أثار القصف الإسرائيلي المفاجئ للأراضي القطرية، والذي استهدف اجتماعاً لقيادات من حركة “حماس”، تساؤلات واسعة بشأن طبيعة العلاقات الخليجية الأميركية، فبينما يُفترض أن تقوم العلاقة بين الدوحة وواشنطن على “تحالف استراتيجي” تدعمه اتفاقيات دفاعية، جاءت الضربات الجوية الإسرائيلية لقطر لتعيد إلى الواجهة جدوى هذه الشراكات ومصداقية هذه التحالفات.
ودعا خبراء خليجيون تحدثوا لـ”الشرق”، دول الخليج إلى الاعتماد أكثر على تطوير القدرات الدفاعية الذاتية، مشيرين إلى أن مثل هذه الاتفاقيات مع الولايات المتحددة بتعدد مسمياتها وحتى الدفاعية منها، لا ترقى إلى توفير مظلة حماية.
وأشار الخبراء إلى أنه حتى لو وفرت هذه الاتفاقيات مع واشنطن “مظلة حماية” بفعل العلاقات وتقاطع المصالح في بعض الحالات، إلا أنها لم توفرها في حالات سبقت الاعتداء الإسرائيلي الأخير على قطر.
وأكدوا أن ما أدى إليه “الاعتداء الإسرائيلي” من ضرب لمصداقية الإدارة الأميركية يمكن أن يكون بداية لبناء علاقات أكثر وضوحاً وإلزاماً مع واشنطن، فيما اقترح بعضهم خطوات خليجية مقبلة قد تُعيد رسم شكل العلاقة مع الولايات المتحدة التي تابعت منظوماتها الدفاعية مقاتلات إسرائيل تقصف قطر، الحليف الرئيسي من خارج “الناتو”، دون تدخل.
طبيعة الاتفاقيات الخليجية الأميركية
واعتبر الدكتور أحمد الخزاعي وهو مستشار سياسي دولي من البحرين، أن الاتفاقيات الدفاعية بين الولايات المتحدة ودول الخليج تتنوع في طبيعتها القانونية والسياسية، مشيراً إلى أنها “تُعنى بتأطير العلاقة الأمنية من دون أن ترقى إلى مستوى الضمانات الصلبة”.
وأوضح الخزاعي، وهو شريك إداري لشركة الاستشارات السياسية “خزاعي أسوشيتس” في واشنطن، أن “الاتفاقيات التي تنظم استضافة القواعد العسكرية، مثل قاعدة العديد في قطر، والظفرة في الإمارات، والجفير في البحرين، تمثل وجوداً عسكرياً أميركياً دائماً، لكنها لا تضمن تدخلاً تلقائياً في حال وقوع هجوم”.
وأضاف: “أما اتفاقيات التعاون العسكري، التي تشمل التدريب وتبادل المعلومات ومبيعات الأسلحة عبر برامج مثل Foreign Military Sales (المبيعات العسكرية الأجنبية FMS) أو Direct Commercial Sales (المبيعات التجارية المباشرة DCS)، تفتقر إلى بند الدفاع المشترك، ما يجعلها أدوات دعم أكثر منها التزاماً دفاعياً. وهناك أيضاً تفاهمات غير معلنة في المجالين الاستخباراتي والأمني، غالباً ما تكون غير ملزمة قانونياً وتخضع لتقديرات سياسية ظرفية”.
ولفت الخزاعي إلى أن السعودية كانت تسعى إلى إبرام اتفاقية أمنية شاملة على غرار النموذج الياباني أو الكوري، تضمن تدخلاً أميركياً مباشراً في حال التعرض لهجوم، إلا أن هذا الطرح “يواجه عقبات سياسية”، وفقاً للمستشار السياسي البحريني، أبرزها “ربط واشنطن لهذا النوع من الاتفاقيات بموقف الرياض من ملف التطبيع مع إسرائيل”، ما يجعل الأمن الإقليمي رهينة للاعتبارات السياسية.
وأشار إلى أن الاتفاقيات الحالية، رغم ما توفره من أدوات تعاون، “لا ترقى إلى مستوى الضمانات الأمنية الحقيقية، ما يستدعي إعادة هندسة المنظومة الدفاعية الخليجية، سواء عبر اتفاقيات ملزمة وواضحة، أو من خلال بناء قدرات ذاتية وتحالفات إقليمية مستقلة تضمن أمن المنطقة”.
ومضى قائلاً إن الضربة الإسرائيلية على قطر كشفت أنه “حتى الدول التي ترتبط بعلاقات ممتازة مع واشنطن ليست بالضرورة محمية من التهديدات، وهو ما يضعف من جدوى الاتفاقيات القائمة، ويثير تساؤلات بشأن فعاليتها كمظلة أمنية”.
