الشعور بالحرمان يعصف بغالبية السوريين
– حسام المحمود
تسير الحياة بنسق متسارع في طريق مزيّن أو “مفخخ” بالتقدم التكنولوجي، وزيادة حادة في أنواع الملذات البشرية ومستوياتها، التي لا تبدأ من الأطعمة وأشكالها، ولا تنتهي بالألبسة والرحلات السياحية، وتسليع كل ما يمكن تسليعه لخدمة رفاه من يملك ثمن الخدمة أو السلعة أو المنتج.
على هذا الطريق تسير أيضًا حياة شريحة واسعة من الشعب السوري، لكن بالاتجاه المعاكس منه، ما يجعل حالة التقدم المتسارعة التي تتطلب مواكبة وانتباهًا عاليين، سيرورة طبيعية للحياة، بينما تبدو حياة الشعوب الفقيرة، أو الشعوب الرازحة تحت خط الفقر، والتي لا يمكنها مواكبة الحداثة والرفاهية، خروجًا عن السياق، وإخلالًا بالصورة العامة، ما لم تكن سفرًا بالزمن إلى الماضي واستعادته وتحويله إلى حاضر، بينما تتعامل معه شعوب أخرى كمادة لاستحضار الحنين ربما، لا أكثر.
سخرية من الواقع
فاديا (36 عامًا) خريجة كلية التاريخ في جامعة “تشرين” تقدّم دروسًا خصوصية، قالت ل، إنها تشعر بالحسرة وبعض الغيرة عند مشاهدة المحتوى المتاح عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدًا ما يعكس رفاه الشعوب الأخرى.
ترى فاديا أن سوريا كبلد غني بالمقومات التي تخوله أن يكون كأي بلد متقدم، وشعبه مرفه كالشعوب الأخرى، “فلماذا لا نمتلك إدارة ذات ضمير وإحساس بالمسؤولية تجاهنا”.
تميل الشابة لأخذ الموضوع بسخرية وإلقاء نكات مع صديقاتها، من قبيل “محتارين شو تطبخوا، تعو نعمل متل الشيف فلان”، موضحة في الوقت نفسه أن المسألة مزعجة، لكنها عاجزة عن تغيير الواقع.
الأوضاع السياسية والأمنية والعسكرية التي غيّرت في حياة السوريين، أثرت على مستويات المعيشة لمن بقي داخل سوريا، بمعزل عن مكان الإقامة، طالما أن الأرض ومن عليها مشمولون بإحصائيات ودراسات وأرقام تعكس حالة فقر ونقص وتهديد بالجوع، ومن يقيم في الداخل السوري، يتعرض للمحتوى الذي تقدّمه وسائل التواصل الاجتماعي، فيرى أشهى الطعام في أقسى لحظات الجوع، ويتعرف عبر شاشة الهاتف المحمول على الأدوات والوسائل التي تقلّص منغصات الحياة، دون قدرته على الإفادة منها.
الشابة أشارت إلى وجود تأثير مباشر يتركه التعرض للمحتوى، وتأمل المشاهد الجذابة من حيوات الآخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وما ينشرونه من لحظات سعيدة في المطاعم والمتاجر والأسواق وغيرها.
“أحلم بالسفر إلى دول الخليج التي كان إعلامنا الحكومي يصفها بدول البعير حتى الأمس القريب”، قالت فاديا.
“تأثيرات نفسية، تفكير زائد، محاولة إيجاد حلول لتحسين المعيشة، أفتقد أحيانًا شعور التصالح مع الذات، والحقيقة نحن كبرنا قليلًا، لكن التأثير الحقيقي هو على الأجيال الأصغر سنًا التي ترى تلك المغريات ولا تستطيع أن تجاريها، فتلجأ إما إلى الاكتئاب أو سلوك طرق مدمرة لا أخلاقية مثل منصات البث المباشر”.
وإذا كانت هذه المشاعر أو الأفكار التي تتكون نتيجة التعرض للمحتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليست منحصرة بالسوريين، إلا أنها قد تبدو أعمق حين لا تكون المعطيات ثابتة، والأوضاع المعيشية والقدرة على توفير الاحتياجات الأساسية في تراجع مستمر، ما يبعد الفرد عن الزمن الحاضر أو الزمن المشتهى ربما.
مشاعر ندم
يشعر محمود بالأسف على حال بلاده، ويؤرقه الضيق المادي الذي يحرمه من ملذات كثيرة يراها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومتاحة في دول الجوار على أقرب تقدير.
الشاب البالغ 33 عامًا من العمر، يعمل في التسويق الإلكتروني، ويوضح ل أن الأولوية لرغيف الخبز، وهم المواطن يرتبط بساعة كهرباء إضافية، أو الحصول على أسطوانة غاز، وهي أمور لا تشغل بال السوريين المغتربين، أو غير السوريين أصلًا.
