كشفت دراسة جديدة أن الكربون قد يكون العنصر الحاسم وراء تجمد اللب الداخلي للأرض، ونشوء مجالها المغناطيسي الواقي.
وتقدم الدراسة المنشورة في دورية Nature Communications أول دليل قوي على أن تركيبة اللب الغني بالحديد تحتوي على نسبة أكبر من الكربون مما كان متوقعاً، ما يمنح العلماء فهماً أعمق لتاريخ الأرض وتطورها.
الأرض ليست كتلة صلبة متجانسة كما تبدو لنا من السطح، بل تتكون من طبقات متمايزة بخصائص فيزيائية وكيميائية فريدة. فبعد القشرة والوشاح، يأتي اللب الذي ينقسم إلى قسمين؛ لب خارجي سائل، ولب داخلي صلب.
في اللب الخارجي، حيث الحديد المنصهر في حركة مستمرة، تتولد تيارات حمل حراري هائلة، وهي التي تعمل كدينامو طبيعي ينتج المجال المغناطيسي للأرض، وهذا المجال المغناطيسي ليس مجرد ظاهرة فيزيائية، بل هو درع حيوي يحمي الغلاف الجوي والكائنات الحية من الرياح الشمسية والإشعاعات الكونية.
خصائص لب الأرض
وتعد خصائص اللب، الغني بالحديد بشكل رئيسي، مفتاحاً لفهم أعماق كوكبنا، فمن معرفة درجة حرارته وضغوطه الداخلية، إلى تفسير آليات التوصيل الحراري والكهربائي فيه، يعتمد العلماء على دراسة اللب لفهم استقرار الأرض ككوكب حي.
غير أن التركيب الكيميائي الدقيق للب يظل لغزاً لم يكشف بالكامل بعد، إذ تشير الدلائل إلى وجود عناصر خفيفة مثل السيليكون، والكبريت، والأكسجين، والكربون مذابة مع الحديد والنيكل، لكنها غير محددة بالكميات الدقيقة.
واللب الداخلي لقلب الأرض غني بالحديد، ويحيط به لب خارجي منصهر، ومع مرور ملايين السنين، يبرد اللب الخارجي ويتجمد تدريجياً، ما يؤدي إلى نمو اللب الداخلي الصلب، وتمثل هذه العملية “المولد الجيوديناميكي” وهي العملية الطبيعية التي تولد المجال المغناطيسي للأرض في أعماقها.
من المثير أن نرى كيف تتحكم العمليات الذرية في البنية العميقة لكوكبنا. بدراسة كيفية تشكل اللب الداخلي، نحن لا نفهم ماضي الأرض فقط، بل نحصل أيضاً على نافذة نادرة تطل على منطقة لن نصل إليها أبداً، وعلى كيفية تغيرها في المستقبل.
“ألفريد ويلسون” الباحث في جامعة ليدز البريطانية
ولا يبقى اللب الخارجي للأرض -الطبقة السائلة من الحديد والنيكل المنصهر- ساكناً، بل يتحرك باستمرار بسبب الحرارة المتدفقة من الداخل نحو الخارج ودوران الكوكب نفسه.
وتحدث هذه الحركة تيارات كهربائية هائلة داخل السائل المعدني الموصل، وكما يحدث في أي سلك يمر فيه تيار كهربائي، تنشأ الخطوط المغناطيسية التي تحيط به، وعندما تتداخل هذه التيارات والحركات الدوامية داخل اللب الخارجي، يتشكل مجال مغناطيسي عالمي يغطي الكوكب بأسره، لكن كيفية بدايتها وزمن حدوثها ظلا موضع جدل علمي لعقود.
حسابات علمية
أشارت الحسابات العلمية السابقة إلى أن الحديد النقي الموجود في أعماق الأرض يحتاج إلى تبريد فائق يتراوح ما بين 800 و1000 درجة مئوية كي يبدأ في التجمد والتبلور، أي أن درجة حرارته يجب أن تنخفض كثيراً دون نقطة الانصهار المعروفة له.