“لا دفاع مشترك”
في سياق متصل، قال رئيس مركز “ريكونسنس” للبحوث والدراسات عبد العزيز العنجري، إن الاتفاقيات الدفاعية بين الخليج وواشنطن، معظمها لا ترقى إلى معاهدات دفاع مشترك كالتي لدى “الناتو” أو اليابان، وبالتالي لا تُجبر واشنطن على التدخل التلقائي عند وقوع اعتداء.
وعن الوضع القائم بما هو متوفر من اتفاقيات، أشار زميل معهد “تشاتم هاوس” في واشنطن الدكتور بدر السيف، إلى أنه “سؤال قديم يتجدد ويُعاد طرحه دائماً لأنه لم يعالج”، لافتاً إلى أن “الوضع بما هو عليه اليوم يعود إلى فترة رئاسة باراك أوباما وفكه للارتباط مع المنطقة عبر توجه الإدارة شرقاً (آسيا)، وتداعيات هذه الخطوة لا تزال قائمة”.
وفي هذا الإطار، يستدل السيف على طبيعة الاتفاقيات القائمة بالإشارة إلى حوادث سابقة سجلت “تراخياً أميركياً” في التعامل مع أخطار تعرضت لها المنطقة، على غرار الهجمات بالطائرات المسيرة التي نفذها الحوثيون على أبو ظبي عام 2022، وسبقها مهاجمة منشآت لشركة أرامكو السعودية في 2019، وفي الواقعتين “لم تحرك واشنطن ساكناً”.
وتساءل السيف: “إذا كانت تلك مواقف واشنطن من هجمات نفذتها أطراف معادية للمنطقة والولايات المتحدة نفسها، فماذا ننتظر إزاء اعتداء تنفذه إسرائيل وهي الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة؟”.
إعادة تعريف العلاقة الأمنية
وأوضح المستشار أحمد الخزاعي أن الضربة الإسرائيلية لقطر تضع مفهوم “المظلة الدفاعية” الأميركية تحت المجهر، وتكشف عن “هشاشة هذا التصور التقليدي، في مشهد يعيد إلى الأذهان هجمات أرامكو عام 2019، حينما فشلت واشنطن في اتخاذ رد حاسم”.
وتابع: “هذه التطورات تترك أثراً مباشراً في ثقة دول الخليج، التي بنت عقيدتها الأمنية على ارتباط وثيق بالولايات المتحدة، وتجعلها أمام ضرورة إعادة تقييم هذا الارتباط، ليس فقط من حيث القدرات العسكرية، بل من حيث الإرادة السياسية الأميركية في حماية الحلفاء”.
وهكذا، يعتقد الخزاعي أن الضربة الإسرائيلية التي طالت الأراضي القطرية “قد تشكل لحظة مفصلية تدفع نحو إعادة تعريف العلاقة الأمنية بين الخليج والولايات المتحدة، من علاقة غير مشروطة إلى علاقة تعاقدية أكثر توازناً، تستند إلى المصالح المتبادلة والوضوح في الالتزامات”.
ما البدائل؟
في ظل هذا الوضع، تبرز تساؤلات بشأن مستقبل العلاقة بين دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة.
وفي حديث لـ”الشرق”، رأى الدكتور بدر السيف الأستاذ في جامعة الكويت، أنه يجب الاتجاه نحو استثمار الحدث لتطوير العلاقة الخليجية الأميركية، لافتاً إلى أن “عقيدة كارتر التي أولت الاهتمام بأمن منطقة الخليج وسار على طريقها جورج بوش الأب الذي حارب لتحرير الكويت لم تعد موجودة لدى صانع القرار الأميركي”.
وأضاف: “الاتفاقيات التي تربط دول الخليج بالولايات المتحدة لم ترتق للتطورات التي حدثت، فالأميركيون لديهم اهتماماتهم المتشعبة ولهم وجودهم الكبير في كل مناطق العالم، وليس في منطقة الخليج فحسب، وعليه فاهتمامهم ليس بالضرورة يكون متركزاً على المنطقة”.
ودعا السيف إلى إعادة دراسة طبيعة هذه العلاقة مجدداً، معتبراً أن “الاتفاقيات الحالية ليست كافية، فتركيا وهي عضو بالناتو، أوردها الخطاب الإسرائيلي ضمن مناطق يُهدد باستهدافها إذا استضافت قيادات حماس لم تُهاجَم، ما دفع إلى إخراج قياديي الحركة منها، فلهذه العضوية التزامات أمنية تفرضها واشنطن وأعضاء الناتو الآخرين بأمنها”.
