السيف الدمشقي.. لغز الصلابة والفن والتاريخ

– كريستينا الشماس
اشتهر السوريون، وخصوصًا الدمشقيين منهم، عبر التاريخ بأنهم حرفيون مهرة، واستطاعوا الحفاظ على حرف توارثوها عبر الأجيال، وارتبط العديد من اسم المهن اليدوية بالعاصمة السورية دمشق مثل السيف الدمشقي، وقماش الدامسكينو، والموزاييك.
وما بين التاريخ والأسطورة، أخذ السيف الدمشقي خصوصيته عند الحرفيين، ويعود تاريخه إلى ما قبل الإسلام، ويعتقد أنه ابتدأ في عصر ديوقلسيان الروماني، ثم استمر في العهد البيزنطي، وتشير روايات التاريخ إلى “السيف الشامي” الذي كان يصنع في بصرى الشام عاصمة الغساسنة.
ورغم تعدد السيوف، وصناعتها لدى سائر الأمم، فإن السيف الدمشقي احتفظ بميزة استثنائية في صناعته من “الفولاذ الجوهر”، أو الفولاذ الدمشقي أو “المدمشق”، وهو نوع من الفولاذ المستخدم لصناعة نصل السيوف، وكان يتم جلب الحديد من مناجم الأناضول في أماسيا وأضنة وكيليكية العليا.
ازدهرت صناعة السيف الدمشقي في عهد الدولة الاموية، ثم خلال الفترة العباسية، وسمي بذلك نسبة إلى العاصمة دمشق، حيث تصنع وتباع فيها السيوف، وتوسع انتشار صناعتها إلى المدن المجاورة مثل حلب، كما وصلت إلى مصر في عصر المماليك، ثم الأندلس، إلا أن ذاع صيتها كثيرًا إبان الحملات الصليبية.
رمز في الحروب الصليبية
يمكن تتبع أصول السيف الدمشقي إلى عام 500 بعد الميلاد، وتحديًدا في الهند، فكان يُطلق عليه اسم فولاذ “تيلانجانا” أو “ووتز” أو “أوكو”.
ثم وجد طريقه إلى دمشق، التي كانت مركزًا لتجارة معدات الحرب مثل السكاكين والسيوف والدروع.
اكتسب شهرة في أثناء الحروب الصليبية، فكان الفولاذ الدمشقي هو الاسم الذي أطلقه الصليبيون على الفولاذ الذي شهدوا صلابته في تقطيع سيوفهم ذات الجودة الأقل، حيث يقطع السيف الدمشقي إلى نصفين بضربة واحدة دون أن يفقد حدته أبدًا.
سر كامن في صناعته
كان الفولاذ الذي صاغه حدادو السيوف في دمشق القديمة سرًا محفوظًا جيدًا لدرجة أنه لا يمكن تكراره تمامًا حتى اليوم، إلا على يد حرفيي المهنة الذين توارثوا سر صناعة الفولاذ والحفاظ على جودته.
واضمحلت صناعة السيوف من الفولاذ الدمشقي تدريجيًا، إلى أن اندثرت تلك الحرفة في فترة بين القرنين الـ18 والـ19 لعدة أسباب، من بينها انقطاع الطرق التجارية التي كانت تزود وتؤمّن الفولاذ الهندي، أو تغيّر مواصفات المواد الخام الداخلة في تركيبه.
الغزو المغولي في عهد تيمورلنك، الذي جمع الصناع والمهرة البالغ عددهم نحو 15 ألفًا من أشهر حرفيي صناعة السيوف، ونقلهم إلى سمرقند، أسهم في تراجع هذه الحرفة بدمشق.
وبُذلت محاولات عديدة لإعادة إنتاج السيف في أماكن متعددة، ولكن الصناعة الأصلية بقيت حكرًا على يد حرفيي سوريا، ولا تزال لغزًا لا يستطيع تكراره إلا الأقلية منهم، الذين حافظوا على هذه الحرفة ومارسوها على مر السنوات.
طريقة الصنع
تدخل في تركيب السيف الدمشقي أسلاك وأنابيب كربونية نتجت عن خلط أجزاء نباتية معروفة من الأوراق والأغصان الخشبية، تضاف بمقدار محدد إلى خلطة الفولاذ المصهور، بالإضافة إلى استخدام أنواع من الخامات الغنيّة بالحديد.
يصهر المعدن ومن ثم يصقل بالشكل المطلوب، ويتم صنع الغمد بما يليق بانحناء السيف، وتضاف إليه النقوش أو الأحجار الكريمة.
مع مرور العصور والزمن اختلفت أشكال السيف، من خلال انحنائه ووزنه، وشكل غمده النحاسي غير القابل للصدأ والملبّس بالجلد الطبيعي.
وفي مرحلة لاحقة، كانت الصبّات تخضع للتطريق وتشكل على هيئة نصال، وقد تميّزت السيوف بنقوشها الفريدة، وقوتها ومقاومتها للاهتراء، وقابلية الشحذ، والوزن الخفيف، إضافة إلى جمال التصميم.
كما امتازت السيوف الدمشقية عن غيرها بظاهرة فنية عرفت باسم الجوهر، وهو تموجات وبقع تظهر على النصال.
حرفة باقية في دمشق
استطاع عدد قليل من حرفيي مهنة السيف الدمشقي، الحفاظ على سر صناعته، خاصة أن هذه المهنة متوارثة عبر الأجيال.
واقتصر عدد الحرفيين الموجودين في دمشق على ثلاثة أشخاص يصنع السيف الدمشقي العريق على أيديهم دون اللجوء لمكنات أو “مكابس” لإنتاج شكل شبيه بالسيف.
أيمن سميح الخضر، حرفي لمهنة السيف الدمشقي منذ (36 عامًا)، قال ل، إن خصوصية هذه المهنة تأتي من توارثها عبر الأجيال، فقد ورثها عن أبيه، ويأمل أن ينقلها لابنه، وهذا ما يشكل بنفس الوقت تحديًا لهذه المهنة، فروادها يقل عددهم مع تقدم السنوات.
ومفاتيح صناعة هذه المهنة، بحسب أيمن، تتعلق بالحب والإبداع والتركيز في أدق التفاصيل لإنتاج سيف حقيقي يجسد التاريخ به، فكل قطعة يصنعها تأخذ معه أيامًا وأسابيع ليقدمها بدقة وحرفية

