تواصل الصين تعزيز سيطرتها على تدفق المعادن النادرة التي تعتمد عليها الدول الغربية لتحقيق أهدافها في مجالات الطاقة النظيفة، والدفاع، والتكنولوجيا، ما يفرض على أوروبا مواجهة “حقيقة مزعجة” تتمثل في عدم قدرتها على التحرر من هيمنة بكين على هذا القطاع الحيوي في المستقبل المنظور، بحسب مجلة “بوليتيكو” الأميركية.
وقالت المجلة، في تقرير نُشر الخميس، إن الحكومة الصينية فرضت في وقت سابق من الشهر الجاري ضوابط تصدير واسعة النطاق على المغناطيسات المصنوعة من المعادن الأرضية النادرة، والمواد الخام اللازمة لصنعها، في خطوة مفاجئة زادت من حدة النزاع التجاري المستمر مع الولايات المتحدة.
وأشارت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في خطاب ألقته أمام البرلمان الأوروبي، إلى أن “حدوث أزمة في إمدادات المواد الخام الحيوية لم يعد خطراً بعيداً، بل أصبح واقعاً يهددنا على أبوابنا”.
وأضافت: “يجب أن نسرّع العمل بشكل حاسم وعاجل، إذ نحتاج إلى إمدادات أسرع، وأكثر موثوقية من المواد الخام الحيوية، سواء هنا في أوروبا، أو مع شركاء موثوقين.. أنا على استعداد لاقتراح المزيد من الإجراءات التي تضمن أمن أوروبا الاقتصادي، وسأُعجّل تنفيذ ما بدأناه بالفعل”.
الاتحاد الأوروبي “عالق”
وقوبل إعلان بكين هذا الشهر برد فعل حاد من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي هدد برفع الرسوم الجمركية على السلع الصينية إلى 100%، ومن المقرر أن يعقد ترمب لقاءً مهماً مع نظيره الصيني شي جين بينج على هامش قمة آسيا والمحيط الهادئ في نهاية أكتوبر الجاري.
وأشار التقرير إلى أن الاتحاد الأوروبي، الذي يستورد معظم المعادن النادرة والمغناطيسات الدائمة من الصين، وجد نفسه “عالقاً” في تبادل الاتهامات بين القوتين العظمتين.
ونقلت الصحيفة عن ماروش شيفتشوفيتش، المفوض التجاري للاتحاد الأوروبي، قوله في مؤتمر صحافي عُقد يوم الثلاثاء: “لا نرغب في تصعيد النزاع، لكن هذا الوضع يلقي بظلاله على علاقتنا، لذا من الضروري التوصل إلى حل سريع”.
وأضاف شيفتشوفيتش أن الصين والاتحاد الأوروبي سيكثفان الاتصالات على كافة المستويات بشأن هذه القضية، مؤكداً أنه عقب اتصال هاتفي استمر ساعتين مع وزير التجارة الصيني وانج وينتاو، قبل الأخير دعوة لزيارة بروكسل خلال الأيام المقبلة لمناقشة القيود المفروضة.
كما أشار التقرير إلى أن الاتحاد الأوروبي يتشاور مع مجموعة الدول الصناعية السبع لتنسيق رد موحد بشأن المعادن الحيوية، تمهيداً لاجتماع وزاري مقرر في كندا يومي 30 و31 أكتوبر.
ومع ذلك، ورغم الحديث عن الردود الدبلوماسية المناسبة، وردود الفعل المحتملة، لا يمكن إنكار الهيمنة التي بنتها الصين على سوق المعادن النادرة على مدى عقود، على الأقل في الوقت الراهن، وفقاً لـ”بوليتيكو”.
ونقلت المجلة عن فيليب أندروز سبيد، الباحث البارز في معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة، قوله: “على المدى القصير، لا يوجد خيار سوى محاولة التفاوض مع الصين”.
“هيمنة صينية”
وتسيطر بكين على كامل سلسلة توريد المعادن النادرة، وهي مجموعة من 17 معدناً تُستخدم في صناعة المغناطيسات الدائمة التي تدخل في معظم عمليات التصنيع، بدءاً من السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح وصولاً إلى مقاتلات F-35 والسفن الحربية.
وبموجب ضوابط التصدير الجديدة، سيحتاج المستوردون إلى ترخيص حكومي للوصول إلى هذه المغناطيسات الدائمة، إضافة إلى المعادن المكررة والسبائك التي تدخل في صناعتها.
وأوضح التقرير أن الصين كانت قد استغلت موقعها الرائد في إنتاج، وتكرير المواد الخام الحيوية، لا سيما عناصر المعادن النادرة مثل السكانديوم، والإيتريوم، والديسبروسيوم، رداً على أول موجة من الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب في أبريل الماضي، مما دفع البيت الأبيض إلى التراجع لاحقاً.
