الفيلم الإيراني The witness.. هل كل شيء واضح الآن؟
عُرض الفيلم الإيراني The witness، في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ضمن عروض البانوراما الدولية، حيث قدّم المخرج نادر سيفار في الفيلم الذي كتبه بالتعاون مع المخرج والسيناريست الشهير جعفر بناهي، قطعة سينمائية حادة الحواف، تقطع في العمق السياسي والاجتماعي بإيران، فتسير الأحداث على حبل رفيع بين التصوير الدقيق للواقع.
يعرض الفيلم شخصيات محطمة، كلّ منها يحمل أعباءً من الماضي والحاضر، ويجسد معاناة متراكمة تمثل حالة عامة للمجتمع الإيراني، لكن هل كان الفيلم قادراً على أن يلامس هذه القضايا بأسلوب فني محكم أم أنه سقط في فخ المباشرة والوعظ؟.
الرقص في وجه الريح
يبدأ الفيلم بزاوية ٣٦٠ درجة بخلفية ناصعة البياض داخل مدرسة لتعليم الرقص، يستمر المشهد محاطاً بالبياض حتى في أرضية المدرسة الشاهدة على أحلام الفتيات اليافعات، والتي تحمل خطواتهن الخائفة والمتحمسة كجزيرة صغيرة من الأمل في محيطٍ من القمع.
في المدرسة، تتجسد روح “زارا” مؤسسة المكان، تقوم بدورها الممثلة هنا كامكار، ذات الجمال الحزين، تُعلم الأجساد كيف تتحرر من أثقالها ولو للحظة، ترقص كأنها تقاوم جاذبية الأرض.
تعيش “زارا” في قبضة زواج بارد، مع رجل يُجسد ظلال النظام الحالك، “سولات” ويقوم بدوره الممثل نادر نادربور، ليس فقط شريك حياتها، بل هو حبل مشدود حول حنجرتها، يحاول خنق حريتها قطعة قطعة، يطل سولات كتمثال منحوت من الحجر، خالٍ من أي دفء إنساني. يعرف أن قوته لا تأتي من ذاته، بل من النظام الذي يخدمه بإخلاص. في عينيه هروب دائم، و في خطواته انشغال واستعجال، وفي كلماته تهديد مبطن، لكنه يتقن إخفاءه تحت قناع الخوف والتحفظ واللباقة.
رغم ذلك، تترنح “زارا” بين الرقص والألم، كأنها تكتب قصيدة من خطواتها على الأرض الجافة، هذا الحلم الجميل بدا مهدداً في كل لحظة، مثل شجرة تقف وحيدة في وجه إعصار.
“تارلان”.. لوحة مشققة بالزمن
“تارلان” أو السيدة جورباني، تؤدي الدور ببراعة الممثلة مريم بوباني، مثل لوحة عتيقة ممزقة الأطراف تروي قصصاً عن نضال طويل وصراع أبدي. وجهها الذي التهمته الهموم، لم يطفئ عينها النافذة التي ترى المستقبل رغم ظلامه، في محاربة الفئران في مطبخها، فئران تجول في الزوايا كما تجول الهواجس في عقلها. تستأنس تارلان بوحدتها، تشكو لصاحب المنزل، السيد “خورسو” من حالها، لكنه يرفض قتل الفئران، زاعماً أنها تساعد في التخلص من الحشرات.
هذه المفارقة الصغيرة تسلط الضوء على عبثية الحياة اليومية في ظل ظروف قمعية، خاصة بعد أن ينقلنا السرد إلى حياة السيدة جورباني السابقة، فهي ليست معلمة فقط، بل كانت ناشطة سياسية ونقابية دفعت ثمناً باهظاً لمواقفها، بعد أن فقدت وظيفتها ومنزلها. معاناتها تتفاقم بسبب ابنها السجين، الذي أُفرج عنه بوساطة سولات، مما يضعها في مأزق أخلاقي بين الامتنان لهذا الرجل والاشمئزاز من فساده.
الحبكة: خيوط الخسارة والانكسار
تنسج الحبكة خيوطها بين شخصيات تعاني من صراعات داخلية وخارجية، “زارا” ليست الابنة البيولوجية لـ”تارلان”، لكنها تمثل الأمل الذي زرعته الأخيرة في حياة فتاة فقدت والديها، علاقة الأمومة البديلة هذه تحمل في طياتها مشاعر معقدة من الحب والتضحية.
“تارلان” التي قدمت نصائحها لـ”زارا” بضرورة إغلاق مدرسة الرقص، كانت تدرك أن الخضوع هو السبيل الوحيد لتجنب العنف والإقصاء، لكن زارا تصر على أن المشكلة ليست المدرسة بحد ذاتها، بل أعمال زوجها المشبوهة التي تجرها إلى هاوية لا مهرب منها.
