تلفت أعمال الفنانة العراقية نادية أوسي المُشاهد، كونها تحيل وبشكل مباشر إلى البيئة العراقية والتراث البغدادي. إذ يبدو واضحاً في أسلوبها وألوانها وفضاء لوحاتها الداخلي. كما تستدعي أعمالها الذاكرة دائماً، وتطوّعها في تشكيل هويتها الفنية.
منذ بداياتها الأولى في بغداد مطلع الثمانينات، شقّت أوسي طريقها محمّلة بانتماء راسخ إلى مدينة، تشكّل الفن جزءاً من موروثها الحضاري. درست التصميم الجرافيكي في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، قبل أن تواصل دراستها في لندن. اكتسبت أدوات جديدة صقلت بها رؤيتها الفنية، ومنحتها وعياً لونياً وبنائياً أكثر اتساعاً.
في أعمالها، تتجاور الذاكرة والحنين، وتتحوّل تفاصيل الحياة البغدادية القديمة إلى مشاهد نابضة بالعاطفة والحميمية. فبين الأزقة والمقاهي والبيوت الشعبية، تُعيد أوسي بناء صورتها عن المدينة التي غادرتها جسداً، وبقيت تسكنها روحاً، لتجعل من لوحتها وسيلة لتوثيق الزمن الذي تخشى عليه من الغياب.
في شهر أكتوبر، وفي قاعة “باهافان”، افتتح المعرض السنوي لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين في العاصمة البريطانية لندن، تحت عنوان “سرد تشكيلي 2″، حيث شهد المعرض مشاركة سبعة وثلاثون فناناً بأعمال مختلفة، من ضمنهم علاء بشير، فيصل لعيبي، معتصم الكبيسي، نادية أوسي، حيث يشكلون الأسماء البارزة في التشكيل العراقي.
على هامش المعرض، أجرت “الشرق” لقاء مع نادية أوسي، تناولت فيه تجربتها الفنية ومسارها الإبداعي.
رغم إقامتك الطويلة خارج العراق، ما زالت بغداد تحضر بقوة في أعمالك. كيف تفسّرين التعلّق بالمكان الأول؟
بغداد حاضرة في أعمالي كما لو أنني لم أغادرها قط. ليست مجرد مدينة في الذاكرة، بل نسيجٌ روحي يتخلل كل ما أراه وأرسمه. حين أبدأ عملاً فنياً، لا أستدعي بغداد عن قصد، لكنها تظهر تلقائياً في المفردات والألوان والتفاصيل. لم تُبعِدها الغربة، بل عمّقت حضورها، فغدت بغداد في أعمالي ليست فقط المدينة التي كانت، بل المدينة التي يمكن أن تكون، أو كما أتمنى لها أن تكون.
ما أبرز الفوارق التي تحددينها بين المناخ الفني في العراق ولندن؟
أتابع المشهد الفني في العراق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أرى لوحات ومعارض وأعمالاً تعبّر عن واقع مليء بالتحديات، لكنه يظلّ نابضاً بالأمل والحنين. الفنان هناك يرسم من القلب، ومن تفاصيل الحياة اليومية التي لا تخلو من الصبر والكرامة.
أما في لندن، فهناك مساحة أوسع لحرية التعبير، وتنوّع ثقافي وفرص عرض أكبر. غير أن التحدي الحقيقي يكمن في الحفاظ على الخصوصية الثقافية، إذ يتطلب الأمر شرح الذات وترجمة الرموز. فالجمهور هنا متنوّع، لكنه لا يحمل الذاكرة ذاتها، ولا يشعر بنبض دجلة أو بـ “سدّارة الأفندي”، كما أشعر بهما أنا.
