غزوان قرنفل
عند الحديث عن أي مشروع إصلاحي يستهدف إعادة الحياة المدنية إلى المجتمع، وإعادة المجتمع إلى السياسة والشأن الوطني العام، تأتي النقابات المهنية كأحد أهم أعمدته، فهي التعبير المؤسسي عن مصالح العاملين وأصحاب المهن، وتمثل صوتًا ضاغطًا في مواجهة هيمنة السلطة على مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
بطبيعة الحال، فإن النقابات في البلدان التي عاشت عقودًا تحت وطأة الاستبداد، تحولت بفعل سياسات الترويض والتدجين إلى أجهزة شبه حكومية، وفقدت وظيفتها الأساسية بوصفها أداة للدفاع عن حقوق أعضائها وعن حقهم بالانخراط والاشتغال في الشأن العام، وبالتالي يصبح الإصلاح النقابي ضرورة لا تقل أهمية عن الإصلاح السياسي العام، بل إنه جزء لا يتجزأ منه.
هذا الإصلاح، ولكي يكون عمليًا وفعالًا، يجب أن يبدأ من نقطتين أو مرتكزين أساسيين، أولهما تشريع حر يضمن حرية واستقلالية تشكيل النقابات وانتخابات هيئاتها وصناعة قراراتها، وثانيهما اعتماد مبدأ اللامركزية النقابية عبر إلغاء فكرة النقابات المركزية، وتمكين النقابات في المحافظات ككيانات مستقلة إداريًا وماليًا من إدارة شؤونها ومواردها المالية والتعبير عن مصالحها على وجه الاستقلال.
التشريع المستقل يحرر النقابات من وصاية السلطة، لأن الإصلاح الحقيقي يبدأ من القانون، فلا يمكن لنقابة تخضع في نشأتها وانتخاباتها لإرادة السلطة التنفيذية أن تكون صوتًا حرًا لمجتمعها المهني أو تملك حرية التعبير عن آراء ومواقف تتعلق بالشأن الوطني العام قد لا تكون متسقة ومتوافقة مع خطاب تلك السلطة.
في كثير من البلدان، يشترط الحصول على موافقة وزارة معينة لإنشاء أو لتسجيل نقابة جديدة، أو يسمح فقط بوجود نقابة واحدة تمثل أعضاء مهنة على كامل أراضي الدولة، أو تفرض عليها قوائم انتخابية مدعومة من السلطات الأمنية أو الحكومية، كل هذه القيود تجعل النقابة امتدادًا للسلطة التي تحكم الدولة، وصوتها ليس أكثر من رجع صدى لصوت تلك السلطة، وليست تعبيرًا عن مصالح أو رؤى ومواقف أعضائها بالضرورة، أو تعبيرًا عن المصالح العليا للدولة ذاتها.
لذلك لا بد من تشريع واضح وصريح يضمن حرية تأسيس النقابات بلا قيود من السلطة، ويمنح أعضاء كل مهنة الحق في تشكيل أكثر من نقابة تمثل أعضاءها في كل محافظة على حدة، ما دام ذلك يتم وفق أطر قانونية شفافة ولا تخالف الناموس الدستوري العام، كما يجب أن يضمن القانون استقلالية النقابات في إدارة شؤونها المالية والتنظيمية دون وصاية أو تدخل من أي جهاز حكومي إلا رقابة القضاء الذي يتمتع باستقلالية حقيقية عن السلطة التنفيذية، وأن تكون انتخابات مجالسها دورية، حرة، تجري تحت إشراف قضائي مستقل أو هيئات مدنية محايدة، لا تحت سلطة وزارات أو محافظين أو أجهزة أمن.
إن حرية التأسيس والاستقلال التنظيمي والانتخابي ليست ترفًا، بل هي حجر الزاوية في بناء نقابات قادرة على القيام بوظيفتها، أي الدفاع عن مصالح من تمثلهم، والوقوف بوجه استغلال السلطة أو رأس المال لهم، والمساهمة في تشكيل رأي عام ضاغط في القضايا المهنية والوطنية الكبرى.
إن الإصلاح النقابي الحقيقي يبدأ من إلغاء سلطة النقابات المركزية، واعتماد نقابات مستقلة في كل محافظة، تمتلك مواردها المالية الخاصة وتمتلك الحرية في إدارتها واستثمارها والتصرف فيها بما يخدم مصالح منتسبيها، وتدير انتخاباتها وقراراتها وفق قانون موحد ولكن بآليات محلية مستقلة، ويمكن بعد ذلك تشكيل مجالس نقابية وطنية تنسيقية، لا تملك سلطة فوقية على الفروع، بل تقوم فقط بوظائف تمثيلية وتشريعية عامة، تمامًا كما تفعل الاتحادات المهنية في الأنظمة الديمقراطية. هذه الخطوة لا تستند فقط إلى منطق نقابي، بل إلى رؤية أوسع في إدارة المجتمع.
إن التوجه نحو اللامركزية الإدارية الموسعة وهو الخيار الأكثر صوابية لسوريا من وجهة نظري، وانتخاب مجالس محلية ومحافظين من أبناء كل محافظة يقتضي أن تصاغ المؤسسات المدنية ومن بينها النقابات، على المنوال ذاته، فلا يمكن أن تمارس المحافظات حقها في إدارة شؤونها العامة بينما تبقى مؤسساتها المهنية خاضعة لمركز متضخم في العاصمة يتحكم بقراراتها ويملي عليها إرادته.
وإذا كنا جادين في إطلاق مسار الإصلاح الشامل فنحن بحاجة لفعل تأسيسي لنقابات تنبع من المجتمع لا من السلطة، فوجود نقابات مستقلة في تشكيلها وإدارتها وتمويلها، ومنتخبة من قواعدها المهنية ومنظمة وفق مبدأ نقابات لا نقابة واحدة، سيحوّلها إلى شريك حقيقي في عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي وستصبح النقابات حينها قوة اجتماعية قادرة على مراقبة الفساد، وحماية كرامة العاملين والمساهمة الإيجابية في صياغة سياسات وطنية عادلة، لا مجرد مؤسسات صورية تستخدم لتجميل وجه السلطة.
بهذا المعنى، فإن الإصلاح النقابي ليس إجراء إداريًا، بل خطوة تأسيسية لبناء مجتمع مدني حر، يتحرك من القاعدة نحو الدولة، لا من السلطة نحو المجتمع، حينها فقط، تستعيد النقابات وظيفتها الأساسية وهي أن تكون قوة للمجتمع تردع عند الحاجة استبداد السلطة، لا ذراعًا للسلطة التي تجنح دومًا نحو خنق المجتمع.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي
