“الفضاء أصل استراتيجي مهم لأمتنا”، هكذا أعلن الرئيس الصيني شي جين بينج تصوره لقطاع الفضاء في معرض حديثه المستمر عن تحديث القوة العسكرية لبلاده.

تصريح الرئيس شي، لم يكن سوى جزء بسيط مما بدأته الصين لبناء واحدة من أكبر وأعقد منظومات الدفاع عبر الفضاء في العالم.

وتوفر الأقمار الاصطناعية، فيضاً هائلاً للعمليات العسكرية، فعبر وصلات SATCOM يمكن ربط الغالبية الكاسحة من المعدات العسكرية المتقدمة بالأقمار الاصطناعية، ما يجعل التشويش عليها أمراً شديد الصعوبة، فضلاً عن إعطاء مزايا تكتيكية في الميدان، واستراتيجية لبناء القوات ومواجهة التهديدات على مدار الساعة.

تبدو رحلة الصين مع تطوير برامج الفضاء الدفاعية، مسيرة شديدة الطموح استفادت من التطور اللافت في مستويات التعليم والابتكار، والقدرة على التصنيع الدقيق، لتصنع في عقود قليلة، نقلات نوعية أصبحت تشكل هاجساً أمام الهيمنة الأميركية على مشهد الفضاء العالمي. 

تنامي التكنولوجيا الصينية، واستعدادها المالي والفني لبناء منظوماتها الخاصة، دون الاعتماد على التقنيات الغربية، دق أجراس الإنذار في مراكز صنع القرار بالعاصمة الأميركية واشنطن، وأصبحت أذرع الصين الفضائية “صداعاً عسكرياً” يهدد مجالاً طالما هيمنت عليه الولايات المتحدة لعقود طويلة.

إنجاز تأخر 42 سنة

بدأت الصين برنامجاً فضائياً طموحاً قبل عقود، ففي عام 1956 أسست المعهد الخامس، وهو معهد تابع لوزارة الدفاع، ليصبح بعد ذلك النواة الأولى لبرنامج الصين لغزو الفضاء.

ورغم أن روسيا بدأت سباق غزو الفضاء قبل الجميع بإطلاق مركبتها “سبوتنيك -1” عام 1957، ثم أول رحلة مأهولة في العام نفسه، تبعه أول رحلة فضائية تحمل إنساناً للفضاء عام 1961، ثم لاحقتها الولايات المتحدة بالهبوط على سطح القمر في عام 1969، إلا أن بكين ظلت متأخرة عن هذا السباق بين القطبين العالميين وقتها، لتطلق أولى رحلاتها الفضائية في عام 1970 عبر أول قمر اصطناعي صيني مدني وهو Dong Fang Hong، ثم لحقته رحلات أقمار Fanhui Shi Weixing العسكرية، وهي أقمار اصطناعية مزدوجة تستهدف رسم خرائط أكثر دقة للأرض.

وظل البرنامج الفضائي للصين تحت مظلة الجيش (PLA) منذ لحظة البداية، بشقيه المدني والعسكري، ورغم الطابع السري للبرنامج، إلا أن منجزاته لم تصل لمنافسة البرامج السوفيتية أو الأميركية، خاصة من ناحية افتقار البرامج الصينية قبل عقود القواعد التكنولوجية اللازمة لخوض ذلك السباق الصعب، فضلاً عن احتياج قطاع الفضاء لمراكمة بنية تحتية معرفية قوية، حال دونها انغلاق الصين الذي استمر عقوداً.

ولم تستطع الصين إطلاق أي رحلات مأهولة بالبشر إلى الفضاء لعدة عقود، حتى نجحت أخيراً في 15 أكتوبر 2003، بإرسال رحلة “Shenzhou-5” تحمل أول إنسان إلى الفضاء لتصبح ثالث دولة تقدم هذا الإنجاز بعد روسيا والولايات المتحدة، لكن الإنجاز الصيني جاء متأخراً أكثر من 42 سنة من نظيره الروسي و34 عاماً من رحلة أبولو الأميركية إلى القمر.

الانطلاق.. برنامج واحد للتنمية والدفاع

مع بدايات التحول الاقتصادي في الصين، ظهر الفضاء كمنصة مهمة لمساعدة البلاد على إجراء تحول واسع في بنيتها الاقتصادية والعسكرية، وخلال عقود قليلة، أصبحت الصين لاعباً رئيسياً لا يمكن تجاهله في ما يتعلق بتكنولوجيا الفضاء، سواء للقطاعات المدنية أو العسكرية.