يوصف أسلوبك بأنه امتداد للتعبيرية العراقية. ما الذي يميّز التعبيرية العراقية عن غيرها من المدارس العربية والعالمية؟
التعبيرية العراقية ليست مجرّد تيار فني، بل هي نبض متجذّر في الوجدان، ولد في ظل تحوّلات اجتماعية وسياسية عميقة. كان الفنان جواد سليم من أبرز من بلور هذا الحسّ، إذ مزج بين الحداثة وروح التقاليد المحلية، ليؤسّس أسلوباً بصرياً يحمل هويةً عراقيةً خالصة.
ما يميّز التعبيرية العراقية عن نظيراتها العربية والغربية، هو ارتباطها الوثيق بالبيئة والرمز الشعبي، وبذلك الوجدان الجمعي الذي ما زال حياً في تفاصيل الحياة اليومية.
أما في أعمالي، فلا أستعيد التعبيرية كما هي، بل أعيد صياغتها من خلال واقعية محدّثة؛ أبقي على ملامح الواقع، وأحمّلها بطبقات شعورية ورمزية وتاريخية، لتتحوّل اللوحة إلى مساحة يتداخل فيها الحاضر بالذاكرة.
هل ما زال الموروث الشعبي العراقي مصدر الإلهام الأساسي لأعمالك؟
الموروث العراقي غني جداً، ليس فقط بالرموز البصرية، بل بالمعاني التي يسكنها أيضاً. ربما يمكن القول إنني أستخدمه كمدخل، لكني أبحث دائماً عن الإنسان كغاية، وأحرص على تقديم الجانب الإنساني الذي ميّز ذلك الزمن: المحبة، البساطة، الدفء، والتعايش الودي بين الناس.
أرسم لحظات الألفة، ونظرات الصداقة، وطقوس اللقاء، وحتى صمت البيوت الذي كان يحمل معنى. أبحث عن الإنسان في كل زاوية، وأحاول من خلاله استعادة ما فقدناه من دفء وتسامح وتواصل.
هل يمكن اعتبار أعمالك محاولة لإحياء الأسلوب البغدادي بروح معاصرة؟
ربما لا تكون هذه محاولة للإحياء، بقدر ما هي استمرارية حيّة لروح الألفة والدفء، وللتفاصيل التي كانت تنسج الحياة اليومية في بغداد. أعيد تقديمها بلغة بصرية معاصرة تخاطب الحاضر، وتتفاعل مع المكان الذي أعيش فيه الآن، ومع الأسئلة التي أحملها عن الانتماء والحنين.
ما أقدمه ليس إعادة تمثيل، بل استمرار حيّ، حيث يلتقي الماضي بالحاضر، من دون أن يفقد طراوته، أو يتحوّل إلى نوستالجيا.
كيف أثّرت مشاهداتك للفن الغربي في تطوير أدواتك، دون أن تفقدي خصوصيتك المحلية؟
الفن الغربي لم يكن مرآة، بل نافذة أطلّ منها على احتمالات جديدة، وفتح لي باباً للتجريب. علّمني كيف أتعامل مع المادة بحرية، وكيف أعيد التفكير في التكوين.
لكن ذلك لم يكن على حساب هويتي، فالهوية لا تُفقد إذا كانت الجذور عميقة. أنا عراقية في التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة، في اللغة والذكريات، وفي الإيقاع اليومي لحياتي. جذوري عميقة، والفن الغربي لم يقتلعها، بل ساعدني على رؤيتها من زوايا جديدة، وطوّع أدواته لخدمة رؤيتي الخاصة.
كيف يتعامل الجمهور الغربي مع الموروث العراقي الذي تقدمينه؟
لاحظت أن الجمهور الغربي يتفاعل مع الموروث العراقي الذي أقدّمه بفضول واحترام، وأحياناً بدهشة. عندما يقدّم التراث بلغة صادقة، يتجاوز كونه غريباً ليصبح إنسانياً. كثيرون يرون فيه جمالاً غير مألوف، ويكتشف بعضهم تشابهاً مع موروثاتهم الخاصة، ما يمكنهم من استنتاج الفكرة الرئيسية للعمل، حتى وإن كانت بعيدة عن مفهوم تراثنا الشرقي.