أما ما يتعلق بدول الخليج، فأشار السيف إلى أنها “ليست أعضاء في الناتو، ولا حلفاء إستراتيجيين للولايات المتحدة كما هي إسرائيل، ولذلك فهي مطالبة بتطوير تلك الاتفاقيات التي تجمعها مع الولايات المتحدة”.
“استغلال الظرف الحالي”
وبينما أشاد السيف بتوجه الاقتصادات الخليجية نحو بناء شراكات مع واشنطن تفيد في ترسيخ العلاقة، رأى في الوقت نفسه أنها “غير كافية لتوفير مظلة حماية”، وذلك وفق قوله “ما لم تُدعم باتفاقيات أمنية واضحة تحمي تلك الاتفاقيات الاقتصادية، وتدخل الخليج من جانب آخر في السردية الأميركية التي يتقنها الإسرائيليون”.
وأضاف: “الإدارة الأميركية الحالية تُعاني فراغاً داخلياً بسبب سياسات ترمب التي تهدف إلى تغيير طبيعتها، وهو ظرف استغله نتنياهو لتوجيه ضربة إلى حليف رئيسي للولايات المتحدة من خارج الناتو مثل قطر، بما يمثله هذا الاعتداء من ضرب للثقة بالتعهدات الأميركية”.
واعتبر السيف، وهو أيضاً زميل “معهد دول الخليج العربية في واشنطن”، أن الدول الخليجية يجب أن “تركز حضورها وتستغل الظرف الحالي للارتقاء باتفاقياتها إلى معاهدات أمنية كالتي كانت جاهزة للتوقيع مع السعودية حتى آخر أيام عهد الرئيس السابق جو بايدن، على أن يوازي ذلك استمرار العمل بما أعلنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من توطين لصناعات الأسلحة، وصولاً إلى قدر مهم من الاكتفاء الذاتي، وهو ما سيستغرق زمناً”.
الاتجاه إلى الشرق
من جانبه، رأى رئيس مركز “ريكونسنس” عبد العزيز العنجري، أن “الاعتداء على قطر يُمثل فرصة لتحقيق مزيد من الأمن في المنطقة”، وقال: “ما جرى في الدوحة كشف أن الترتيبات الأمنية الأميركية ليست شاملة كما يُعتقد، فهي لا تمتد لتشمل إسرائيل، ما يعني أن الضمانات لم تعد مظلة مطلقة، وهو ما يدفع للتفكير في تنويع الشراكات مع قوى أخرى كالصين وروسيا، وإن كانت لا تمثل بديلاً كاملاً”.
كما أفاد أحمد الخزاعي بأن “الاعتداء الإسرائيلي على قطر يُمثل لحظة فارقة تُسرّع من وتيرة التحول الاستراتيجي نحو الشرق”، لكنه أضاف في الوقت ذاته أن هذا “لا يعني بالضرورة قطيعة كاملة مع الغرب، بل يُشير إلى بداية مرحلة جديدة تقوم على التوازنات المتعددة والانفتاح على خيارات دولية أكثر تنوعاً”.
ولفت الخزاعي لـ”الشرق”، إلى بداية مبكرة في هذا المضمار، مشيراً إلى أنه “في ظل تراجع الثقة بالولايات المتحدة، بدأت دول الخليج تتجه نحو تنويع شراكاتها الاستراتيجية، حيث تبرز الصين كخيار جاذب في هذا السياق، فبكين تقدم نفسها كطرف غير منحاز سياسياً، لا يتدخل في النزاعات الإقليمية، ما يمنحها قبولاً أوسع في بيئة الخليج المعقدة، كما أن قدراتها التكنولوجية والاقتصادية، من مشاريع البنية التحتية إلى الأمن السيبراني، تُوفر بدائل عملية من دون فرض شروط سياسية صارمة”.
وأشار إلى موقف الصين من الضربة الإسرائيلية على قطر، والذي اتسم بالإدانة، معتبراً أنه “عزز من صورتها كمدافع عن السيادة الوطنية، وفتح المجال أمام دور دبلوماسي أوسع لها في المنطقة”.
لكنه استدرك قائلاً: “مع ذلك، تبقى الصين مترددة في تقديم مظلة أمنية صلبة، إذ تفضل التركيز على الشراكات الاقتصادية بدلاً من التحالفات العسكرية، ما يضع دول الخليج أمام معادلة صعبة: كيف يمكن تنويع الشراكات الدولية من دون التخلي الكامل عن العلاقة الأمنية مع واشنطن؟”.