اخر الاخبار

“المستودع المفتوح”.. علاقة جديدة بين الفن والناس

في سياق التجديد، تسعى المؤسسات الفنية في أوروبا خصوصاً، لمراجعة علاقتها بالجمهور، والتوجّه إليه مباشرة من خلال الفن الحرّ، عبر الكشف عن مستودعاتها، وأسرار الحفاظ على الأعمال الفنية، والقيام بأعمال الصيانة والترميم مباشرة أمام الزوّار، ومتحف “كوبرا” للفن الحديث في أمستردام ليس استثناء، وهو الذي يملك منذ تأسيسه أكثر من ألفي عمل فني، يحفظ الجزء الأكبر منها في مستودعاته. 

تكمن أهمية “الديبو” في كونها طريقة مزدوجة للعرض والحفظ، حيث تُعرض أعمال فنية ضمن بيئة تحاكي المستودع، لكنها مُصمّمة للعرض، ما يتيح التأمل والمقارنة بين اتجاهات الفنانِين، خاصة أولئك المرتبطين بحركة “كوبرا”، أو مِمَن تأثروا بها لاحقاً من مختلف الثقافات.

انفتاح وشفافية 

يعطي “المستودع المفتوح” فرصة للزوّار لعقد مقارنات متنوّعة، واكتشاف علاقات جديدة؛ يقوم بعرض قسم من مقتنيات مستودعه أمام الجمهور، بطريقة تربط بين أسلوب الحفظ والعرض، كمستودع مفتوح، ليس لتخزين الأعمال الفنية فحسب، بل لعرضها بطريقة تتيح للزوار التفاعل معها خارج القوالب التقليدية للعرض.

اعتمدت المتاحف الكبرى راهناً فكرة “ديبو-المستودع”، مثل متحف “بويمنس فان بونينغن” في روتردام الهولندية، ذي التصميم المعماري الفريد، حيث مفهوم الشفافية والانفتاح، وهو يعتبر أوّل مستودع فني مفتوح للجمهور في العالم يعرض أكثر من 150 ألف قطعة فنية من مجموعات المتحف المخزّنة. 

يعمل متحف اللوفر في باريس، على مشروع “مركز اللوفر للمحفوظات” في مدينة ليفين، ويهدف إلى تخزين وعرض جزء من مجموعاته الفنية للجمهور في بيئة حديثة ومفتوحة.

متحف “جيتي” في لوس أنجلوس ، يقدّم جولات خاصة للمجموعات المُخزّنة، ما يسمح للزوّار بالاطلاع على الأعمال الفنية التي لا تُعرض في المعارض الدائمة. وتُظهر هذه المبادرات التزام المتاحف العالمية بالشفافية، وتوفير تجارب نوعية لمحبي الفن، من خلال فتح أبواب مجموعاتها المُخزّنة.

مستودعات متحف “كوبرا”

يقدّم “المستودع المفتوح” في متحف “كوبرا” الهولندي، جزءاً من هذه المجموعة الضخمة، من أعمال كاريل أبل، أسغر يورن، وكونستانت نويفهيس. لا يُعدّ هذا عرضاً دائماً، بل هو عرض ديناميكي متسلسل ومتغيّر، يتبعه عرض مقتنيات أخرى من التجربة ذاتها في شهر سبتمبر 2025، ما يجعل التجربة تفاعلية ومتاحة للجمهور مباشرة، إذ تكشف  كواليس الحفظ الدقيق بعناصر وأساليب حيوية تحافظ على اللوحات، كما هي الخبرة الهولندية في “المتحف الوطني الهولندي”، إذ تُحفظ الخرائط والوثائق في سراديب مكيّفة خاصة لمقاومة الحرارة والرطوبة والتلف.

انطلاقة “كوبرا” الثورية

تأسس متحف “كوبرا” للفن الحديث في أمستلفين، بالقرب من أمستردام عام 1995، كمؤسسة فنية لحفظ وتقديم أعمال حركة “كوبرا” الفنية الطليعية، التي أثّرت على واقع الفن الهولندي بشكل خاص، كما أسهمت بامتياز في تطلعات الفن العالمي، على الرغم من أنه جرى حلّها رسمياً عام 1951.

اجتمع المؤسسون عام 1948، كي يشكلوا حركة فنية ترفض الأكاديمية والصرامة الكلاسيكية، وتدعو للتعبير الحر العفوي، والرجوع إلى الرسم الفطري، والفن الشعبي، رداً على كارثة الحرب العالمية الثانية، وهم  كاريل أبل، كونستانت نيهوس، كورنييل، كريستيان دوتريمون، وآسر يورغ، وأعلنوا عن تأسيس حركة “COBRA”، وهي اختصار لأسماء  ثلاث مدن هي بروكسل، والدنمارك وأمستردام.

تقول إدار المتحف: “كانت لدى المؤسسين أفكار متباينة حول معنى “كوبرا”، بعضهم وجدوا معناها في مساهمتها في التطوّرات الفنية، وآخرون في روح الحرية المطلقة التي اتسمت بها، وآخرون في التعاون بين الأعضاء والتلاقح بين الشعراء والرسامين. أمر واحد مؤكد: لم يكن هناك إجماع قط حول معنى “كوبرا”. ولعلّ السبب تحديداً هو التناقضات والاختلافات”.

