جدد قادة الاتحاد الأوروبي خلال قمة عقدوها في بروكسل على مدى يومين، دعمهم لوحدة أراضي أوكرانيا، واتفقوا على تطوير اقتراح باستخدام الأصول الروسية المجمدة لتقديم قرض كبير لكييف.

إلا أن الاندفاعة نحو تسييل هذه الأموال واستخدامها في دعم كييف، اصطدمت بمخاوف بلجيكا من العواقب القانونية المترتبة على السماح بالتصرف فيها عبر شركة مقاصّة أوروبية تتخذ من بروكسل مقراً لها، وما قد يترتب على ذلك من تداعيات قانونية، أبرزها خفض تصنيفها الائتماني.

مع ذلك حرص القادة الأوروبيون على إظهار الدعم لأوكرانيا التي حضر رئيسها فولوديمير زيلينسكي، القمة، من خلال الإعلان عن حزمة عقوبات جديدة على روسيا.

وجاءت هذه العقوبات الجديدة وسط مساع للتأكيد على أن كييف لا يزال بإمكانها الاعتماد على دعم الاتحاد الأوروبي، بعد الحديث عن قمة أميركية روسية في بودابست، لبحث موضوع وقف الحرب، بالتوازي مع ضغوط من واشنطن على موسكو وكييف من أجل تليين المواقف، والتوصل إلى أرضية مشتركة، قبل أن تتبدد آمال عقد القمة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين.

ومن علامات الدعم طويل الأمد اقتراح من المفوضية الأوروبية، باستخدام الأصول الروسية المجمدة في أوروبا لتقديم “قرض تعويض” بقيمة 140 مليار يورو (163 مليار دولار) إلى أوكرانيا، فيما وصف المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، الخطة بأنها “مصادرة غير قانونية للممتلكات الروسية”. 

هولندا: سنعالج الجوانب القانونية

وقال رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف، في تصريح خاص لـ”الشرق”:” إننا سنعالج الجوانب القانونية والاقتصادية للأصول الروسية الموجودة في البنوك الأوروبية، التي يتعين علينا التعامل معها بشكل واضح، وهذا ما سنناقشه قريباً”. 

وأضاف ديك شوف أن “دول الأعضاء ناقشوا بالفعل الجوانب الفنية والسياسية مع المفوضية الأوروبية”، مشيراً قبل نهاية القمة، إنه “سيجرون خلال القمة الأوروبية المقررة في ديسمبر المقبل نقاش معمّق ومتعدد الخيارات حول مصير هذه الأصول الروسية”. 

واعتبر ديك أن “التركيز في المرحلة الحالية منصبّ على التحضير للقمة المقبلة، التي ستتناول سُبل معالجة هذه الأصول المالية الروسية”. 

المستشار الألماني فريدريش ميرتس أعرب عن ثقته من أن الزعماء الأوروبيين سيتخذون خطوات ملموسة بشأن استخدام الأصول الروسية المجمدة، على الرغم من تحفظات بلجيكا. 

وقال ميرتس للصحافيين خلال قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل “أشارك مخاوف رئيس الوزراء البلجيكي (بارت دي ويفر) ولكنني واثق من أننا سنتخذ خطوة إلى الأمام.

ووافقت دول الاتحاد الأوروبي على الحزمة رقم 19 من العقوبات ضد روسيا في وقت متأخر من مساء الخميس، بعدما أنهت سلوفاكيا تحفظها الذي عطل الاتفاق على الحزمة.

أبرز ما تضمنته الحزمة الـ19 من العقوبات الأوروبية على روسيا

حظر على الغاز الطبيعي المسال الروسي اعتباراً من يناير 2027،

عقوبات جديدة على ما يسمى بـ”أسطول الظل” (السفن التي تنقل النفط الروسي)

عقوبات على اثنتين من مصافي النفط الصينية المستقلة

حظر سفر وتجميد أصول بحق رئيس إحدى الجامعات الكبرى في موسكو (بدأ دورة ماجستير عن التحايل على العقوبات الأوروبية)

كرواتيا: حزمة العقوبات قوية  

قال رئيس الوزراء الكرواتي، أندريه بلينكوفيتش، في حديث خاص لـ”الشرق” على هامش مشاركته في القمة، إن جميع حزم العقوبات يجب أن تُبقى متكاملة، مشيراً إلى أن الحزمة الأوروبية التاسعة عشرة “قوية ومتينة للغاية”.

