اللامركزية ليست فيدرالية.. دحض المفاهيم المغلوطة والحل لوحيد لبقاء سوريا موحدة

تعالت الأصوات في سوريا مؤخراً تطالب بتطبيق نظام اللامركزية الإدارية، بينما خلط البعض بين هذا المفهوم ومفهوم الفيدرالية، وجرى تبادل الاتهامات حول تبني خطاب الطائفية والعنصرية والدعوة للتقسيم والانفصال وغيرها، لكن ما هو الحل الأمثل في الواقع السوري اليوم؟ ولماذا لم تقبل الحكومة مبدأ “اللامركزية”؟
تُعدّ اللامركزية الإدارية من المفاهيم الجوهرية في تنظيم الإدارة العامة الحديثة، وهي تمثل نهجًا إداريًا يسعى إلى توزيع السلطات والمسؤوليات بين الحكومة المركزية والوحدات الإدارية المحلية. وتكتسب اللامركزية أهميتها في دعم التنمية المحلية، وتعزيز المشاركة الشعبية، وتحسين كفاءة الخدمات العامة.
ما هي اللامركزية الإدارية؟
اللامركزية الإدارية هي نظام إداري يتم من خلاله تفويض جزء من صلاحيات السلطة المركزية إلى هيئات أو وحدات إدارية محلية، سواء كانت هذه الهيئات مجالس بلدية، محافظات، أو مؤسسات عامة مستقلة، وذلك من أجل إدارة شؤونها بشكل أكثر مرونة واستجابة لاحتياجات المواطنين.
وتُعدّ اللامركزية الإدارية مختلفة عن اللامركزية السياسية، حيث تظلّ السلطة السيادية والسياسية بيد الدولة المركزية، بينما تركز اللامركزية الإدارية على الجوانب الفنية والتنظيمية.
وهناك 3 أشكال في نظام اللامركزية الإدارية، وهي:
اللامركزية المرفقية: وتتمثل في إنشاء مؤسسات أو هيئات عامة مستقلة إداريًا عن الوزارة، لكنها تخضع لإشرافها العام، مثل الجامعات والمستشفيات العامة.
اللامركزية الإقليمية: تقوم على توزيع المهام الإدارية بين الحكومة المركزية والوحدات الإدارية المحلية، مثل البلديات أو المجالس المحلية.
التفويض الإداري: ويعني تفويض بعض الصلاحيات الإدارية من الوزارات إلى موظفيها أو ممثليها في المناطق، دون نقل المسؤولية القانونية الكاملة.
قانون الإدارة المحلية 107 في سوريا
في عام 2011، ومع بداية الثورة السورية، حاول نظام بشار الأسد البائد إجراء بعض التغييرات لكسب الشارع وتهدئته، حيث أطلق القانون 107 في الإدارة المحلية، ويهدف إلى تعزيز اللامركزية في الحكم المحلي من خلال تمكين الوحدات الإدارية من إدارة شؤونها بشكل أكثر استقلالية وفعالية.
ويهدف القانون إلى نقل السلطات والمسؤوليات من الحكومة المركزية إلى الوحدات الإدارية المحلية، مما يعزز مشاركة المواطنين في صنع القرار المحلي، إضافة إلى تعزيز الديمقراطية من خلال انتخاب المجالس المحلية بشكل مباشر، ويُمكّن المواطنين من اختيار ممثليهم في إدارة شؤونهم المحلية، كما يحقق التنمية المستدامة بمنح الوحدات الإدارية صلاحيات أوسع في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويُسهم القانون في تطوير المجتمعات المحلية بشكل متوازن.
إلا أن تطبيق هذا القانون كان يصطدم بسلطة حاكمة تتفرد بالقرار وتعطي صلاحيات واسعة لدائرتها القريبة والمحسوبين عليها، لا سيما من حزب البعث، ما أعاق تطبيق أي جزء من القانون.
ويعود اليوم الحديث عن هذا القانون على اعتبار أنه حل يرضي الكثير من الأطراف، لا سيما الأقليات في سوريا، حيث يضمن مشاركتهم وتمثيلهم المجتمعي وإدارتهم الخدمية لمناطقهم، تحت إشراف الإدارة المركزية في البلاد.