وبحسب محمود، فالتعرض لتسجيلات مصورة أو صور تستعرض رفاهية الحياة خارج سوريا يحرك مشاعر الندم على البقاء في سوريا، وعدم المغادرة ليعيش حياة الشباب التي حرم منها.
تعزز وسائل التواصل الاجتماعي هذا الأفكار لدى فئات من مستخدميها، وتؤثر في تعريف الاحتياجات والضروري في حياة الإنسان، بينما يتصاعد الهوس بالمادية فيتحول الثراء إلى شكل منظم ومقولب مع تعزيز الأفكار النمطية التي ترى في الغنى والثروة علامة عمل جاد، والفقر نتيجة كسل، وفق ما تظهره تقارير ودراسات حول تأثير وسائل التواصل.
وإلى جانب الدراسات التي تناولت تأثير وسائل التواصل على السلام النفسي للمتلقي، فإن قسوة الاشتهاء، وبروز احتياجات لا تلقى طريقًا للإشباع، جرى تناوله وطرحه في الأدب، من مجموعة كتاب، بعضهم ينحدرون من بلدان تواجه حروبًا مستعصية أو حروبًا متعاقبة، تحوّل كثير من مواطني الدولة إلى لاجئين ومهجّرين، فيقول الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، في قصيدة بعنوان “الشهوات”، يسرد خلالها كل ما يتمنى ويبتغي من الحياة، “وأنا لم أعد أشتهي أي شيء، فأنا أشتهي كل شيء”.
وفي كتاب “السلم المكسور.. كيف تؤثر اللامساواة في طريقتنا في التفكير والعيش“، يقول عالم النفس الاجتماعي كيث باين، إنه “عندما يجري تذكيرنا بأننا أكثر فقرًا أو أقل قوة من الآخرين، نصبح أقل صحة وأكثر غضبًا”، معتبرًا أن عدم المساواة “يدور حول حجم الفجوة بين الأثرياء والفقراء”.
ووفقًا لكيث باين، فإن مفهوم التفاوت أو التباين أو عدم المساواة يمنح الشخص شعورًا بأنه أشد فقرًا مما هو عليه، بالمقارنة مع من يمتلك مالًا أكثر منه، بالإضافة إلى رفع سقف التوقعات حول ما هو طبيعي.
الأرقام تتحدث
في سوريا، يحتاج 16.7 مليون مواطن سوري إلى المساعدة الإنسانية، بزيادة قدرها 9% على عام 2023، وفق تقديرات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
وذكرت المفوضية أن عام 2024 يدل على أن المؤشرات الإنسانية والاقتصادية في البلاد مستمرة في التدهور، وأن الوضع الاقتصادي “خطير على نحو متزايد”، ويشكل محركًا رئيسًا للاحتياجات.
ويحتاج 80% من السكان السوريين إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية في عام 2024، وفقًا لنظرة عامة على الاحتياجات الإنسانية لعام 2024 (HNO).
ويعاني نحو 55% من السكان في سوريا أو 12.9 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، منهم 3.1 مليون يعانون بشدة من انعدام الأمن الغذائي.
للحرمان أبعاد نفسية
الدكتور في علم النفس التربوي عامر الغضبان، أوضح ل أن هذه الحالة تسمى من الناحية النفسية بالحرمان أو الشعور بالحرمان، فالإنسان الفقير قد يكون محرومًا فعلًا أو يترسخ لديه الشعور بالحرمان، وقد لا تكون هناك أسباب موضوعية لذلك، لكن يترسخ في ذهنه أنه محروم، وهذا الشعور يمكن أن يمتد إلى مناحٍ أخرى، ويرافقه اليأس أو الإحباط، ومشاعر سلبية تجاه المجتمع المحيط أو المجتمعات الأخرى، وقد يرافقه انعزال حتى عن المقربين، أو المشابهين، ويمكن أن يسبب اضطرابات أخرى كالاكتئاب وغير ذلك.
هذه الظاهرة يمكن تلمسها بكثرة في مناطق متفرقة كالعشوائيات والمدن الكبرى المتطورة ذات الحراك الاقتصادي الضخم، فالناس يشعرون أن الأحياء القريبة والمباني القريبة فيها أناس مختلفون عنهم يتمتعون بالحياة، وفي حالات الهجرة واللجوء أيضًا، قد يكون هناك تفاوت اقتصادي أو اجتماعي، وقد يكون مجرد اختلاف يعزز الشعور بالحرمان، وبأن الآخرين سعيدون بحياتهم.
وبيّن الغضبان أن من يشعر باختلافه عن مجتمع آخر يرسم خارطة للواقع والعالم ويمنحها حدودًا معينة يضع نفسه ضمنها، ويتوقع اختلافات في نوعية البشر الموجودين في كل مكان بناء على الحدود التي رسمها، فتكون الخارطة لفكرة أنا والآخرين، أو نحن وهم، وقد تكون هذه الخريطة ملائمة للواقع ومتناسبة ليكون الفرد متكيفًا مع نفسه وقد لا تكون، إذ ربما تعتبر سببًا لعدم تكيف الإنسان نفسيًا.