ولكن هذا التصور، رغم دقته النظرية، بدا غير منطقي عند مقارنته بالواقع الجيولوجي، فلو احتاج اللب بالفعل إلى هذا القدر الكبير من التبريد الفائق، لكان اللب الداخلي قد نما بسرعة هائلة ليصبح أكبر بكثير مما نرصده اليوم، ولانهار المجال المغناطيسي الذي يعتمد على التوازن الدقيق بين اللب الداخلي الصلب، واللب الخارجي السائل.
ولأن أيا من هذين الأمرين لم يحدث عبر تاريخ الأرض الممتد لمليارات السنين، فقد اتضح للعلماء أن فرضية الحديد النقي غير كافية لتفسير ما نراه، وأن هناك عناصر أخرى مختلطة بالحديد لا بد أنها لعبت دوراً أساسياً في جعل عملية التجمّد ممكنة وبالشكل الذي يتوافق مع الملاحظات الجيوفيزيائية الحالية.
ولفك شفرة هذا اللغز الذي حير العلماء لعقود، لم يكن أمام الباحثين سوى الاعتماد على تقنيات المحاكاة الحاسوبية فائقة الدقة، إذ لا يمكن الوصول إلى أعماق الأرض مباشرة.
عناصر أرضية
واستخدم الفريق نماذج ذرية شملت نحو 100 ألف ذرة، جرى إخضاعها لظروف تماثل الضغط والحرارة الرهيبة داخل اللب، لتتبع كيفية بدء عملية التجمّد، وتكوّن البذور البلورية الأولى، وركزت الدراسة على أربعة عناصر بعينها هي السيليكون، والكبريت، والأكسجين، والكربون.
ولم يأت اختيار هذه العناصر من فراغ؛ فهي تعد الأكثر احتمالاً للذوبان في الحديد المنصهر أثناء المراحل الأولى من تكوين الأرض، إذ إنها موجودة بوفرة في الوشاح العلوي، ويمكن أن تكون قد انتقلت تدريجياً إلى اللب بفعل العمليات الجيولوجية العنيفة التي صاحبت نشأة الكوكب.
كما أن هذه العناصر معروفة بقدرتها على تغيير الكثافة والخصائص الفيزيائية للحديد، وهو ما قد يفسر سبب كون اللب أقل كثافة من الحديد النقي وفق ما تكشفه القياسات الزلزالية؛ لذلك كان اختبارها ضروريا لفهم كيف أثرت في مسار تجمد اللب الداخلي، وما إذا كان وجودها قد جعل عملية التبلور ممكنة بالوتيرة التي نراها اليوم.
وافترضت التوقعات العلمية السابقة أن العناصر الخفيفة مثل السيليكون والكبريت قد تساعد على خفض درجة انصهار الحديد، وتجعل عملية التجمد أسهل، باعتبارها تخلخل البنية البلورية، وتفتح المجال أمام تشكل اللب الداخلي بسرعة أكبر، لكن المحاكاة الذرية كشفت العكس تماماً.
ووجود هذين العنصرين جعل الذرات أكثر اضطراباً، وأبطأ تكوّن البذور البلورية، ما يعني أن اللب يحتاج إلى تبريد فائق أكبر ليتجمد، وهو أمر يتعارض مع ما حدث فعلياً في تاريخ الأرض.
وفي المقابل، برز الكربون كعنصر حاسم، إذ ساعد على استقرار البنية البلورية للحديد المعرض لضغوط وحرارة هائلة، فسهل بداية عملية التبلور وخفض مقدار التبريد الفائق المطلوب، وهو ما ينسجم مع حجم اللب الداخلي الحالي ومع استمرار المجال المغناطيسي عبر مليارات السنين.
دور الكربون
ويقول المؤلف المشارك في الدراسة “أندرو ووكر” الباحث في جامعة أكسفورد البريطانية إن وجود عناصر خفيفة مثل الكربون يفسر أيضاً سبب انخفاض كثافة اللب مقارنة بالحديد النقي، وهو ما تؤكده قياسات الزلازل.
وحاول الباحثون تحديد الكمية المثالية من الكربون التي تجعل تجمد اللب الداخلي ممكنا بالوتيرة التي تتوافق مع تاريخ الأرض المعروف.
