– عمر علاء الدين

في المناسبات، يبدأ التقليد المعروف عند معظم السوريين بإخراج الأزياء الخاصة من مكان تخزينها، وفي الغالب ستكون العباءة الرجالية إحدى هذه القطع المحفوظة بعناية.

العباءة تشتهر فيها معظم المناطق السورية، وتجتمع على ارتدائها كلباس تقليدي وموروث شعبي مرتبط بالعرب والقبيلة والكرم من جهة، وبالعراقة والأصالة وقيمة المكانة الاجتماعية والوقار من جهة أخرى.

اليوم تواجه صناعة العباءات تحديات اقتصادية باندثارها، بسبب ارتفاع تكلفة موادها الأولية وتوجه المستهلكين لـ”الموديلات” الحديثة، مما يعني تراجعًا في شراء هذه العباءات، وفق ما رصدته.

العباءة عمق ضارب.. مسار تاريخي

لم تكن الأزياء التقليدية في المجتمع السوري كساء يستر الجسد فقط، بل شكلت منظومة دلالية معقّدة، يُقرأ من خلالها موقع الفرد داخل الهرم الاجتماعي، وموقفه من منظومات القيم، كما كانت تنطوي على خطاب رمزي يتجاوز المظهر إلى الجوهر، ويتقاطع فيه الاقتصاد مع السياسة، والتنوع الاجتماعي مع الدين، وفق دراسة منشورة في المركز الديمقراطي العربي، للباحث والمؤرخ السوري طالب الدغيم.

الدغيم تحدث ل حول العباءة وتاريخها في سوريا، وما تمثله على الصعيد الاجتماعي والثقافي، قائلًا، إن العباءة هي جزء من اللباس العربي القديم، وجزء من الهوية الثقافية للمجتمع السوري، وكانت ترتديها القبائل النبطية والآرامية في بلاد الشام.

وامتدت مملكة الأنباط، من القرن الرابع قبل الميلاد حتى عام 105م، بعد تدميرها على يد الإمبراطور الروماني تراجان، إلى أطراف الفرات والأقسام الجنوبية من فلسطين وحوران وأدوم، ودمشق وسيناء، وفق الموسوعة العربية.

وتُرتدى العباءة اليوم في أغلب المناطق السورية وخاصة الجزيرة والبادية في دير الزور والحسكة والرقة وحوران والسويداء وإدلب وريف حلب وريف حمص وحماة وريفها، وفق الباحث طالب الدغيم.

في العهد العثماني (1299-1923 م) أصبحت العباءة لباس الوجهاء ووجهاء العشائر، إذ تعبر عن رمزية الشخص الاجتماعية ومكانته، قال المؤرخ السوري.

وأضاف أنه في فترة الانتداب الفرنسي لم يقتصر ارتداء العباءة على شيخ القبيلة بل شمل المختار أيضًا، وهو زعيم محلي يختاره أهل قرية أو مدينة صغيرة.

 

العباءة رداء خارجي طويل يُلبس مفتوحًا من الأمام فوق الملابس اليومية أو الزي الرسمي. غالبًا ما يكون مصنوعًا من الصوف الخفيف أو الثقيل، ويُعرف بوجود تطريزات وزخارف عليه، مثل الحواشي الذهبية أو الفضية، والتي تُعرف باسم “الجوخ”.

طالب الدغيم

باحث ومؤرخ سوري

 

منذ خمسينيات القرن الماضي حتى الآن، أصبحت العباءة لباس المناسبات، خاصة حفلات الصلح والزواج، ويرتديها العريس حتى الآن، وهي تعبر عن الوقار بالدرجة الأولى، كما أصبحت لباسًا لكبار السن وبعض رجال الدين ومشايخ المنابر، وفق الباحث السوري والمؤرخ طالب الدغيم.

وتتنوع العباءات، وفق ما قاله الدغيم، فهناك العباءة الشتوية المصنوعة من الصوف الثقيل، وتُرتدى في البرد، وغالبًا ما تكون باللون الأسود أو البني أو الرمادي.

وهناك أيضًا العباءة الصيفية الخفيفة، ويكون لونها غالبًا أسود رقيقًا أو “بيج”، إضافة إلى تلك الأنواع من العباءة الذهبية أو الرسمية المطرزة بالذهب، والتي تلبس عادة في المناسبات الخاصة.

تراجع في الصناعة.. غلاء في الأسعار

تجولت في أسواق “الحميدية” و”باب الجابية” و”الصوف”، حيث تنتشر بكثرة المحال المختصة ببيع العباءات الرجالية.

ويتراوح سعر العباءة، وفق ما رصدته في سوق “الصوف” (أحد الأسواق الفرعية لسوق الحميدية الشهير بدمشق)، بين 15 و200 دولار أمريكي حسب جودة الصناعة وطريقتها والمواد المستخدمة.

قال “أبو عمر الجاجة”، صاحب محل تجاري للعباءات، إن العباءة ذات الـ15 دولارًا والتي تصل قيمتها بالليرة السورية إلى 180 ألف ليرة، هي الأكثر رواجًا نظرًا إلى أنها رخيصة الثمن، ومشغولة آليًا من الصوف الصناعي.

بينما يصل سعر العباءة الفاخرة التي تعتمد بشكل جزئي على الآلة والمشغولة من الصوف الطبيعي، بحسب “أبو عمر”، إلى 200 دولار (مليونان وأربعمئة ألف ليرة سورية) بناء على سعر صرف 12 ألف ليرة سورية للدولار الواحد.

وقال البائع ل، إنه مع غلاء الأسعار والوضع الاقتصادي الصعب لمعظم الناس “تراجعت تجارتنا، وأصبحت تعتمد بالكامل على ما يأتي من السياح وما نبيعه لمن لديه مناسبة (خطوبة، زواج)، ونبيع العباءات الصناعية الرخيصة فقط، أما تلك الفاخرة فهي بناء على الطلب الخارجي”.

“أبو عمر” أشار أيضًا إلى التهديدات التي تحيط بمهنة صناعة العباءات ككل، من أبرزها قلة الحرفيين والعاملين، وغلاء المواد الأولية من قطن وصوف وحرير، إضافة إلى انتشار الملابس الشتوية الرخيصة الموافقة للموضة مع تراجع اللباس التقليدي.

الباحث والمؤرخ السوري طالب الدغيم، يرى في دراسته للأزياء التقليدية السورية، أن لحظة اندثار الزي التقليدي السوري بعد منتصف القرن الـ20 كانت علامة ثقافية فارقة في تحول المجتمعات من البنية التقليدية إلى بنية حداثية عالمية، تقودها الحركات القومية، وتُهيمن عليها سرديات الدولة الحديثة.

وقد أدت موجة التحديث، بتجلياتها العمرانية والمؤسساتية والتعليمية، إلى انزياح تدريجي في نظرة الأفراد لأنفسهم، حيث صار اللباس الغربي يجسد صورة “المواطن العصري” القادر على مواكبة الإيقاع العالمي.

وأسهمت الصناعة الحديثة في إنتاج ملابس جاهزة زهيدة التكلفة، ما أدى إلى انحسار الدور الاقتصادي والاجتماعي للحرفيين، كالخياطين والمطرزين والنساجين المحليين، وفق الدراسة.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.