“الشرع” إعلاميًا.. معركة بين شخصيتين
علي عيد
لم يكن لأحد أن يتخيل استجابة العالم لصورة مختلفة عن أحمد الشرع، الذي انتقل من مطلوب على القوائم الأمريكية، كزعيم لتنظيم مصنّف على قوائم الإرهاب، إلى صورة رجل السياسة، بصفة قائد الإدارة السورية الجديدة، وهل أصبحت هذه الاستجابة ناجزة أم أن هناك ما يهددها، وكيف يمكن فهم المعركة الإعلامية على الشخصيتين وبينهما في ذات الوقت.
لفهم طريقة ترسيخ المفاهيم والأنماط حول الأشخاص أو الأشياء، وصناعة الصورة أو التنميط، يمكن الرجوع إلى نظرية عالم الاجتماع البريطاني ستيوارت هول (Stuart Hall)، التي تحدد نظامين للتمثيل، هما “الخرائط المفاهيمية” (Conceptual Maps) واللغة (Language).
“الخرائط المفاهيمية”، هي ما يحمله البشر من انطباعات حول الأشياء، ما يعني إذا رأيت رجلًا ملتحيًا ولا يصافح النساء، فهذا يعني استحضار صور حول أشخاص معادين لحقوق المرأة أو يتبعون أجندة متشددة، حتى ولو لم يكن الأمر حقيقيًا، وعندها تستحضر مثلًا التنظيمات التي قامت بتحطيم الآلات الموسيقية أو الأوابد الأثرية أو حتى أصدرت قرارات بمنع دخول النساء إلى الجامعات، وهذا ما يحصل في نمط حكم “طالبان” في أفغانستان، أو حتى ممارسات تنظيم “الدولة” في سوريا والعراق.
أما نظام اللغة، الذي يشمل “الإيماءات واللغة المكتوبة والمنطوقة والصور وطرق الاتصال الأخرى”، بحسب هول، فهو الأداة التي يشترك فيها الناس في تفسير الأشياء لتبادل خرائطهم المفاهيمية، وأعطيكم مثالًا، عبارة “الله أكبر”، التي سببت رعبًا في جميع أنحاء العالم، على أنها تعني نية في ارتكاب عمل “إرهابي” بخلفية إسلامية، على الرغم من أن الناطقين بالعربية يستخدمونها حتى في مواقفهم الطريفة أو للاستهجان، أو للتعبير عن الدهشة، إضافة إلى معانٍ أخرى كثيرة.
دون استطراد، يضع هال ثلاثة نماذج للتمثيل، هي “النظرة العاكسة” أو “التأملية” (The Reflective View) وهي العلامات التي تعطي المعنى الحقيقي للأشياء، و”النظرة المتعمدة” (The Intentional View)، وهي أن تفرض على العالم معنى محددًا حيال شيء أو شخص من خلال العلامات التي تستخدمها لوصفه، و”النظرة البنائية” (The Constructionist View)، التي تعطي دلالة حقيقية وتراعي التغيرات.
مبدئيًا، يحاول الإعلام الدولي اعتماد “النظرة البنائية” للدلالة على هوية العهد الجديد في سوريا، وقائده، أحمد الشرع، إلا أن هذا النهج تهدده فوضى الصور والأخبار المضللة التي تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تسهم في تبني وجهات نظر على المستوى المحلي، وخصوصًا في موضوع الأقليات، ولذلك فإننا نرى بعض الإعلام يشتغل على ضرب بناء الصورة الجديدة، باستضافة محللين سطحيين أو ممولين، وخصوصًا ما يمثل منه وجهات نظر لا تتقاطع مصالحها مع المرحلة أو الهوية الجديدة في سوريا.
هل يعني هذا التفسير أن الصورة باتت على أكمل وجه؟ بالطبع لا، فالتغيير لم يصبح ناجزًا، لكن لا يمكن الحكم عليه من باب “الصورة النمطية” (Stereotype)، وهذا ما يدعو إلى تقدير حجم التغيير الحاصل في شخصية الشرع، وربما التنظيم أو المجموعة التي كان ينتمي إليها وينوي حلّها، وتفسير قلق المتضررين أو المتشكيين في إمكانية تحقق هذا التغيير، أو ما إذا كان مجرد محاولات لتثبيت الأمن للانتقال بعدها إلى مرحلة العودة إلى ما قبل الصورة الجديدة.
هل أدعو هنا إلى “ميكيافيلية” إعلامية لتثبيت حكم العهد الجديد، بالطبع هذه مسألة غير أخلاقية، لكن أحاول التحذير من مسألتين، الأولى ضعف الآلة الإعلامية التي تشتغل على نقل حقيقة التغيير، والثانية، حصول الضرر من استغلال “الصورة النمطية” السابقة لعرقلة التغيير، وفي هاتين المسألتين تفاصيل كثيرة، منها استخدام الدعاية المضللة، وتأجيج الرأي العام المحلي وتقسيمه إلى مجموعات متناحرة طائفيًا وعرقيًا، وتأخير تنفيذ الالتزامات التي يتحدث عنها الشرع، أو إعطاء الذرائع بفوضى تمنح سلطة الأمر الواقع مبررات منطقية لعدم الإيفاء بالالتزامات.
في الحالة السورية، يبدو أن هناك ثلاثة عوامل أساسية تساعد في تقبل السلطة الجديدة، الأول، تاريخ المرحلة الأسود، ومشاهد الرعب التي هزت ضمير العالم، والثاني، وجود مصلحة إقليمية دولية في التغيير بأبعاد جيوسياسية واقتصادية، والثالث، رسائل الطمأنة والتغيير غير العنيف الذي جرى في البلاد، وهذه العوامل ستستمر بالدفع بشكل إيجابي، لكنها ربما تصطدم بظروف داخلية، ليس الاقتصاد أهمها، حاليًا على الأقل، لأن السوريين شهدوا أسوأ ما يمكن أن تصل إليه الحالة المعيشية، وبالتالي فإن أي تحسن ستكون له انعكاساته الإيجابية، أما الخطر الحقيقي فهو تغذية الإعلام لنزعات داخلية، على أساس طائفي أو عرقي أو فصائلي، واندلاع دورة جديدة للعنف ترافقها فوضى يتم معها استحضار الصور التي اعتادها العالم لتوصيف الحالة السورية مع ربطها بتاريخ الجماعات الجهادية.
إعلاميًا، صورة الدولة التي تحمي جميع أولادها، وليس مجرد صورة الشخص “المخلص”، هي التي تعتبر أولوية لمنع شدّ عصب الجماعات، قبل تحليل طبيعة الجهات والمستفيدين، وهم موجودون بالضرورة.
تسهم “الصحافة البناءة” (Constructive journalism)، و”صحافة السلام” (Peace journalism)، في منع خطر عودة الفوضى، لكن ليس دورها أن تسكت عن المشكلات الأساسية في البلاد، فهذا يقع في صلب مهمتها، ويبقى خطر الإعلام حاضرًا، خصوصًا استغلاله مخاوف الناس من “الصورة النمطية”.. وللحديث بقية.
المصدر: عنب بلدي