لا يزال الشاب السوري ديار خال يتذكر لحظة وصوله إلى ألمانيا في 16 ديسمبر 2014، بعد الساعة 6 مساءً ببضع دقائق، كانت تلك اللحظة بمثابة نهاية فترة ضياع طويلة منذ فراره من الحرب الأهلية في سوريا وهو في سن 12 سنة، ثم قضى 3 سنوات من العمل لساعات طويلة بوظائف شاقة في تركيا.
في ذلك الوقت، لم يكن خال يعلم سوى أن ألمانيا هي موطن ”مرسيدس“، لكن بعد مضي أكثر من عقد بقليل بات يتحدث الألمانية بطلاقة، ويعيش في مدينة مانهايم الصناعية، ويُوظّف 15 شخصاً بدوام كامل في شركته الناشئة التي تُطوّر تطبيقاً يهدف إلى مساعدة المهاجرين على التغلّب على البيروقراطية الألمانية. إنها قصة نجاح غالباً ما يتجاهلها الجدل المحتدم بشأن الهجرة في ألمانيا.
حصل أكثر من 83 ألف سوري على الجنسية الألمانية، العام الماضي، وهي أكبر جالية بفارق كبير، وبات نحو ثلثي اللاجئين الذين وصلوا بين عامي 2013 و2019 يشغلون وظائف الآن، وفقاً لمعهد أبحاث التوظيف.
عندما بدأت الأزمة، كان يمكن اعتبار انخراط نصف اللاجئين في العمل نجاحاً، نظراً للعوائق الكبيرة أمام الاندماج، بحسب رئيس دراسات الهجرة في المعهد الذي تموله الدولة، هربرت بروكر.
وأضاف: “هناك تكاليف باهظة في البداية، ولكن مع بدء اللاجئين العمل، لم يعودوا يشكلون عبئاً على المالية العامة.. الكأس باتت ممتلئة ولا توصف بأنها نصف فارغة”.
ويمكن للمهاجرين أن يستمروا في إعادة ملء الكأس، بحسب مارتن فيردينج، عضو المجلس الألماني للخبراء الاقتصاديين، الذي يقيّم سياسات الحكومة.
ويقدّر فيردينج، أنه في ظل المستوى الحالي للهجرة، فإن كل وافد جديد يساهم بمبلغ 7100 يورو (نحو 8300 دولار) في ميزانية الدولة سنوياً في العقود المقبلة، أي نحو 3 مليارات يورو سنوياً.
يعود ذلك أساساً إلى أن الهجرة تُضيف دافعي ضرائب شباب إلى القوى العاملة، ما يُوزّع نفقات المعاشات التقاعدية على عدد أكبر من الناس.
وقال فيردينج: “الجدل يشهد استقطاباً كبيراً.. من المنظور الديموجرافي، نحن نعتمد على الهجرة”.
تُعدّ ألمانيا بؤرة أزمة الهجرة في أوروبا منذ رحّبت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، قبل نحو عقد، بالسوريين وغيرهم من الفارين من الصراعات، وهو ما أثار ردود فعل عنيفة لا تزال تتردد في جميع أنحاء المنطقة، إذ يستغلّ الشعبويون اليمينيون المتطرفون القلق لقلب النظام السياسي رأساً على عقب من إيطاليا إلى بريطانيا.
بلغ خال من العمر 26 عاماً، وله شقيق يعمل طبيباً في دوسلدورف وشقيقة تستعد للعمل معلمة في مدرّسة بمدينة شتوتجارت.
وقال خال: “في أيامي الأولى، كان الوضع أكثر ترحيباً، لكن مع إلقاء اللوم على الأجانب في مشكلات مثل ارتفاع الإنفاق على الرعاية الاجتماعية ونقص المساكن، أحياناً لا أشعر بالرغبة بأن أؤدي دوري”.
وغالباً ما يعاني اللاجئون لدى وصولهم بسبب تعرضهم لصدمات نفسية، وقلة من يتحدثون الألمانية بينهم، وافتقارهم إلى مهارات العمل.
كان هذا حال خال، الذي فرّ من سوريا إلى تركيا وقضى سنوات مراهقته المبكرة يعمل لإعالة أسرته، وعندما وصل إلى ألمانيا، واجه صعوبة في مواصلة دراسته وعانى من الاكتئاب، لكن في نهاية المطاف أصبح أول لاجئ يشارك في تدريب مهني لدى شركة ”روبرت بوش“ لتصنيع مكونات منتجات صناعية.
وفي عام 2020، بدأ دراسة الأمن السيبراني في مانهايم، وبعد عامين أسس تطبيقه “نيوستارترز” للمهاجرين.
وقال: “لو استطعت التحدث إلى المستشار الألماني، لقلت له: من فضلك لا تُركز كثيراً على الهجرة.. الاندماج هو الأهم”.