وفي البداية، وضع الباحثون سيناريو متحفظاً باعتبار أن الكربون يشكل 2.4% من كتلة اللب، غير أن الحسابات أظهرت أن هذه النسبة لا تكفي، لأن الحديد المنصهر يحتاج في هذه الحالة إلى تبريد فائق يعادل 420 درجة مئوية تحت درجة انصهاره كي يبدأ في التبلور؛ وهو رقم مرتفع للغاية، ولا يتماشى مع الظروف التي يعتقد أن الأرض مرت بها.
وعندما رفع الباحثون نسبة الكربون في المحاكاة إلى 3.8% فقط، حدث الفرق الكبير؛ إذ انخفض مقدار التبريد الفائق المطلوب إلى 266 درجة مئوية، وهو رقم أكثر واقعية، ويتماشى مع التقديرات الجيولوجية التي تفترض أن اللب لم يبرد في الماضي أكثر من 250 درجة مئوية تحت نقطة الانصهار.
ويقول الباحثون إن هذا التطابق القوي بين النموذج والواقع أشار إلى أن الكربون ليس مجرد مكون ثانوي، بل هو عنصر أساسي ووفير في أعماق الأرض؛ كما يؤكدون أن وجود هذه النسبة من الكربون لم تسهل فقط عملية التجمد، بل كانت عاملاً حاسماً في تكون اللب الداخلي ذاته، وبالتالي في نشوء واستمرار المجال المغناطيسي للأرض.
ومن دون هذا العنصر، قد لا يتجمد اللب الداخلي أصلاً؛ وبالتالي فإن المجال المغناطيسي– الذي يحمي الغلاف الجوي والكائنات الحية من الرياح الشمسية والإشعاعات– سيكون في خطر الانهيار منذ زمن بعيد، ويقول الباحثون إن عملية تجمد اللب الداخلي للأرض بدأت في أعماق الكوكب.
وفي هذه الظروف، يظل الحديد سائلاً في اللب الخارجي، لكنه عند عمق معين يبدأ بالتحول إلى الحالة الصلبة بفعل “التبريد الفائق”؛ أي أن درجة الحرارة تنخفض تحت نقطة الانصهار النظرية، دون أن يتجمد الحديد فوراً.
وفي تلك الخطوة؛ ظهر دور العناصر الخفيفة الذائبة مع الحديد، فهي إما تعيق أو تيسر عملية التبلور، فالسيليكون والكبريت مثلا جعلا الذرات أكثر اضطراباً، فصعبا تشكّل البلورات، بينما ساعد الكربون على استقرار الشبكة البلورية للحديد، وفتح المجال أمام بدء التجمد، ومع ارتفاع نسبة الكربون إلى نحو 3.8% من كتلة اللب، انخفضت الحاجة إلى التبريد الفائق لمستوى واقعي يتوافق مع تاريخ الأرض.
وبمجرد أن بدأت البلورات الحديدية بالتشكل في مركز الكوكب، أخذ اللب الداخلي ينمو ببطء على حساب اللب الخارجي السائل، مولداً في الوقت ذاته الطاقة اللازمة لتشغيل “المولد الجيوديناميكي” الذي يصنع المجال المغناطيسي للأرض، ويحافظ على استمراره حتى اليوم.
ويقول المؤلف الرئيسي للدراسة “ألفريد ويلسون” الباحث في جامعة ليدز البريطانية: “من المثير أن نرى كيف تتحكم العمليات الذرية في البنية العميقة لكوكبنا، وبدراسة كيفية تشكل اللب الداخلي، نحن لا نفهم ماضي الأرض فقط، بل نحصل أيضاً على نافذة نادرة تطل على منطقة لن نصل إليها أبداً، وعلى كيفية تغيرها في المستقبل”.
ورغم هذا التقدم، لا يزال العلماء يختلفون حول توقيت بداية تجمد اللب الداخلي؛ فهل بدأ منذ أكثر من ملياري عام، أم قبل أقل من نصف مليار سنة فقط؟ لكن إضافة الكربون إلى المعادلة تقرّب الباحثين خطوة من حل هذا اللغز، وتحديد كيمياء وخصائص أعماق الأرض بشكل أدق.