فرصة للديمقراطية
وفي حديث مع وكالة “ستيب نيوز“، يقول الدكتور مهيب صالحة، الخبير السياسي السوري: “اللامركزية تنظيم إداري يجسد حكم الأكثرية السياسية، الذي يتيح الفرصة للديمقراطية المحلية لإغناء التجربة الديمقراطية عموماً. وهي نقيض المركزية لكنها لا تلغيها. وتُعرف بأنها تشتيت للسلطة أو توزيعها بين الأفراد والمستويات الإدارية في المنظمة أو الدولة”.
ويضيف: “من أهم ميزات اللامركزية الإدارية: عدم الاستئثار بالسلطة، المشاركة السياسية والاقتصادية الواسعة، الوحدة الوطنية في المجتمع التعددي، تنمية الوعي المجتمعي لدى الأفراد، مساهمة المجتمع المحلي في التنمية المستدامة، تنمية روح المسؤولية والرقابة الفعالة، تخفيف الأعباء عن الحكومة المركزية، وتسهيل التنسيق معها من قبل الوحدات اللامركزية، وتأمين عدالة انتقالية سلسة وتعزيز العدالة الاجتماعية بعدها”.
ويوضح أن من شروطها وجود فلسفة سياسية تُؤمن بالمشاركة الواسعة للشعب في إدارة شؤونه، ووجود ضرورة مجتمعية ناجمة عن حالة التعددية الإثنية والدينية والثقافية، ووجود وعي جمعي يُقدّمها على المركزية الشمولية والفيدرالية.
ويتابع “صالحة”: “إن بنية المجتمع السوري القائمة على التعدد والتنوع والاختلاف تفترض، بعد صراع مرير، قيام دولة موحدة تعكس هذه الميزة النسبية للمجتمع السوري. وخيار الدولة الديمقراطية مع لامركزية إدارية موسعة يراعي هذه الخصوصية في إطار جدلية الوحدة التنوع. وحيث إن النظام الديمقراطي يشترط وجود مواطنة حقيقية وحريات دستورية وتنمية متوازنة، فإن نجاحه مرهون بوجود توزيع إداري مناطقي مرن يراعي التنمية السكانية والمصالح المشتركة، ويطور مفهوم المواطنة في إطار الدولة الموحدة”.
ويشدد على أن “كل منطقة في التوزيع تتمتع بشخصية اعتبارية واستقلال إداري ومالي ينظمهما قانون الإدارة اللامركزية وسائر القوانين المرعية التي لا تتعارض مع أحكامه، على أن تُقرّ اللامركزية الإدارية الموسعة كمبدأ دستوري حصين”.
لكن الخبير السوري يشير في الوقت عينه إلى أن أخطر وأعقد مسألة ستواجه سوريا في العملية الانتقالية هي إعادة الإعمار وعودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم، مؤكداً أن اللامركزية الإدارية في إطار دولة المواطنة والقانون الموحدة هي ضمانة لتخفيف أعباء إعادة الإعمار وانخراط العائدين فيها عبر مجتمعاتهم المحلية، وفي الوقت ذاته تُبعد شبح التقسيم أو المحاصصة الطائفية لأنهما يدمران الذات الوطنية، ويأخذان البلد من جديد إلى أتون صراعات من نوع آخر.
اللامركزية ليست فيدرالية
من جانبه، يقول الدكتور مشهور سلامة، الخبير بالإدارة العامة، خلال حديث مع وكالة “ستيب نيوز”: “اللامركزية الإدارية تُساهم في تسريع اتخاذ القرارات وتنفيذ المشاريع من خلال إعطاء الصلاحيات للهيئات المحلية القريبة من المشكلات ومن السكان على أرض الواقع. ويمكن تطبيق جزئي للامركزية الإدارية فيما يخص الأمور الخدمية، لكن على أن تبقى السياسة الخارجية والدفاع والجيش والأمن الداخلي والمالية النقدية مركزية، والتعليم بمنهاج مركزي”.
ويضيف: “تُسهم اللامركزية الإدارية في سرعة اتخاذ القرار والاستجابة، ففي بعض المواقف يكون من المهم اتخاذ القرارات وتنفيذها في الوقت المناسب، ما يسهم في الحفاظ على القدرة التنافسية”.
بينما يوضح أن الفيدرالية هي تقسيم الدولة إلى ولايات؛ لكل ولاية طابعها الخاص، وتتمتع بصلاحيات واسعة في الحكم الداخلي لها، وهناك حكومة مركزية تشرف على هذه، وفق قواعد الدستور المنصوص عليها.