ونقل التقرير عن مصدر في القطاع التجاري الصيني، طلب عدم الكشف عن هويته، قوله إن ضوابط التصدير الجديدة تمثل “رداً بالمثل على سياسة الولايات المتحدة”، وأشارت المجلة إلى أن الاتحاد الأوروبي يتعرض للضرر هو الآخر.
وتستخرج الصين 61% من المعادن النادرة، وتكرر 92% منها على مستوى العالم، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية، كما توفر ما يقارب 99% من إمدادات الاتحاد الأوروبي من هذه المعادن، إضافة إلى حوالي 98% من مغناطيسات المعادن النادرة الدائمة.
غياب الأدوات السياسية
وبجانب احتكارها للمعادن، بنَت بكين أساساً قانونياً لاستثمار هذا الاحتكار عبر صندوق أدوات للتحكم في الصادرات، يشبه الصندوق الذي تستخدمه واشنطن للحد من صادرات التكنولوجيا المتطورة إلى الصين.
وقالت “بوليتيكو” إن الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى أدوات مماثلة تسمح له بالرد بالمثل على قيود التصدير التي أصبحت خياراً شائعاً في استراتيجيات التفاوض التجاري لكل من واشنطن وبكين، ومع ذلك، تظل حماية الأمن القومي المبرر الوحيد لتفعيل ضوابط التصدير في نظر بروكسل.
وقالت أنطونيا همايدي، المحللة في مركز Merics للأبحاث: “على الاتحاد الأوروبي أن يجد طريقة للتعايش مع هذه الحقيقة الجديدة”، مضيفة أن ذلك قد يدفع الكتلة إلى التخلي عن إيمانها بالنظام التجاري القائم على القواعد الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، وأضافت: “تسليح الوصول للسوق الأوروبية يمكن أن يكون بديلاً قوياً”.
وازدادت الدعوات لتفعيل “أداة مكافحة الإكراه”، وهي الأداة السياسية الوحيدة التي يمتلكها الاتحاد الأوروبي لمواجهة الضغوط الاقتصادية.
وتعتمد هذه الأداة بشكل أساسي على الردع، وتسعى إلى منع القوى الأجنبية من ممارسة ضغوط على الدول الأوروبية، لكنها تُعتبر “خياراً أخيراً” في العمل بها.
تركيز على الحوار
ونقلت “بوليتيكو” عن دبلوماسي أوروبي، طلب عدم الكشف عن هويته قوله: “هذه مجرد تهديدات عادية من الأطراف المعتادة، لكن تفعيل أداة مكافحة الإكراه غير مطروح بجدية في هذه المرحلة”.
وعند سؤاله عن إمكانية تفعيل الأداة قال المتحدث الرسمي للمفوضية الأوروبية أولوف جيل: “نحن نركز على الحوار الآن، ولن ندخل في التكهنات حول أي خيارات أخرى”.
ومع ذلك، أشار التقرير إلى أن جهود التواصل لم تسفر حتى الآن عن نتائج ملموسة، فقد وافقت بكين في يونيو الماضي على إنشاء “قناة خضراء” لتسريع الموافقات على تراخيص التصدير للشركات الأوروبية، إلا أن شيفتشوفيتش أكد أن نصف الطلبات ذات الأولوية المقدمة من الشركات الأوروبية، والتي بلغت حوالي 2000 طلب، “لم يتم التعامل معها بشكل مناسب”.
وأكدت المجلة أن الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة إلى تسريع جهوده لتنويع مصادر المعادن النادرة بشكل كبير، ناقلة عن مفوض الصناعة في الاتحاد ستيفان سيورنيه، قوله في اجتماع مع قادة الصناعة يوم الاثنين: “الرد الأوروبي يجب أن يقوم على ركيزتين أساسيتين: حل دبلوماسي وسلسلة إمداد أكثر مرونة”.
وأوضحت “بوليتيكو” أن هذا الهدف لن يتحقق بين عشية وضحاها، لا سيما أن المفوضية الأوروبية كشفت قبل عامين عن خطة كبرى لتنويع إمدادات المواد الخام بعيداً عن الصين، وشدد المسؤولون منذ ذلك الحين على أهمية زيادة تخزين المعادن، وتعزيز التعدين والإنتاج المحلي، وتأسيس شراكات جديدة، ومع ذلك، لا يزال التنفيذ العملي متأخراً، وسط شكاوى من نقص التمويل.
من جانبه، رحّب المدير العام لجمعية المعادن الأوروبية Eurometaux جيمس واتسون، بقرار المفوضية بمنح وصف “مشروع استراتيجي” لنحو 60 منجماً ومصهراً داخل الاتحاد وخارجه، لكنه أضاف: “لا يزال هناك حاجة إلى تمويل مخصص للقطاع، إلى جانب معالجة القضايا الهيكلية مثل ارتفاع تكاليف الطاقة والأعباء الإدارية الثقيلة، التي تضعنا في موقف تنافسي ضعيف مقارنة بمنافسينا العالميين”.