وأضاف بلينكوفيتش أن أبرز ما يميز هذه الحزمة هو تزامنها مع الحزمة الأميركية التي أُعلنت في الوقت نفسه، مؤكداً أن هذا التوافق في التوقيت والمضمون يزيد من تأثير الحزمة الأوروبية التاسعة عشرة.

وأضاف: “الرسالة التي تحملها هذه الحزمة وصلت بالفعل، ووجدت صداها في وسائل الإعلام”، معرباً عن ثقته بأنها” ستُحدث تأثيراً إيجابياً ملموساً”، مؤكداً على أنها “عملية مستمرة”، فطالما نُجدد العقوبات الحالية، ونُضيف عقوبات جديدة، فهذا يعني أننا نُوجّه الرسائل الصحيحة، ونحافظ على فاعلية الضغط.

وتشكل الإجراءات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي ضد نيكيتا أنيسيموف، رئيس الجامعة الوطنية للبحوث “المدرسة العليا للاقتصاد الروسي”، جزءاً من الحزمة 19 من العقوبات ضد موسكو؛ بسبب غزوها لأوكرانيا في عام 2022.

وقالت كايا كالاس مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إن “التكتل يُرحب بالعقوبات التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب على قطاع الطاقة الروسي”.

وأضافت كالاس قُبيل القمة: “سعداء للغاية بالإشارات التي تصلنا من أميركا في ما يتعلق بالعقوبات على روسيا”، معربة عن اعتقادها بأن “ذلك مهم وعلامة على قوة تحالفنا في هذا الشأن”. 

وكشفت الولايات المتحدة الأربعاء، عن عقوبات ضد شركتي نفط روسيتين كبيرتين بعد يوم من انهيار خطط عقد قمة بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. 

وقالت موسكو، الخميس، إن “خطط الاتحاد الأوروبي لفرض حظر على واردات الغاز الطبيعي المسال الروسي، هي تدمير للنفس، نظراً لنقص احتياطيات الغاز في أوروبا، والاستهلاك المتزايد للطاقة من قطاع الذكاء الاصطناعي”. 

وقالت وزارة الخارجية الروسية إن “الاتحاد الأوروبي لم يأخذ في الاعتبار تأثير الإجراءات التي يتخذها على أسواق الطاقة، أو على مصالح التكتل نفسه”.

المأزق القانوني

حالياً، تتصدر بلجيكا واجهة النقاش الأوروبي بشأن الأصول الروسية المجمدة، بعدما تحولت من قضية مالية إلى اختبار سياسي وقانوني حساس للاتحاد الأوروبي بأكمله.

فبينما يرى بعض القادة الأوروبيين في هذه الأموال فرصة لتمويل المساعدات لأوكرانيا، تتعامل بروكسل مع الملف بحذر بالغ، مدركةً أن أي خطوة غير محسوبة قد ترتد بعواقب مالية وقانونية خطيرة عليها. 

وقالت آنا فان دنسكي، الخبيرة البلجيكية في الشؤون الأوروبية والروسية لـ”الشرق”، إن “مسألة الأصول الروسية المجمدة في الاتحاد الأوروبي ما زالت تواجه تعقيدات قانونية، وسياسية كبيرة”.

وأضافت دنكسي أن “رئيس الوزراء البلجيكي شدد على ضرورة وجود أساس قانوني واضح قبل الإقدام على مثل هذه الخطوة”، مشيرة إلى وجود سابقة مماثلة في اليابان، حيث تحتفظ طوكيو بنحو 50 مليار دولار من الأصول الروسية.