ويتابع: “فيما يخص سوريا، فإن نظام الفيدرالية ونموذجه لا يمكن تطبيقه، بحكم موقع سوريا الجيوسياسي وثقلها الإقليمي، وبالتالي فإن ذلك يعني تمزيقها وإضعافها، لذلك الجميع ضد الفيدرالية ومع اللامركزية الإدارية المحدودة بالخدمات”.
ويشدد “سلامة” على أن نظام الفيدرالية يعني التمزيق المجتمعي السوري بالكامل، بينما اللامركزية ستزيده قوة وتنافسًا على تعزيز الخدمات وتحسين الواقع المعيشي وفق الخبرات التي تتمتع بها كل منطقة، والاستفادة من نجاح التجارب وتعميمها.
مفهوم ثالث غير متوافق عليه
بين اللامركزية الإدارية التي لاقت ترحيبًا، وبين الفيدرالية المرفوضة، ظهر مصطلح ثالث هو “الإدارة الذاتية”، حيث أُطلق هذا المصطلح على مناطق سيطرة قوات قسد شمال شرق سوريا.
يقول الدكتور مهيب صالحة: “هناك أزمة مصطلحات ومفاهيم، وهذا خطير على أنماط وآليات التفكير، لكن الأخطر هو خلط المصطلحات والمفاهيم، وبخاصة في الظروف الحرجة، والأوقات غير المواتية. من هذا القبيل، الخلط بين مستويات اللامركزية المختلفة”.
ويشرح أن هناك 3 مستويات لنظام اللامركزية، وهي: “اللامركزية الإدارية، والفيدرالية، والكونفيدرالية”.
ويضيف: “الإدارة الذاتية لا تنتمي إلى اللامركزية لا بالمعنى الإداري ولا بالمعنى السياسي، إنما تعني الحكم الذاتي، وقد اخترعها حزب الاتحاد الديمقراطي (ب ي د) الكردي السوري التابع لحزب العمال الكردستاني التركي (ب ك ك) للتغطية على مشروعه ببناء كيان سياسي كردي في الشمال السوري أطلق عليه (روجافا) وتعني غرب كردستان، وتطوّر مشروع الحزب من روجافا إلى الإدارة الذاتية بعد تشكل (قسد) أو قوات سوريا الديمقراطية”.
ويؤكد “صالحة” أن “ما يحصل في مناطق الإدارة الذاتية يشبه إلى حد كبير ما يحصل في شمال العراق، وبالتالي، الإدارة الذاتية في منطقة الجزيرة السورية هي حكم ذاتي نشأ في ظروف الحرب وبدعم خارجي، ولم ينشأ بتوافق مجتمعي وسياسي”.
حلّ وحيد في سوريا
يشيد الدكتور مهيب صالحة بالقانون 107 للإدارة المحلية، مشيراً إلى أن إضافة تعديلات بسيطة ستجعله قابلاً للتطبيق في المرحلة الانتقالية في سوريا.
ويقول: “الحكومة السورية الجديدة لا تمانع برأيي بتبني اللامركزية الإدارية، وكان لي نقاش مع ممثل عنها حول هذا الموضوع، وهم بصدد العمل على إطار قانوني للامركزية الإدارية، بحيث تتمتع المحافظات بسلطات تنموية وتخفيف العبء عن الحكومة المركزية”.
ويضيف: “إذا نجحت الحكومة بإنتاج إطار للامركزية الإدارية بعد حوار مجتمعي تشاركي، أعتقد أن المجتمع السوري في غالبيته سيقبل بها ويتعامل من خلالها ويساهم في إنجاحها، وفي هذا الإطار يقتصر مفعولها على القضايا التنموية مع مراعاة بعض الخصوصيات في النواحي الأمنية فقط. أما القضايا السياسية السيادية فهي من صلب عمل الحكومة المركزية، التي تمثل الجميع في رابطة جدلية بين المركزية واللامركزية”.
ويتفق الخبيران “صالحة” و”سلامة” على أنه في الوقت الحالي يتعذر إجراء انتخابات، وإن أُجريت فلن تُعبّر حقيقة عن إرادة السوريين بسبب الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية السيئة، ولكن بمجرد استقرار الأمور وعودة الحياة إلى مؤسسات الدولة يمكن إجراء انتخابات السلطات اللامركزية في جميع المحافظات.

إعداد: جهاد عبد الله
المصدر: وكالة ستيب الاخبارية