وأكسبت رحلة “Shenzhou-5” بكين ثقة في قدرتها على بناء منظومة فضائية قوية، خاصة مع رياح الانفتاح على التقنيات العالمية، وبداية تحول الاقتصاد الصيني من الإنتاج والاستهلاك المحلي، إلى نقل التكنولوجيا والتصدير.

ونجحت بكين في 24 أكتوبر 2007، في بدء رحلة الصين إلى الفضاء من خلال إطلاق أول مسبار قمري صيني هو “Chang’e-1″، لتصبح خامس دولة في العالم تنجح في إكمال مهام قمرية، بعد روسيا والولايات المتحدة واليابان التي أطلقت المسبار هيتن HETIN عام 1990، ثم نجاح مهمة وكالة الفضاء الأوروبية ESA عام 2003.

كانت غالبية الإطلاقات الفضائية المعلن عنها من الصين، تستهدف الجوانب المدنية، وكذلك أول محطة فضاء تجريبية أطلقتها بكين في 2011، وهي محطة “Tiangong-1″، ثم لحقتها بأول هبوط ناعم على سطح القمر نفذه البرنامج الفضائي الصيني في 2013، حين أطلق أول مركبة جوالة على سطح القمر من طراز “Yutu”.

رهان صيني على القمر

لم تمض سوى 6 سنوات على الوصول للقمر بهبوط ناعم وإطلاق مركبات جوالة لجمع العينات على سطحه بنجاح، حتى قررت الصين أن تقفز للأمام بخطوة لم تسبقها إليها أي من الدول الكبرى خاصة الولايات المتحدة وروسيا، ففي 3 يناير 2019، أعلنت الصين نجاح إحدى أكثر مشروعاتها طموحاً، بهبوط سلس على الجانب البعيد من القمر، وهي منطقة مظلمة، لم يصلها بشر على الإطلاق من قبل.

وأعلنت بكين بدء دراسة علمية لتلك المنطقة، وفي 3 مايو 2024، صممت رحلة إعادة عينات من الجانب البعيد من القمر عبر رحلة “Chang’e-6″، وهبطت المركبة على الجانب المظلم في أول يونيو ثم عادت للأرض بالعينات في 25 من الشهر نفسه، في أول مهمة ناجحة من نوعها في العالم. 

“الفضاء الأحمر”.. بكين تمد أذرعها في المدار

بدأ البرنامج الفضائي الصيني من قلب المؤسسة العسكرية، ورغم تشعب إسهامات هذا القطاع في مداراته المختلفة بين الاستخدامات المدنية والعسكرية والمزدوجة، إلا أن الرقم الدقيق للأصول الفضائية العسكرية التابعة للصين، يظل مجهولاً إلى حد بعيد.

فهناك مئات الأقمار الاصطناعية الصينية والأميركية والروسية، التي يمكنها أن تمارس الدورين العسكري والمدني معاً، خاصة أقمار الاتصالات وأنظمة تحديد المواقع، مثل منظومة GPS الأميركية التي طورتها وتملكها قواتها الجوية، وكذلك منظومة بايدو الصينية المنافسة التي تديرها المؤسسة العسكرية الصينية.

وبحسب تصنيف UCS الأميركية، وهي منظمة مستقلة تضم نخبة من العلماء والباحثين في مجالات الفضاء، وتعمل من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، منذ أكثر من 50 عاماً، فإن الأقمار العسكرية في العالم موزعة بنسبة 44% للولايات المتحدة و28% للصين و20% لروسيا و8% للدول الأوروبية و0.5% لليابان.

وأظهرت قاعدة البيانات أن الولايات المتحدة تمتلك 246 قمراً عسكرياً، مقابل 157 قمراً صينياً، و110 أقمار تابعة لروسيا، فيما تملك فرنسا 17 قمراً، وإيطاليا 10 أقمار، مقابل 8 أقمار تملكها ألمانيا، وبريطانيا 6 أقمار، و4 أقمار تتبع إسبانيا، فيما تملك اليابان 3 أقمار عسكرية.

لكن حتى هذا التعريف يصطدم بتصريحات مسؤولين عسكريين أميركيين، يدقون أجراس الإنذار من تنامي الدور الصيني العسكري في الفضاء، فقاعدة البيانات توقفت عن تحديث عدد الأقمار الاصطناعية منذ 1 مايو 2023، ما يجعل عامَي 2024 و2025، وبضعة أشهر من 2023 خارج الحسابات، بينما كثفت الصين إطلاقاتها الفضائية في هذه الفترة ورفعت الوتيرة.