وبسبب زيادة نسبة الشيوخ بين سكانها، تحتاج ألمانيا إلى الهجرة للحفاظ على قوتها العاملة، بواقع 400 ألف شخص جديد سنوياً، وفقاً لمركز (DIW) للأبحاث. لكن بدلاً من الاستفادة من إمكانات طالبي اللجوء، منعت الدولة في البداية عملهم فحرمت نفسها من مهاراتهم وخبراتهم.
كما ارتكبت السلطات الألمانية أخطاءً أخرى، مثل تسكين اللاجئين في الأرياف، وعلى الرغم من توفر السكن ورخص ثمنه، إلا أنه يُعقّد عملية الاندماج، إذ غالباً ما تشهد هذه المناطق ارتفاعاً في معدلات البطالة.
لكن حتى في هذه المناطق، هناك قصص نجاح مثل قصة ريان الشبل ابن الأقلية الدرزية السورية الثلاثيني، الذي فرّ خشية التجنيد الإجباري في الجيش السوري، عام 2015.
بعد عامين من وصوله إلى ألمانيا، بدأ ريان تدريبه في الحكومة المحلية لمدينة ألتينجستيت، وهي بلدة يبلغ عدد سكانها نحو 8000 نسمة وتقع في الغابة السوداء، وحصل على الجنسية الألمانية في 2022، وفي العام التالي، انتُخب رئيساً لبلدية أوستلسهايم، وهي بلدة صغيرة مجاورة، وحصل على 55% من الأصوات.
وقال الشبل وهو يعتريه القلق إزاء هجمات على أقاربه في سوريا حديثاً: “بالطبع، ربما تفكر في العودة في وقت ما، لكن مع مرور الوقت، اتضح أن الأمر لن يكون سهلاً الآن أشعر وكأنني في وطني هنا”.
الدعم المالي الحكومي لتعليم اللغات وغيره من المساعدات للوافدين الجدد يتعرض لضغوط متزايدة مع خفض الإنفاق الاجتماعي، وفق جمعية “يوهانيتر”، وهي جمعية خيرية مسيحية تقدم مساعدات إنسانية في ألمانيا وحول العالم.
وقالت آن إرنست، التي تعمل في إدارة الأزمات مع الجمعية: “المواقف حيال هذه القضية تشدّدت.. كان الدعم هائلاً في 2015، لكن الآن، أصبح المواطنون العاديون أقل استعداداً للتبرع بوقتهم وأموالهم”.
وحاول المستشار فريدريش ميرتس تهدئة المشاعر المعادية للهجرة من خلال وعده بكبح الهجرة غير النظامية، وشدّد الرقابة على الحدود، ومنع دخول اللاجئين رغم وجود أمر قضائي بوقف هذه الممارسة.
واستجابت بولندا بفرض ضوابطها الخاصة، فوترت التضامن الأوروبي.
وفي يوليو، قال وزير الداخلية ألكسندر دوبريندت للمشرعين الألمان: “نحن نحول موجة الهجرة إلى انعطافة إلى الوراء”.
وأصرّ ميرتس على أن هذه الاستراتيجية ستُضعف من صعود حزب “البديل من أجل ألمانيا”، وأصبح هذا الحزب اليميني المتطرف المناهض للهجرة ثاني أقوى كتلة في البرلمان (البوندستاج)، ويُضيّق الفجوة مع الكتلة المحافظة الحاكمة.
لكن هناك شكوك جدية بشأن فعالية هذه الإجراءات، سواء في الحد من الهجرة أو في إضعاف الحزب، الذي تُظهر استطلاعات الرأي أنه يحظى بدعم ربع الناخبين الألمان.
شهامة بطرس، التي فرت من دمشق إلى برلين منذ نحو 10 سنوات، ترى أن مثل هذه المواقف تُضخّم الانطباعات السلبية عن الهجرة وتُنفّر المقيمين.
وأضافت شهامة، التي تعمل بدوام كامل كمديرة في منظمة مسيحية تُساعد الأطفال والمراهقين الذين يواجهون صعوبات: “لا أفهم هذه العقلية. عندما يطلقون عبارات من قبيل: أخرجوا اللاجئين، ماذا يمكنني أن أفعل؟ أنا لم أرتكب أي خطأ”.
عندما وصلت شهامة مع ابنتيها وزوجها، لم يكن أيٌّ منهم يتحدث الألمانية، لكن الآن تدرس ابنتها الكبرى الطب في هامبورج، بينما ستبدأ الصغرى دراستها الجامعية في بيليفيلد، الخريف المقبل.
وأضافت: “إنهما مستعدتان للعب دورٍ في هذا المجتمع. لم يكن البدء من الصفر سهلاً، لكن هدفي كان منح أطفالي كل فرصة ممكنة”.
هذا المحتوى من “اقتصاد الشرق”.