أضافت: “في 8 نوفمبر 2025، قبل 77 عاماً بالضبط، تأسست حركة كوبرا في باريس. كان أعضاؤها فنانين وشعراء من مختلف الدول الأوروبية. كانت متعة الحرية الروحية والفنية الكاملة والعفوية بمثابة ثقل موازن لهم في مواجهة كابوس الحرب. أثارت كوبرا ضجة كبيرة في هولندا، وتحدثت الصحافة الهولندية عن “خربشات وهراء”.

احتضنت الحركة تجاربهم الأولى، فكان لها دور كبير في انتشار الحركة عالمياً، بفضل وجود كل من الفنانين الهولنديين، كاريل أبل وكونستانت وكورنييل،  إضافة إلى تأسيسهم لمجلة فنية “ريفلكس”، توّلت نشر أخبار ونشاطات حركة “كوبرا”.

أصبحت حركة “كوبرا” الثورية راسخة في تاريخ الفن الأوروبي. وارتبطت بشكل رئيسي باللوحات الملوّنة والعفوية التي استمرت في التأثير لفترة طويلة. 

الفنانة الهولندية المنسية دورا توينمانcobra-museum.nl

تأثير المتحف

حافظ المتحف على أرشيف “كوبرا”، وقدّمه إلى المشهد الفني العالمي، وشجّع أجيالاً جديدة من الفنانين على استكشاف التعبيرية والتجريدية، ما عزّز مكانة وأهمية الفن التجريبي الطليعي، وخصوصاً في سياق حركات طليعية رائدة أخرى، مثل السريالية والدادائية، التي تأسست هي الأخرى رافضة للدمار والنتائج التي خلفتها الحرب العالمية الأولى. ولهذا يعتبر متحف كوبرا امتداداً لهذا الإرث الفني العظيم. 

الجدير بالذكر، أن تاريخ هولندا، كما يقول الشاعر والناقد الهولندي ريمكو أكرز، هو تاريخ الرسم فحسب؛ طغى على الأدب بشكل كبير، وهكذا، نرى  انتماء شعراء كُثر إلى حركة “كوبرا”، كشعراء وتشكيلِيين فاعلين، من أمثال شاعر الحداثة الهولندي لوسي بيرث، إذ نال مكانة خاصة في تاريخها.

المتاحف العربية وفكرة المستودع

 بدأت متاحف مثل، متحف “الفيصل” للفن العربي الإسلامي في الرياض، والمتحف “العربي” للفن الحديث في الدوحة، بتبني عناصر فكرة “الديبو”،  وذلك بعرض بعض الأعمال في المستودعات، وإقامة برامج تثقيفية حول الأرشيف، لكن لا تعدّ “ديبو” حقيقية من الناحية الهيكلية أو المعمارية أو المنهجية،  كما في المتاحف الأوروبية.

 تجب الإشارة  إلى أن متحف “كوبرا” للفن الحديث، استضاف معرضاً مميزاً بعنوان “القصة الأخرى: الحداثة المغربية” عام 2022، بالتعاون مع المؤسسة الوطنية للمتاحف ومتحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، سلّط الضوء على  تطوّر الفن التشكيلي المغربي منذ الاستقلال عام 1956 حتى اليوم، من خلال عرض أكثر من 100 عمل فني لفنانين مغاربة بارزين.

استعادة فنانة منسية

يعرض متحف “كوبرا” أوّل معرض شامل (استعادي) لأعمال الفنانة الهولندية دورا توينمان (1926-1979)، عرفاناً لفنانة كبيرة، متعددة الأوجه ومتميزة بأسلوبها الخاص. لم تُقدّر بما يكفي في القرن العشرين. اشتهرت أعمالها بالمناظر الطبيعية التصويرية في مرحلة  مبكرة من حياتها الفنية، التي تبنّت ذلك عن شغف حقيقي كما تقول في مقابلة مصوّرة، وصولاً إلى لوحاتها التجريدية المتأخرة، حيث يتم عرض عدد من أعمالها للمرّة الأولى، فنانة 

عملت توينمان في باريس في خمسينيات القرن الماضي ، حيث كانت جزءاً من شبكة فنية نشطة، تضمّ من بين أعضائها كاريل آبل، كورنييل، ولوتي فان دير غاغ.  لكن اختفى اسمها من تاريخ الفن رغم موهبتها ومعارضها الدولية. 

خلال وجودها في باريس، أصبحت أعمالها أكثر تجريداً، حتى تخلّت تماماً عن أي إشارات إلى العالم المرئي التشخيصي. وعند عودتها إلى هولندا، رسمت سلسلة  بورتريهات تعبيرية بعنوان “دمى”.

يقدّم متحف “كوبرا” لمحة عامة عن مسيرتها الفنية، في ثلاث مدن محورية هي باريس ونيويورك وأمستردام، وأهم الفصول في حياتها. اللافت أن تجربتها تقترب بشكل خاص من أعمال بعض فناني حركة “كوبرا”، ولا سيما الفنان كارل أبل، إذ تستعمل الكتل اللونية الكثيفة والخطوط اللونية العريضة والغامقة، ما يجعلها تبدو وكأنها تنتمي إلى الحركة ذاتها تقريباً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *