ثمة تغييرات كبيرة في العاصمة السودانية، الخرطوم، يلحظها مباشرة من يعود إليها بعد أكثر من عامين على اندلاع النزاع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وتبدو المدينة المطلة على النيلين الأزرق والأبيض والتي كانت تعجُّ بالحياة، غير تلك التي هجرها معظم سكانها بسبب القتال، فقد تحولت إلى غابة مترامية الأطراف، ومكب هائل لمخلفات الحرب، إذ اجتاحت الحشرات المنطقة مسببة انتشار الأوبئة والأمراض، إضافة إلى انقطاع الكهرباء والمياه عن العديد من أحيائها.
لكن، في المقابل، بدأ الناس يعودون إلى الخرطوم، ويحاولون استعادة حياتهم السابقة في مدينة غدت بعض أحيائها مثل “مدينة أشباح”.
في حي “الخرطوم 3” العريق (جنوب وسط)، وفي صباحات خريفية منعشة، يضع معلّم الرياضيات السابق، صلاح إدريس، وجاره وصديقه، العامل الجنوب سوداني، بيتر قلويك، مقعدين أمام بيت صلاح، ويمضيان ساعات طويلة في استذكار 20 عاماً من الجيرة والصداقة، ويستعيدان، بذاكرة مثقلة، أيام الحرب، وهما يكافحان في هذا الحي، من أجل البقاء والنجاة.
وفي مكان ليس بعيد عن موقعهما، يعمل متطوعون، تحت أشجار ضخمة، في إعداد وجبة طعام جماعية، مؤلفة من العدس والمعكرونة والفاصوليا، لكنها، على أي حال، تشبع عشرات الأسر التي لم تغادر أو غادرت وعادت إلى المنطقة التي ما لا تزال تعاني انقطاعاً مستمراً في إمدادات المياه والكهرباء.
بينما يعمل بعض المتطوعين وعلى أيديهم علامات الغرز لطرد “حمى الضنك”، يعتمد صلاح وبيتر، كغيرهما من السكّان، بشكل رئيسي على المطابخ الخيرية، ويأملان أن تتحسن الأمور تدريجياً حتى في خضم ظروف قاسية يعيشانها حالياً.
“وحيد” في منزل تسكنه الأطياف
بخطوات واهنة، وحزن مقيم في عينيه، يمضي صلاح إدريس إلى داخل منزله. الغبار في كل مكان، والأواني مكدسة فوق بعضها في الصالة الكبيرة، التي كانت يوماً ما مجلساً دائماً له هو ولزوجته وابنه الوحيد، الذي رحل قبل أشهر فقط، مخلّفا جرحاً غائراً بصدر والده، ليُضاف إلى جراح الحرب.
وفي غرفة بسيطة، يعيش الرجل السبعيني، مكتفياً بها عن بقية بيت واسع، تسكنه ذكرى زوجة هجرته منذ سنوات، وابن رحل بالمرض، في حديثه لـ “الشرق”، يستذكر أنه أمضى سنوات حياته الـ75 عاشقاً للرياضيات التي كان يدرّسها، ملماً بأسرارها، وشغوفاً بتعليم التلاميذ ما يتيح لهم مستقبلاً أفضل.
ولم يبارح صلاح الحي الذي وُلد فيه مطلقاً، رغم حوادث كبيرة وقعت غير بعيد عنه، حين هاجمت قوى مسلحة وسط الخرطوم، عام 1976، غير أن الأمر لم يدم سوى 3 أيام، قبل أن يستعيد الرئيس السابق، جعفر نميري، سيطرته على مقاليد الأمور، حيث لا يبعد القصر الرئاسي عن “الخرطوم 3″ سوى أقل من كيلومترين”.
وعلى غرار كثيرين، ظنُّ صلاح أن الأمر هذه المرة لن يطول كثيراً، و”لن تكون الحرب بهذا السوء كله”. في اليوم الأول، انقطع إمداد الكهرباء والمياه. بقي وحيداً في المنزل، مستأنساً فقط بجيرانه الذين وجدوا أنفسهم محاصرين. كان تدبير الطعام ومياه الشرب مهمة شبه مستحيلة، لكن “مخزون” رمضان، آنذاك، أوفى بالمتطلبات إلى حين.