سيف دمشقي مصنوع يدويًا-28 شباط(/كريستينا الشماس)7
دمشقي يعيد إحياء سيف عمره ألف عام
“لا يمكنني وصف شعوري عندما أدركت أنني استطعت إحياء قطعة عريقة من جديد، وكأنني خاطبت التاريخ من جديد بهذا السيف”، هكذا عبر أيمن عن سعادته عندما استطاع إعادة إحياء سيف صنع قبل 1000 سنة.
فصنعه حينها الصانع المملوكي الشهير يوسف سنقر، وأهداه إلى السلطان بايزيد خان الثاني، وهو من سلاطين الإمبراطورية العثمانية، حكم بين عامي 1481 و1512 ميلاديًا.
ويتم إهداء السيف الدمشقي إلى الآن لملوك وأمراء ورؤساء، بحسب أيمن، بحكم قيمة إبداع تصنيعه يدويًا.


السيف الذي أعاد تصنيعه بعد 1000 سنة على يد الحرفيي أيمن الخضر-28 شباط( كريستينا الشماس)
ويعاني حرفيو هذه المهنة قلة الطلب على السيف الدمشقي الأصيل، بسبب ظهور أشكال سيوف تجارية تصنع بأسوأ أنواع المواد (كالحديد والتنك)، بحسب ما قاله أيمن.
نصب السيف الدمشقي
امتدت خصوصية السيف الدمشقي ليكون أحد أشهر معالم دمشق، ويقع ضمن ساحة الأمويين، طوله 40 مترًا ويعتبر أحد رموز المدينة، وشعار التلفزيون السوري سابقًا، ومعرض دمشق الدولي.
بدأ العمل على بنائه في عام 1958، وافتتح في عام 1960، بمناسبة افتتاح الدورة السابعة لمعرض دمشق الدولي، واقترن نصب السيف الدمشقي كشاهد تاريخي وهوية بصرية راسخة في ذاكرة السوريين ترمز للقوة والشموخ وتربط أمجاد الماضي بإنجازات الحاضر.
شيد النصب في أثناء التوسعة التي طالت منطقة ساحة الأمويين، وعرف منذ بداية تشييده بأنه منصة أعلام للدول المشاركة في معرض دمشق الدولي.
يتكون النصب من واجهتين متقابلتين، الغربية منها تطل على ساحة الأمويين، والشرقية تشرف على منطقة باب معرض دمشق الدولي القديم، وقد شكل النصب بوصلة الزوار والسياح.
التصميم
أمينة المتحف الإسلامي في المتحف الوطني بدمشق، نيفين سعد الدين، ذكرت ل أن تصميم النصب شارك به عدد من المهندسين والحرفيين.
وقالت إن التصميم الأولي للنصب يعود للمهندس هشام المعلم، وتنفيذه إنشائيًا للمهندس عاطف السيوفي بإشراف المهندس سامي قدح، علمًا أن المهندس عبد المحسن القضماني هو من وضع اللمسات الأخيرة للتصميم النهائي في مصر عام 1960، خلال الوحدة بين سوريا ومصر، فيما يعود تنفيذ الهيكل الحديدي داخل السيف للحرفي حسن سعدو.
وأضافت سعد الدين أن انتقال معرض دمشق الدولي إلى مقره الجديد في مدينة المعارض على طريق المطار الدولي أفقد النصب وظيفته الأساسية بحمل أعلام الدول المشاركة.
تم تكليف الفنان إحسان عنتابي، عميد كلية الفنون الجميلة، والنحات مصطفى علي، بتجديد واجهتي النصب اللتين صممهما الفنان عبد القادر أرناؤوط، فاستخدم الزجاج المعشق، واستبدلت فكرة الأعلام بالأشكال الهندسية المجردة بشكل زخرفي فني يمزج بين النار والوردة، ليكون هذا النصب واحدًا من أهم وأكبر واجهات الزجاج المعشق في العالم، بحسب سعد الدين.
وأعلنت محافظة دمشق، في 26 من شباط الماضي، عن إعادة تأهيل السيف الدمشقي من جديد، والتي تشمل تركيب الألواح الزجاجية الملونة بعد إزالة الألواح المتضررة، وطلاء السيف من الخارج.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية
أرسل/أرسلي تصحيحًا
مرتبط
المصدر: عنب بلدي