في مشهد يعيد رسم ملامح التحالفات في الشرق الأوسط، شهد الكرملين أول لقاء من نوعه بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوري أحمد الشرع، في جلسة مغلقة امتدت لساعتين ونصف، عكست حجم الملفات الثقيلة التي طُرحت على الطاولة بين البلدين. اللقاء لم يكن مجرد زيارة بروتوكولية، بل محاولة لإعادة ضبط العلاقات السورية الروسية بعد مرحلة من الارتباك السياسي والعسكري أعقبت سقوط النظام السابق في دمشق.

دمشق تبحث عن ضمانات.. وموسكو توازن بين المصالح

كشفت مصادر سورية مطلعة أن الوفد المرافق للرئيس أحمد الشرع حمل معه أجندة واضحة المعالم، أبرزها طلب ضمانات روسية بعدم تسليح بقايا قوات النظام السابق التي ما زالت تشكل تهديداً أمنياً في بعض المناطق.
كما تضمنت المباحثات، وفق تلك المصادر، طلباً سورياً مباشراً بمساعدة موسكو في إعادة بناء الجيش السوري الجديد، وهي خطوة تشير إلى رغبة القيادة الحالية في إعادة تشكيل المؤسسة العسكرية على أسس مهنية بعيدة عن الولاءات السابقة.

وفي الوقت نفسه، طرح الشرع خلال اللقاء فكرة إعادة نشر الشرطة الروسية في بعض المناطق الحدودية، لاسيما في الجنوب السوري، بهدف منع أي خروقات جديدة من جانب الجيش الإسرائيلي، وهو اقتراح يعكس رغبة دمشق في تجنب أي تصعيد مع تل أبيب، مع ضمان بقاء موسكو طرفاً ضامناً للاستقرار الأمني.

ملف القواعد الروسية.. محور حساس في المباحثات

الكرملين من جهته، لم يخفِ أن أحد الملفات الأكثر حساسية كان مستقبل الوجود العسكري الروسي في سوريا.
فقد تناولت المباحثات مصير قاعدتي حميميم الجوية في اللاذقية وطرطوس البحرية على الساحل السوري، إضافة إلى الوجود العسكري الروسي في مطار القامشلي شمال شرق البلاد.
هذا النقاش، وفق تسريبات أولية، اتسم بالواقعية؛ فموسكو تبدو حريصة على الحفاظ على مواقعها الاستراتيجية، بينما تحاول دمشق الجديدة صياغة علاقة أكثر استقلالية لا تمسّ السيادة الوطنية، لكنها لا تقطع خيوط التعاون الدفاعي مع روسيا.

الشرع يطلب دعماً اقتصادياً ويُعيد لغة المصالح

الجانب الاقتصادي لم يغب عن المشهد. فبحسب وكالة “رويترز”، طلب الرئيس السوري أحمد الشرع دعماً مباشراً من موسكو، يشمل استئناف توريد القمح بشروط ميسّرة، إلى جانب تعويضات عن الأضرار الناجمة عن الحرب التي أنهكت البنية التحتية السورية.
في المقابل، أبدى الروس استعداداً لبحث التعاون في مجال الطاقة، حيث كشف نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك أن الجانبين ناقشا مشروعات نفطية مشتركة يمكن أن تساهم في تخفيف أزمة الوقود الخانقة في سوريا.
وقال نوفاك إن “نقص النفط يمثل مشكلة كبيرة لسوريا في الوقت الحالي، فيما تتطلع الحكومة الجديدة إلى إعادة بناء الاقتصاد والبنية التحتية بعد سنوات من الدمار”.

لقاء إنساني مع الجالية السورية في روسيا

بعيداً عن أروقة الكرملين، التقى الرئيس الشرع وفداً من أبناء الجالية السورية في موسكو، بحضور وزير الخارجية أسعد الشيباني.
اللقاء اتسم بالطابع الإنساني والوطني، إذ دعا الشرع أبناء بلاده في الخارج إلى لعب دور فاعل في نقل الصورة الحقيقية لسوريا الجديدة والمساهمة في مرحلة الإعمار والتنمية.
وأكد أن “سوريا لن تنهض إلا بسواعد جميع أبنائها، سواء في الداخل أو المهجر”، في رسالة تؤكد على الانفتاح والتصالح مع مختلف مكونات المجتمع السوري.

بوتين: روسيا تبحث عن مصلحة الشعب السوري

من جانبه، حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اللقاء على التأكيد أن موقف موسكو من سوريا لم يتغير، وأن روسيا “تسعى دوماً إلى مصلحة الشعب السوري، وليس إلى مصالح ضيقة”.
وأشار بوتين إلى أن التواصل بين البلدين سيستمر عبر وزارتي الخارجية، في إشارة إلى رغبة الكرملين في إبقاء القنوات الدبلوماسية مفتوحة، مع الحفاظ على شراكة طويلة الأمد تتجاوز الملفات العسكرية.

في المقابل، شدد الرئيس السوري أحمد الشرع على أن دمشق تريد ربط علاقاتها مع روسيا بمصالح مشتركة واضحة، مؤكداً على “الروابط التاريخية التي جمعت البلدين منذ عقود”، ومعتبراً أن التعاون الروسي السوري هو “ركيزة أساسية لحماية استقرار المنطقة”.

زيارة تحمل رمزية سياسية وتاريخية

تُعد زيارة أحمد الشرع إلى موسكو الأولى له منذ توليه الرئاسة، بعد أن أطاحت فصائل المعارضة بالنظام السابق قبل عام.
الزيارة حملت رمزية خاصة، ليس فقط لأنها تمت في الكرملين، بل لأنها أعادت إلى الواجهة مشهد التحالف السوري الروسي الذي شكّل لعقود ركيزة أساسية في سياسات الشرق الأوسط.
ومن المفارقة أن بوتين نفسه كان قد منح الرئيس السابق بشار الأسد لجوءاً إنسانياً بعد سقوطه، قبل أن يختفي الأخير عن الأنظار داخل الأراضي الروسية، مما يجعل لقاء الشرع وبوتين حدثاً تاريخياً يعكس صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.

دمشق بين التوازن والسيادة

الرئيس الشرع كان قد أكد في أكثر من مناسبة أن سوريا الجديدة لن تكون مصدر إزعاج لأحد، وأنها ستسعى إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف الدولية.
كما شدد في تصريحات سابقة على أن بلاده ستلجأ إلى كل الوسائل القانونية لمحاسبة النظام السابق دون الدخول في صراع مباشر مع موسكو، معتبراً أن أي مواجهة مع روسيا في الوقت الراهن ستكون “مكلفة وغير مجدية” لمستقبل سوريا.

لقاء يؤسس لمرحلة ما بعد الحرب

بهذه الزيارة، يبدو أن العلاقات السورية الروسية تدخل مرحلة جديدة تتسم بالواقعية السياسية والبحث عن المصالح المتبادلة.
ففي الوقت الذي تسعى فيه دمشق إلى تثبيت أركان الدولة وإعادة بناء مؤسساتها، تحاول موسكو الحفاظ على نفوذها الاستراتيجي في شرق المتوسط دون خسارة حليفها التقليدي.

اللقاء بين بوتين والشرع في الكرملين لا يمكن قراءته إلا باعتباره خطوة في طريق إعادة رسم التوازنات الإقليمية، وفتح صفحة جديدة من التعاون القائم على الشراكة لا التبعية، في مشهد يعيد للأذهان التحالفات الكبرى التي أعادت تشكيل خريطة الشرق الأوسط لعقود طويلة.

المصدر: صدى البلد

شاركها.