في العصر الحالي، مع وسائل التواصل الاجتماعي، والعولمة وتقريب البعيد، وزيادة تدفق المعلومات، بما قد يغير الخرائط التي يرسمها الأفراد، ويغير نوعية المقارنات وطبيعتها، في الوقت الذي يترافق به الزخم الإعلامي مع ضخ الكثير من مغريات الحياة وتقديم نماذج غير واقعية لسعداء بالحياة بالكامل، وقد تكون الصورة واقعية لهؤلاء الناس أو غير واقعية لنوعية الحياة نفسها، فلا يمكن أن يعيش البشر إلى هذا القدر بمشاعر إيجابية كون المشاعر السلبية موجودة بنسبة كبيرة، وعدم إدراك هذه النقطة يولد لدى الإنسان تصورات معرفية جامدة نسبيًا، وقد يؤدي إلى مشاعر سلبية مترسخة تؤدي إلى اضطرابات نفسية.
وبحسب الدكتور عامر الغضبان، فيمكن ملاحظة آثار هذا الشعور في فئتين من المجتمع، الأولى فئة الآباء، حيث يطغى الشعور بالعجز عن أداء الدور الأبوي وتوفير احتياجات الأبناء، فيهرب الأب من هذا الدور، أو لا يهتم، أو يصبح عدوانيًا يعبر عن سلطته بطرق عنيفة.
كما يؤثر هذا الشعور على فئة المراهقين والشباب، ويتعلق أحيانًا بتشكيل هوية الإنسان التي تكون على أشدها في سن المراهقة، فيدخل الشعور في تعريف المراهق لنفسه، أو تعريف انتمائه، ويؤدي إلى عدم تقبله لمجتمعه أو تعويضه لهذا الشعور بوسائل أخرى، كالعنف وغيره.
وإذا ترافق الشعور بالحرمان مع عدم وجود آليات تربوية وتوجيهية في المجتمع، فقد يسبب ذلك نماذج معادية ورافضة للمجتمع وعدائية، فيرى الشخص كل ما في مجتمعه بصورة سلبية، فيتقمص نماذج من ثقافات وسلوكيات مجتمعات أخرى لتعزيز إحساسه بالتقدم والشعور بالذات، كما يمكن أن يسبب الأمر شعورًا باليأس والاستسلام والعبثية، بسبب الإحساس بغياب جدوى ما يفعله الإنسان على المدى القريب أو البعيد، وفق الغضبان.
التبسيط مشكلة
وبحسب رأي المتخصص النفسي، فمن أهم المشكلات في التعامل مع ظواهر من هذا النوع هي التبسيط، إذ لا يمكن أن يقدم ميدان علمي واحد التوصيف والحلول لهذه القضية، فظاهرة التفاوت والشعور بعدم المساواة هي ظاهرة عالمية كبيرة، والعلوم على اختلافها تشعر بتحدٍ يتعلق بتقديم نظريات وأسس علمية للتعامل مع هذه الظاهرة، مع وجود حركة في علم النفس لتأسيس نظريات تدرس تأثير تفاوت الطبقة الاجتماعية على الأفراد.
وفيما يتعلق بدور المجتمع في هذه الحالة، فالمجتمع ليس عاجزًا عن تلبية احتياجات أفراده، بل قد يكون عاجزًا عن إدارة موارده، إذ قد يكون المجتمع القادر على إدارة موارده حتى لو كان ضمن مجتمعات اللاجئين أو المهجرين، متمكنًا من حل مشكلاته وإنتاج أفراد أكثر نضجًا حتى ممن نشؤوا في مجتمعات أفضل اقتصاديًا، فيمكنه منح الإنسان فهمًا عميقًا للواقع، وإتاحة السعادة عبر أشياء بسيطة، وتعليم الإنسان على الذكاء الانفعالي والاجتماعي، وأن السعادة لا ترتبط بتغيير المجتمع.
كما يجب أن تكون الأسرة، وفق الدكتور عامر الغضبان، مكانًا لتزويد الإنسان بالقيم المساعدة والإيجابية، وبما يمكنه من التكيف مع الحياة حين يكون خارج الأسرة، فمن الضروري امتلاك الأسرة انفعالات إيجابية، بمعزل عن الفقر والغنى، وأن تحظى بلحظات سعيدة في حياة العائلة، مع ضرورة الانتباه إلى تكوين المراهق لهويته، وكيفية تعريفه لنفسه وما إذا كان الحرمان أساسيًا في التعريف، دون أن يعني ذلك تعليم المؤسسات الجيل القادم على الاستسلام للواقع كنوع من الترويض والقبول بالواقع السيئ كما هو، بل تعليمه الفهم الواقعي والتعامل الإيجابي والحفاظ على الذات بلا سلبية أو عدوانية.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي