علي عيد

بداية، ليست هناك مدرسة أو مذهب خاص بالصحافة النقدية، فهي سلوك مهني شديد الأهمية والحساسية، يحتاج إلى وعي وإلمام، وعدالة.

الصحافة النقدية تشبه عمل طبيب لا يكتفي بالنظر في وجه مريض أو مراجع، لتشخيص نوع المرض أو الإصابة، بل يذهب نحو تحليل الدم مثلًا ليقول كلمته، ثم يبقى متشككًا باعتبار الشك إحدى أدوات القرار السليم، ما يدفعه لإعادة طلب أشياء أخرى في مراجعة الحالة.

تعتبر الصحافة النقدية أن أي رواية من مصدر حكومي أو سلطة أو مؤسسات هي رواية غير نهائية، وليست هي الحقيقة النهائية، وهذا جوهر السعي وراء تقديم ما هو أكثر فائدة وأقرب للحقيقة.

يمكن القول إن الصحافة النقدية هي إحدى أهم الأدوات لمنع الانزلاق في مغالطات أو روايات تضرّ بالمصلحة العامة، وأتحدث هنا عن صحافة مسؤولة ومهتمة بالمصلحة العامة.

إذا كان هدف الصحفي كتابة تحقيق عن سوق السيارات المستعملة في سوريا بقالب يكتفي بشرح المشكلة وردّ ووعود المسؤول، فتلك صحافة “ريكوردر” (آلة تسجيل)، وعندما يذهب إلى فحص القرارات وتحديد الموردين وشبكات المصالح والنفوذ، ويطرح السؤال الجدلي “من يستفيد من إغراق البلاد بالخردة؟”، عندها يكون قد دخل عالم الصحافة النقدية، لأنه يبحث في فساد محتمل ولا يكتفي بالبدهيات، بل يفكك المنظومة التي قد تسمح بالفساد مثل تضارب المصالح، وشبكات الانتفاع وحجم الضرر غير المرئي.

إذًا، يدخل الصحفي لعبة محاكاة عقلية قبل الكتابة والقوالب، ويمارس الشك المنهجي دون الانزلاق نحو السخرية أو العدميّة بسبب موقف مسبق أو مغالطة يبحث عنها عاطفيًا، إنها لعبة ناقدة وليست هدّامة.

ماذا عن المعايير؟ هناك منهج أخلاقي ومهني لا بد من تطبيقه يتصل بعدد من الركائز منها:

  • التدقيق في المصادر والروايات: يجب معاملة كل معلومة كفرضية تحتاج لإثبات، ويجب أن نسأل عن مصلحة المصادر قبل تصديقها، هناك مصادر تسيء للمصلحة العامة وأخرى لديها مصالحها الخاصة.
  • التوازن: الصحفي ليس الضحية ولا المتهم، ولا يمثلهما بل يسعى للحقيقة، وعليه أن يحافظ على مسافة من مصادر الحدث وأطرافه، وعليه ألا ينسى أن الدفاع عن الضحايا يكون بإيصال الحقيقة لا بكتابة نصوص عاطفية.
  • شرح السياق: اقتطاع أي قضية من تاريخها وبيئتها يجعلها قصة مبتورة، ويدخل الشك إلى قسم من الجمهور، ولا يسهم في الكشف عن الحقيقة، ويناقض جوهر الصحافة النقدية.
  • تعدد المصادر: تقول القاعدة “مصدر واحد يساوي رواية من طرف. عدة مصادر تشكل صورة الحدث”، إذ لا ينبغي الركون إلى مصدر واحد، مع ضرورة التركيز على جدارة تلك المصادر.
  • فحص الأدلة: على الصحفي الاسترشاد بالأدلة، وخصوصًا الدامغة، ومن الأدلة الوثائق والعقود، البيانات والأرشيف، سجلات الشركات، الشهود الأحياء.
  • الشفافية مع الجمهور: ليس هناك جمهور غبي أو ساذج، ويجب على الصحفي أن يشرح طريقة معالجته وتوثيقه للقصة، لأن الغموض يولّد الشك، ويعطي روايات الأعداء المضللين أو المتضررين فرصة تزعزع ثقة الجمهور.

إضافة إلى ما سبق، يجب أن يلتزم الصحفي بكل المعايير المهنية والأخلاقية ومدونة السلوك التي تتبناها الصحافة المسؤولة.

يعتقد كثير من الصحفيين أن الصحافة النقدية مجرد اعتراض أو معلومات تناقض روايات السلطة أو المؤسسات أو الأحزاب والمنظمات، وفي هذا استدراج للجمهور نحو مساحة الشك التي يحبها، ومع الوقت، عندما تتضح الحقائق، تضعف قدرة الصحافة على التأثير، ويفقد الصحفي ووسيلته الجمهور، وهذا يتطلب من الصحفي عدم التورط في النقد الوهمي أو العاطفي.

وبمناسبة التورّط، فهو يحصل عندما يختار الصحفي مصادر تدعم رأيه فقط، ويتعامل مع الوقائع كأنها مسلّمات، ويسقط توجهه العاطفي في المحتوى، ويخلط بين النقد والتحريض.

ما سبق يؤدي إلى انهيار الثقة مع الجمهور الذي يلتقط الانحياز بذكاء، كما يؤدي إلى إدخال العمل الصحفي في نفق رأي، وكذلك تسييس الحقيقة في مهنة تقوم على التحقّق، والخسارة الأفدح هي ضياع دور الصحافة كأداة مساءلة ومراقبة.

اليوم، بالإضافة إلى الصحافة الدعائية، تنتشر صحافة الفرد، عبر “يوتيوب”، أو منصات تواصل اجتماعي أخرى، ويتنطع كثيرون لشرح قضايا سياسية أو اقتصادية، ويقدمون روايات مدعومة بمصادر، لكن تلك المصادر والروايات لا تحتاج إلى جهد كبير لاكتشاف الانحيازات العاطفية، وهذا النوع يتسبب بخلق حالة من التشتت، وربما الانقسام المجتمعي، ولا يخفى على الجمهور في سوريا وجود هذا النوع من المحتوى شديد الاستقطاب في المرحلة الراهنة.

ليس مطلوبًا من الصحفي أن يكون بلا رأي، ويمكنه إبداء رأيه في المكان المناسب غير الصحافة النقدية والخبر والتحقيق.. وللحديث بقية.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.