لقد ركز الفيلم بشكلٍ أساسي على شخصية تارلان، وهي من أبرز نقاط قوة الفيلم، شخصية معقدة، تجمع بين القوة والضعف، الأمل واليأس، ثنائيات تضيف طبقات من العمق للشخصية.
في المقابل لم تحظ الشخصيات الأخرى، مثل ابنة زارا المراهقة، بالعمق الكافي لتوضيح أسباب الخنوع أو المخاوف، مما جعل هذه العلاقات تبدو أحياناً كأطياف تحيط بالبطلة دون تأثير فعلي.
الأسلوب السينمائي.. بين المباشرة والتلميح
يتميز العمل بلغة بصرية وسردية مباشرة، تكشف دون مواربة القضايا الحساسة التي تُعد خطوطاً حمراء في إيران، اختار سيفار بجرأة طرح موضوعات محظورة، فالرقص، الذي كان جزءاً من ماضي البطلة المهني، يتخذ رمزية أكثر عمقاً كفعلٍ محرَّم يجمع بين الحرية الجسدية والروحية، والحجاب ليس بوصفه رمزاً دينياً وثقافياً فحسب، بل أداة قمع وإخضاع، فينقلب إلى قيد يلتف حول الشخصيات النسائية بمختلف أعمارها، هذه المفارقة تُبرز اختلاف النهج بين الأجيال في التعامل مع الظلم.
في الجزء البصري تنتقل الإضاءة الطبيعية التي تسيطر على مشاهد منزل “زارا” الفسيح، الجدير بالملاحظة عدم وجود مشهد واحد يجمع بين “زارا” و”سولات”، وهو تلميح عن مدى الشرخ بين الزوجين رغم إقامتهما تحت سقف واحد، والاكتفاء بتلقي رسائلهما الشفهية عبر البطلة الرئيسة “تارلان”.
من جانب آخر، تمكن المخرج من استخدام المساحات الضيقة والإضاءة الخافتة ليعكس الاختناق الذي تعيشه تارلان، وهي تبحث أحياناً عن المؤانسة، تبدو مشاهد منزل السيدة جورباني المظلم مع صوت تحركات الفئران، كأنها استعارة للفساد الذي ينخر في المجتمع.
نستشعر من خلال السرد أن صانع الفيلم لا يثق كثيراً بقدرة المشاهد على فهم الرسائل، إذ أراد المخرج أن يملي علينا معاني الفيلم بدلاً من أن يدعنا نستكشفها بأنفسنا.
لا شك أنه ينقل رسالة واضحة لا لبس فيها عن القمع الذي تتعرض له النساء الإيرانيات. ومع ذلك، هناك فرقاً شاسعاً بين أن تجعل الجمهور يشعر بالحقيقة وأن تُجبره على سماعها!.
ينتهي الفيلم بمشهد حافل بالدلالة، ولكنه لا يخلو من المباشرة. فلم يكفي مشهد الرقصة مع هبوب العاصفة، بل اتبعها بالأغنية الشهيرة “وشاحك” للمغني والملحن مهدي يراحيي، والذي حكم عليه بسبب هذه الأغنية بالسجن والجلد، ترافقها مقاطع واقعية لفتيات يتخلصن من حجابهن في ظاهرة احتجاجية.
لقد أغلق نادر دائرة الفيلم وترك المشاهد مع شعور مُعقد يجمع بين الانتصار الرمزي والهزيمة الواقعية وكأنه يصرخ في وجه المشاهد: “هذه هي الرسالة، هل كل شيء واضح الآن؟”.
إرث “بناهي” وتحديات “سيفار”
بالتأكيد، يحمل الفيلم روح جعفر بناهي، الذي تم اضطهاده واعتقاله مراراً، لمواقفه ضد النظام وكشف الحقيقة ومواجهة الظلم، وهو الذي قضى سنوات في السجن، و20 عاماً من المنع من السفر، وصولاً إلى إطلاق سراحه عام 2023، بعد أن خاض إضراباً عن الطعام، ولكن ربما كانت هذه الروح عبئاً على المخرج نادر سيفار، الذي بدا وكأنه يحاول الاستعانة بمكانة بناهي وسمعته لتوجيه رسائل الفيلم بدلاً من تطوير صوته السينمائي الذي يجعل الحقيقة نفسها أداة فنية تُغني أكثر مما تشرح.
يبقى السؤال: هل استطاع “الشاهد” أن يقدم تجربة سينمائية متكاملة؟، الإجابة تتأرجح بين الإيجاب والسلب. قوة الفيلم تكمن في تصويره للواقع، وفي شخصياته التي تحمل أبعاداً إنسانية، لكنه في الوقت ذاته يخسر جزءاً من تأثيره بسبب ميله إلى المباشرة. المشاهد لا يُترك ليتأمل أو يفسر، بل يُقدَّم له كل شيء على طبق من الوضوح.