وبعد نحو 3 أشهر من تفجّر الحرب، اضطر مرغماً للخروج من “الخرطوم 3” تحت ضغط أسرته، متوجهاً إلى بيت شقيقته في جنوب العاصمة، ليمكث نحو شهرين، قبل أن تزداد الأوضاع سوءاً هناك، لينزح ثانية إلى مدينة “شندي” في ولاية نهر النيل، شمالي البلاد، وهي مسقط رأسه، حيث قضى هناك نحو عام ونصف، وما أن انحسر القتال في الخرطوم، حتى قرر العودة فوراً، رغم معرفته أن الأمور لم تتحسن كثيراً.
الجنوب سوداني الذي رفض المغادرة
لا يفصل بيت صلاح إدريس عن بيت بيتر قلويك سوى شارع ضيّق، لكنه اتسع على مدى عقدين لصداقة بين الرجلين لا تزال حديث سكان الحي.
وعلى عكس صديقه، يسكن بيتر مع زوجته وابنه وبنتيه، وكانوا قد غادروا جميعاً إلى “الكلاكلة” جنوبي الخرطوم، بعد نحو 5 أشهر من الحرب، بعد أن ضُرب الرجل المسن، وهو يدافع عن ابنتيه، موضحاً لـ”الشرق”، أنهما كانتا ستتعرضان لـ”الاغتصاب”.
وأشار إلى أن الرصاص بلغ باب منزله قبل أن يُبلغه مقاتلون تابعون لقوات الدعم السريع بضرورة مغادرته وأسرته المنطقة، حيث كان البقاء سيكلّفهم حياتهم جميعاً.
وكان بيتر من الذين رفضوا العودة إلى جمهورية جنوب السودان، في أعقاب استقلالها عن السودان عام 2011، وأصرّ على البقاء في الخرطوم، في “وطن لم ولن يتقسم” حسب قناعته، ليعمل في مخبز غير بعيد، محاولاً توفير لقمة عيش لأفراد أسرته.
ورغم أن الحرب ألقت بظلالها القاتمة على وضعه الاقتصادي، لكنه لازال متشبثاً بالبقاء، مفضلاً أن يُدفن في بقعة أحبّها، حيث نمت ذكرياته كلها فيها، وباتت الحياة ذاتها مقرونة بها، ولهذا، وفور هدوء الأحوال في “الخرطوم 3” عاد هو وأسرته إليها.
ويعتمد بيتر وعائلته جميعاً حتى الآن على “المطابخ الخيرية” رغم قلة ما تقدمه من طعام، فيما يجلبون الماء من بيوت بعيدة أنشأ أهلها وحدات طاقة شمسية وحفروا آباراً من أجل ماء الشرب.
البقاء على قيد الحياة بأقل القليل
لا تزال المطابخ الخيرية التي أُنشئت في الأشهر الأولى للحرب في السودان، بهدف تقديم الطعام لعشرات الآلاف من الأسر، تواصل العمل في عدد من مناطق العاصمة، لكنها تواجه ضغطاً متزايداً بسبب عودة الآلاف إلى المدينة، وحاجتهم إلى الطعام.
وفي حي “حِلة خوجلي” في الخرطوم بحري، يروي الناس الصعوبات التي يواجهونها لتدبير أمورهم والحصول ولو على وجبة واحدة تكاد لا تسد جوع شخص واحد.
وفي حديث لـ”الشرق”، قال المتطوع يزيد محمد إنه وبقية القائمين على مطبخ “حِلة خوجلي” الخيري، واجهوا مشكلات كبيرة جداً، إذ كان يتعيّن عليهم العمل تحت وابل الرصاص وانعدام الغاز، ما اضطرهم لاستخدام الحطب، وكانوا يضطرون لجلب الماء من نهر النيل، في رحلات صباحية محفوفة بالمخاطر.
