفضته.
في مشهد مبكر من الفيلم، بعد انفصالهما الأول، يفشل أحمد في الوفاء بمهمة عمل، فينتابه ما يشبه الهلع، ويهرع بالذهاب إلى ملك ليبكي بين يديها، مردداً “أنا جامد.. أنا واثق من نفسي”.
وعندما يدخل في تراشق لفظي مع مصطفى أثناء سهرة شرب، يردد بانفعال: “أنا مهندس وأنت سباك.. ما ينفعش أكون مهزأ زيك” ويستطرد على طريقة هاملت “يا أبقى يا مبقاش” (يعني “أكون أو لا أكون” بالعامية المصرية!)، ولكن سؤال هاملت الوجودي بالنسبة لأحمد هو قدرته على امتلاك ملك، وكل النساء وكل متع العالم.
هذا الكبرياء الاستعراضي لشخصية أحمد، الذي لا يفكر سوى في نفسه ورغباته، يتجلى أيضا في علاقته بزوجته وأطفاله، إما يتعامل مع زوجته على أنها امرأة غريبة – من الشارع- يتعرف عليها في إحدى الحفلات، ويصحبها إلى البيت، وفي مرة ثانية يطلب منها أن ترتدي ملابس راقصة شرقية وترقص له، ولكن بمجرد أن تطلب منه أن يعودا كزوجين يتهرب منها.
وعلى مدار الفيلم كله لا يبدي أحمد أي اهتمام بأطفاله، وفعلياً يختبئ منهم عندما يتسلل إلى مخدع زوجته (بعد عودته إليها في المرة الأولى). وملك تصفه عندما يفيض بها الاحتمال: “أنت أناني وتافه وعينك فارغة”، لا ينكر الفيلم مشكلة بطله، ولكنه يحاول تعويضها بتصويره، وقد ندم بشدة على أفعاله، من خلال تمسكه بالعودة إلى ملك وإلحاحه عليها، وتعرضه للإذلال لفترة طويلة، تنتهي بترتيبه لحفل وهمي ليعتذر لها أمام الجميع، ولكن ما الذي نراه بعد هذا الحفل؟ مجموعة من المشاهد القصيرة يحقق من خلالها كل تخييلاته الحسية التي تشاركه إياها ملك: مرة كراقصة وأخرى كخادمة وثالثة كممرضة.. إلى آخر التخييلات السادوماسوشية التي يقدمها الفيلم باعتبارها الـHappily Ever After الجديدة (وليس مجرد الزواج كما في الفيلم القديم).
يحمل الفيلم نظرة شديدة الرجعية إلى المرأة: كل الزوجات لا يعملن ولا يفعلن سوى الثرثرة والنميمة وتربية الأطفال. وكل غير الزوجات منحلات ومباحات، خاصة الأجنبيات، يعرض مصطفى على أحمد أن يترك له فتاة برازيلية (من شلة بنات أجنبيات قاموا باصطيادهن)، وعندما يرفض يقول له “يمكن تجوع بالليل”. هكذا يتعامل الفيلم مع النساء باعتبارهن وجبة ومع الأجنبيات باعتبارهن مجرد سلعة جنسية، يعج الفيلم بمثل هذه الـ”إيفيهات” الذكورية “المضحكة”. وهي ذكورية لا تقتصر على الرجال، ولكن نساء الفيلم (صديقات ملك وأمها) يتبنين الأفكار نفسها، ومن يشاهد الفيلم مع الجمهور يمكنه أيضاً أن يلاحظ أن الكثيرات من المشاهدات يتقبلنها بشكل واعٍ أو غير واعٍ!
فخامة الفراغ
أشرت إلى مظاهر الفخامة التي يعيش فيها أبطال الفيلم، وهي فخامة منزوعة عن أي سياق، فلا عمل هذه الشخصيات (في شركة تطوير عقاري صغيرة) يتيح لهم أن يعيشوا مثل هذه الحياة (حتى لو كانوا يعملون في أميركا أو دبي!)، ولا طبيعة هذا العمل، كبنائين ملتصقين بالحجارة والحديد والرمل تتفق مع نمط حياتهم البوهيمي الذي لا يشغل فيه مكان العمل سوى دقائق معدودة من زمن الفيلم.
حتى رجال العصابات وغاسلي الأموال وتجار العملة يكونون مشغولين أكثر من ذلك! ولكن الملفت أيضاً هو نوع هذه الفخامة التي تتشكل في خواء معماري وحضري لا وجود فيه للآخرين ولا لمظاهر الحياة، لا جيران ولا خلفيات مسكونة بالبشر، وحتى مشاهد الشوارع تخلو من أي معالم أو علامات بارزة للمكان، كما أن البيوت من الداخل تبدو نظيفة وخاوية كأنها صور في “كاتالوج” أو مجلة للديكور.
“.. لعب عيال”، كفيلم، عمل جماهيري ومسلي بفضل بطليه والكيمياء التي تجمعهما: أسماء جلال لطيفة وجذابة، وتعرف متى تبدي الضعف ومتى تظهر القوة، عمرو يوسف مناسب جداً للدور، إذ يصدر دوماً شخصية الفحل المنشغل بذاته، بالرغم من أن أداءه يضعف كثيراً حين يحاول أن يبدو ضعيفاً، هناك شيء يقف حائلاً، دون أن يترك نفسه لمشاعره كممثل.
بقية الشخصيات مجرد أنماط من دون حياة، رغم محاولات حاتم صلاح وعمرو وهبة الإضحاك، أماكن التصوير جميلة وكذلك فتيات المايوهات والموسيقى التصويرية.
ولكن، في النهاية، يبدو الجميع مسطحين، ذوي وجه وبعد واحد، مثلما نراهم عادة في حفل أو سهرة، يرقصون ويمرحون، ويشربون، فقط حين نستيقظ في الصباح ربما نراهم ونرى العالم المحيط بهم بعيون مختلفة.