وفي هذا السياق، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية البلجيكية، لورنس سونن لـ”الشرق”، إن “موقف بلجيكا كان ولا يزال ثابتاً، أي مقترح يتم طرحه يجب أن يحترم القانون الدولي احتراماً تاماً”.

وأكد سونن أن “بلجيكا لن تتحمل بمفردها المخاطر المالية أو القانونية، الحالية منها أو المستقبلية، التي قد تترتب على أي آلية جديدة، سواء كانت مرتبطة بشركة (المقاصّة الأوروبية) “يوروكلير” (ومقرها بروكسل) أو ببلجيكا نفسها، فهذه المخاطر ليست نظرية بحتة”. 

وأشار إلى أن وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني أصدرت، الجمعة الماضي، تحذيراً مفاده أنه إذا ترتب على القرض التزام طارئ كبير على بلجيكا، فقد يؤثر ذلك سلباً في التصنيف السيادي للبلاد، نظراً لارتفاع مستوى ديونها. لذلك، يؤكد على ضرورة أن تكون الضمانات مشتركة وقابلة للتنفيذ. 

وفي حال اضطرت “يوروكلير” إلى إعادة الأموال المجمدة، ينبغي أن تكون قادرة على استرداد القرض في أي وقت، ما يعني أن على الدول الأعضاء سداد الأموال فوراً، وبشكل كامل، بحسب المتحدث باسم الخارجية البلجيكية.

كما شدد سونن على ضرورة “أن يتجاوز أي حل موثوق وعادل حدود بلجيكا و”يوروكلير”، في إشارة إلى المؤسسة التي تدير الأموال الروسية المجمدة في الاتحاد الأوروبي”، مشيراً إلى ضرورة أن لا تتحمل بلاده المسؤولية وحدها. 

وهو ذات الأمر الذي أكد عليه رئيس الوزراء البلجيكي، إذ اتهم قادة الاتحاد بعدم إبداء رغبة “في تقاسم المسؤولية”، رغم امتلاك 6 دول أوروبية أخرى أصولاً روسية، موضحاً أنه مستعد للتحرك في حال وجود أساس قانوني، وتنسيق جماعي داخل الاتحاد.

التجربة اليابانية 

وفي هذا السياق، أشارت فان دنسكي إلى أن المحكمة اليابانية قضت بعدم قانونية مصادرة الأصول الروسية الموجودة في البلاد، لأنها تُعد أصولاً سيادية تُعادل الوضع القانوني للسفارات على أراضٍ أجنبية، وبالتالي لا يمكن تجميدها أو مصادرتها، إذ إنها لا تعود إلى أفراد أو شركات خاصة، بل إلى الدولة الروسية نفسها.

كما أكدت دنكسي على أن الوضع الحالي “هش للغاية”، لعدم وجود أساس قانوني أو مبرر كافٍ لمصادرة هذه الأصول، مشيرة إلى تصريح رئيس الوزراء البلجيكي بارت دي ويفر، الذي قال إنه “حتى خلال الحرب العالمية الثانية، لم تُصادر أي دولة الأصول السيادية لدولة أخرى، ولم يحدث ذلك من قبل بأصول مجمدة”.

واعتبرت الخبيرة البلجيكية في الشؤون الأوروبية والروسية، أن المسؤولية حالياً هي نفسها، وأن بلادها على “استعداد للعمل بسرعة وبشكل بناء، لكننا بحاجة إلى رؤية إجابات ملموسة تُعالج هذه القضايا ضمن نصوص قانونية واضحة”. 

لكنها أكدت أنه “طالما أننا لا نملك مثل هذه النصوص، فإننا غير مستعدين للموافقة على أي مقترح”.

وتعد مؤسسة الإيداع المركزي للأوراق المالية “يوروكلير”، ومقرها بروكسل، نقطة الارتكاز الرئيسية في هذا الملف، إذ تحتفظ الشركة بأكثر من 250 مليار يورو من الأصول الروسية المجمدة، وفقاً لتقارير صدرت في فبراير 2025.