هذا التفاعل يفتح باباً للحوار الثقافي والتقارب الإنساني، إذ إن الفن يظلّ إحدى لغات التواصل بين العقول، ويقرّب المسافة بين الثقافات المختلفة.
في زمن الصورة الرقمية، كيف يمكن للفنان التشكيلي أن يحافظ على فرادة تجربته؟
في عصر الصورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، يواجه الفنان التشكيلي تحدياً كبيراً للحفاظ على فرادة تجربته، غير أن هذا العصر يفتح أمامه أيضاً آفاقاً جديدة للأصالة والتميّز. فالأعمال المنجزة يدوياً ما تزال تحتفظ بقيمة عالية، ليس لجمالها فحسب، بل لما تحمله من أثر إنساني لا يُستنسخ ولا يمكن تقليده رقمياً. امتلاك العمل الفني الأصلي “Physical Art”، يظل مرغوباً، خصوصاً عندما يحمل قيمة ملموسة ونسخةً واحدة.
هل يمكن القول إن الغربة ساعدتك على اكتشاف ذاتك الفنية بشكل أعمق؟
نعم، يمكن القول إن الغربة كانت بوابة لاكتشاف أعمق لذاتي الفنية. والانعزال، رغم قسوته أحياناً، يمنح مساحة للتأمل. هو مادّة أولية لأي عمل فني صادق.
الغربة تولّد حنيناً وشوقاً لزمن يحمل معاني إنسانية دافئة، وتخلق توتراً عاطفياً داخلياً غالباً ما يكون دافعاً للإنتاج الفني الأصيل. كما أن التعرّف على ثقافات وأساليب حياة وفنون جديدة، يثري المخزون البصري والمعرفي، ويوسّع أدوات التعبير، ويمنح الفنان زوايا مختلفة لرؤية ذاته وهويته من خلالها. في هذا التداخل بين محاولة الحفاظ على الهوية والانفتاح على الآخر، تتشكل أعمال تحمل صدقاً إنسانياً وتجربة فنية متفردة.
هل يشعر المتلقي الأجنبي بالدلالات الرمزية كما يشعر بها العراقي أو العربي؟
الرمزية في الفن تُقرأ بعمق مختلف حسب الخلفية الثقافية للمتلقي. فالمتلقي العراقي أو العربي غالباً ما يتفاعل معها كما لو كان يقرأ ذاته، مستحضراً ذاكرة جمعية وتجربة شخصية.
أما المتلقي الأجنبي، فيقرأها كمن يكتشف الآخر، يتأملها بدافع الفضول والإعجاب، وأحياناً يلتقط منها ما يتقاطع مع تجربته الإنسانية. كلا نوعي التلقي مهم، إذ يضيف الأول عمقاً وجذوراً للعمل الفني، بينما يوسّع الثاني أفقه، ويمنحه بعداً جديداً.
كيف تُعيدين عبر الفن الاعتبار للعلاقات الإنسانية التي تآكلت بفعل الحداثة؟
في أعمالي، أستحضر لحظات التآلف التي كانت تشكّل نسيج الحياة اليومية في بغداد القديمة. لا أكتفي بتوثيق الذاكرة، بل أعيد تشكيلها بصرياً لتصبح مساحة للحنان والبساطة، وللعلاقات المبنية على المجاورة والاحترام والحميمية.
أعيد رسم هذه المشاهد بتفاصيل دقيقة في الشخوص والملابس وتعبيرات الوجه، لأبرز ما كان يُقال بين الناس دون كلمات. كما أحرص على أن تكون كل لوحة دعوة للتأمل فيما فقدناه من روابط إنسانية، ليس كوصف لماضٍ يُرثى له، بل كإمكانية حيّة للاستعادة والتجدد.