وروت داليا عبد القادر، وهي ربة منزل من سكان “حِلة خوجلي” بالخرطوم بحري، كيف أن بعض السكان كانوا يخاطرون بحياتهم لجلب مواد تموينية من مناطق بعيدة، يتم توزيعها على أهل المنطقة، في الأيام الأولى للحرب، قبل أن يتجه الجميع لإنشاء مطبخين يقدمان الطعام لنحو 60 أسرة. غير أن الأمر لم يكن سهلاً، فتوفير المواد الغذائية كان مهمة شبه مستحيلة في مدينة يخيّم عليها الموت في كل زاوية.
واستطاع سكان الحي تدبّر أمورهم أيضاً فيما يتعلق بالدواء، إذ قامت ممرضة وحيدة بمهام وحدة طبية كاملة، بعد توفير القليل من الأدوية، أما الحالات الحرجة، فكان يتم نقلها، بعد مغامرة، إلى بعض المستشفيات العاملة.
والآن، بعد عودة عشرات الأسر إلى الحي، بات المطبخان يقدمان الطعام لنحو 400 عائلة، مع مخاوف من أن تُشكل عودة المزيد من العائلات ضغطاً في ظل الكميات المحدودة من الأطعمة.
لكن الجميع، على كل حال، متشبثين بالحياة، بل ويرون أن تجربتهم، على مرارتها، ولّدت لديهم خبرة واسعة في التعامل مع الظروف الصعبة، وخلقت لديهم نسقاً من التعاون فريد.
استعادة الوجه الثقافي
وغير بعيد عن حي “حِلة خوجلي” بالخرطوم بحري، في الجهة المقابلة من النيل الأزرق، يسبح مركز المدينة التجاري في سكون رهيب، لا تقطعه سوى سيارة عابرة أو عمال يعدون على أصابع اليد يعملون على ترميم محل تجاري، أو بائعة قهوة باحثة عن زبائن. إلا أن اللافت حقاً وسط الخرطوم، هو عودة الروح لمكتبات كبيرة، كانت مغلقة طوال أكثر من عامين.
فالدار السودانية للكتب، وهي إحدى أعرق دور النشر في السودان، أُعيد افتتاحها في موقعها بشارع البلدية في الخرطوم. وقال مالك المكتبة، أحمد عبد الرحيم، إن الخراب كان كبيراً، والكتب كانت مبعثرة في كل مكان ويعلوها الغبار والأرفف كانت على الأرض.
وفي حديث لـ”الشرق”، أضاف عبد الرحيم: “كان لابد أن نعيد ترتيب كل شيء. كانت هناك مشاكل في الكهرباء والمياه، لكنها حُلت”.
وبدوره أشار عبد الرحمن مكاوي وهو موظف في المكتبة، إلى أن “النظافة استغرقت 3 أيام. ثم بدأ فرز الكتب الإسلامية والتاريخية وغيرها، كل على حدة، ليتم تشغيل المكتبة مجدداً”.
ورغم أن الإقبال ما زال محدوداً على المكتبة، إلا أن بدر الدين عثمان، وهو زبون قديم، قال إن “عودة الدار السودانية للكتب هي الحياة كلها. حين علمت عن خرابها تألمت جداً. أنا متعلق بهذه المكتبة منذ عام 2008، وكنت أزورها كل خميس لشراء الكتب”.
وفي الشارع، قرب الدار السودانية للكتب، جلست بائعة قديمة، لإعداد القهوة والشاي للمارة. وتحلّق حولها نحو 7 أشخاص من أصحاب المحال والعمّال الذين يأملون في انتعاش الحركة التجارية مجدداً.
أما دار “المصوّرات”، في شارع الحرية، وسط الخرطوم، فهي وإن تعطلت عن العمل في موقعها هذا، إلا أن مشاركاتها في معارض الكتب، خارج البلاد، لم تتوقف، في محاولة لجعل الكتاب السوداني متوفراً للقراء، حتى في زمن الحرب.
وفي حديث لـ”الشرق”، قال مديرها العام، خالد الجوز: “دائماً ما نشارك في معارض الكتاب خارج السودان. شاركنا في نحو 7 أو 8 معارض، في الدوحة والرياض ومسقط والشارقة. كنا نطبع الكتب ونتحرك من القاهرة إلى هذه المعارك. آخر مشاركاتنا كانت في معرض الدوحة للكتاب في مايو الماضي”.