وهذه الأموال تم تجميدها ضمن العقوبات الأوروبية المفروضة على موسكو عقب غزوها لأوكرانيا عام 2022، وهي تشكل الجزء الأكبر من الأصول الروسية المحتجزة في أوروبا.

وذكرت فان دنسكي، أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين تسعى إلى مصادرة الأصول الروسية المودعة في البنك البلجيكي “يوروكلير”، على أساس أخلاقي، باعتبار أن روسيا غزت أوكرانيا، ويجب أن تتحمل التبعات. 

وأضافت أن “الرئيس الأميركي دونالد ترمب عارض هذا التوجه بشدة”، معتبراً أن مصادرة الأصول السيادية تمثل سابقة خطيرة، موضحاً أن “الغزو لا يبرر الاستيلاء على أموال الدول”، إذ قد ينعكس ذلك سلباً على الولايات المتحدة نفسها التي خاضت حروباً عدة.

وأكدت فان دنسكي أن “إدارة ترمب رفضت المصادرة باعتبارها إجراءً غير قانوني، رغم اعترافها بعدم شرعية الغزو الروسي لأوكرانيا”، مشيرةً إلى أن الرئيس الأميركي يرى وجوب إعادة الأموال لروسيا بعد انتهاء الحرب وعقد اتفاق سلام، لتقوم موسكو حينها بدفع التعويضات لأوكرانيا وفق ما يُتفق عليه.

“الهاجس القضائي” 

وخلال اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي، حذّرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد من أن فوز روسيا بأي دعوى قضائية سيُلزم الاتحاد بإعادة الأموال فوراً مع الغرامات والفوائد، ما قد يضاعف المبلغ المستحق، داعيةً الدول الأعضاء إلى الاستعداد المالي لاحتمال السداد. 

كما شددت لاجارد على ضرورة توحيد الموقف مع الدول خارج الاتحاد التي تمتلك أصولاً روسية، لتجنب الاتهامات بانتهاك القانون الدولي، مؤكدة أن التباين في المواقف قد يسيء لصورة أوروبا عالمياً.

وفي ختام المداولات، أوضح رئيس الوزراء البلجيكي أن بلاده ستتحمل نصيبها من المسؤولية بشرط توافر الأسس القانونية والتضامن الأوروبي، داعياً المفوضية الأوروبية إلى البحث عن بدائل لتمويل الحرب ودعم الاقتصاد الأوكراني المتعثر، على أن يُتخذ القرار النهائي قبل نهاية العام. 

وأشارت فان دنسكي إلى أن أوكرانيا كانت تعاني من أزمة ديون حادة حتى قبل الحرب، إذ دفعت عام 2021 نحو 160 مليون يورو غرامات تأخير، بينما أكدت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا أن “كييف مثقلة بالديون إلى حد يجعلها غير قادرة على السداد حتى قبل الغزو الروسي”. 

في الأشهر الأخيرة، تصاعدت النقاشات داخل أروقة الاتحاد الأوروبي بشأن كيفية استخدام هذه الأصول لدعم كييف. فبينما تدفع بعض الدول، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، نحو توظيف هذه الموارد لتخفيف العبء المالي عن ميزانيات الاتحاد، تتبنى بلجيكا موقفاً أكثر تحفظاً.

وفي الوقت الحالي، تكتفي أوروبا باستخدام العوائد الناتجة عن الأصول المجمدة، وليس الأصول نفسها، لتمويل المساعدات المقدمة لأوكرانيا، في خطوة تُعد حلاً وسطاً مؤقتاً يجنّب الاتحاد الأوروبي الدخول في مواجهة قانونية مباشرة مع موسكو.

وتجد بلجيكا نفسها اليوم في موقع دقيق بين الالتزام بالتضامن الأوروبي، وحماية مصالحها القانونية والمالية.

ويبدو أن مستقبل هذا الملف سيعتمد على قدرة الاتحاد الأوروبي على إيجاد توازن بين الطموح السياسي والدقة القانونية، بحيث لا يتحول السعي لمعاقبة روسيا إلى عبء مالي على دوله.

شاركها.