التعريف العسكري للقمر الاصطناعي المعد لأغراض عسكرية، يتضمن قدرات ما يُعرف بـIRS، اختصار لمهام القمر الاصطناعي Satellite المتخصص في “الاستخبارات” Intelligence، و”الاستطلاع” Reconnaissance، وبحسب التعريف العسكري المتعلق بالمهام والقدرات، تبدو الأرقام الصينية مختلفة بالكامل.

ورغم شح الأرقام من الجانب الصيني، إلا أن قيادة قوة الفضاء الأمبركية (USSF)، وهي أحدث فروع الجيش الأميركي، وتأسست في 2019، فإن بكين تمتلك أقماراً عسكرية IRS تبلغ 359 قمراً، حتى إحصاء يناير 2024، حسب تقرير للقوة الأميركية.

ورفعت الولايات المتحدة تقييمها إلى نحو 500 قمر صيني، في تقرير حديث أعدته وكالة استخبارات الدفاع الأميركية (Defense Intelligence Agency)، وحسب التقرير المصنف بأنه غير سري، فإن الصين التي تحل ثانية بعد الولايات المتحدة في عدد الأصول ذات الاستخدام العسكري في الفضاء، تعتزم إطلاق آلاف المركبات حتى عام 2030، لتأمين نظام اتصال منافس لمنظومة “ستارلينك” الأميركية، ما يمكنها من توفير خدمات انترنت واتصالات آمنة ومشفرة متكاملة.

وأشارت تقارير عسكرية أميركية إلى قفزات البرنامج الفضائي الصيني، خاصة أنه يعمل تحت مظلة وزارة الدفاع، ويمكن استخدام العديد من أقماره التي تتجاوز 1000 قمر اصطناعي، بطريقة مزدوجة لتوفير خدمات مدنية وعسكرية في الوقت نفسه.

وفي السياق نفسه، تدق أجراس الإنذار الأميركية في ما يتعلق بالقدرات الفضائية الصينية، وهذه المرة ليس بسبب طبيعة أو تقنيات أو عدد الأقمار الاصطناعية الصينية التي تنافس الهيمنة الأميركية على المدار، لكن بسبب التخوف الأميركي من قدرات الصين على إنتاج “أسلحة مضادة للفضاء متقدمة من الصين وسلاسل قتل فضائية (Space‑Enabled Kill Chains)”، بحسب شهادة الجنرال ستيفن وايتينج قائد قيادة الفضاء، أمام لجنة بمجلس الشيوخ الأميركي في مارس 2025.

المدار العسكري.. بكين تتوسع وتنظم صفوفها

وفي 19 أبريل 2024، أعلنت بكين إعادة تنظيم قواتها الجوفضائية (Aerospace Force)، لتحل مكان “قوة الدعم الاستراتيجي” (FSS Strategic Support Force) التي كانت تتولى الإشراف على الأنشطة الفضائية المتعلقة بالصين.

وتُعرف القوة باسم فرع People’s Liberation Army Aerospace Force، المعروف اختصاراً بـ(PLAASF).

ونظمت بكين أذرعها الأكثر حداثة بشكل متكامل، فأنشأت القوات الجوفضائية، والقوة السيبرانية الفضائية (Cyber Space Force)، كما أطلقت قوة الإسناد المعلوماتية (Information Support Forces)، لتكون هذه الأذرع تحت مظلة وزارة الدفاع أيضاً؛ لتوفير المعلومات وتأمين البيانات التي تحتاجها القوات الصينية.

وتمتلك الصين واحدة من أعقد منظومات C4IRS الفضائية، خاصة بعد تطويرها بتكنولوجيا صينية لم يعلن عنها، ويشمل مصطلح C4IRS نظام القيادة والسيطرة والاتصالات والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع.

ورغم أن الصين لا تزال تأتي خلف الولايات المتحدة التي تنفرد بقيادة قطاع الفضاء العالمي، إلا أن نمو القطاع المتسارع وتوطين تكنولوجيا فضائية صينية خالصة، وزيادة ارتباط المجالين المدني والعسكري في الفضاء، فضلاً عن التنظيم الحديث للقوات الجوفضائية، كلها عوامل تجعل واشنطن تشعر بقلق متزايد من التنافس في مجال اقتنصت ريادته من روسيا قبل عقود، وتواجه حالياً تهديداً لهذه الهيمنة من قوة الصين المتصاعدة.

شاركها.