المعارك تشتد بمحيط “سد تشرين” في سوريا.. وتحذيرات من “كارثة”
ازدادت المخاوف المتعلقة بسلامة “سد تشرين” في الريف الشرقي لمحافظة حلب بشمال سوريا، ومدى التأثير السلبي الذي يتعرض له هذا البناء الاستراتيجي، في ظل الارتفاع المستمر لوتيرة القصف والمعارك العنيفة الدائرة في محيطه.
وشهدت الأيام الماضية ارتفاعاً غير مسبوق لوتيرة القصف الجوي والعمليات العسكرية الدائرة في محيط السد الواقع بمنطقة منبج، والذي يبعد عن مدينة حلب نحو 100 كيلومتر إلى الشرق، بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وقوات غرفة عمليات “فجر الحرية – الجيش الوطني السوري”، التابعة لإدارة العمليات العسكرية، الساعية للسيطرة على السد بدعم مباشر من سلاح الجو التركي.
واستقدمت قوات “فجر الحرية” تعزيزات عسكرية كبيرة باتجاه محاور الاشتباك، معظمها من عناصر أجنبية في تنظيم “حراس الدين” المتشدد، وصعدت من وتيرة هجومها باتجاه السد وقرى محيطة به، مثل العلوش وتل عريش ورمانة وتل الزمالة وجبل قليب، دون أن تسفر الهجمات عن أي تغيير فعلي يذكر على خارطة السيطرة، وفق ما أفادت به مصادر ميدانية من شمال سوريا لـ”الشرق”.
“خطر الانهيار” يهدد “سد تشرين”
وتزامنت الاشتباكات العنيفة في محيط “سد تشرين” خلال الأيام الأخيرة مع غارات عنيفة لطائرات حربية تركية، استهدفت خلالها نقاطاً تابعة لقوات “قسد” في محيط جسر قرقوزاق الواصل بين منبج وعين العرب، وقرى صاكول والكرك وأصلانكة، في محاولة لإسناد القوات المتقدمة من “الجيش الوطني”، ما ألحق أضراراً مادية بالجسر الحيوي، دون أن يؤدي إلى خروجه من الخدمة.
وتحدثت مصادر محلية من منبج لـ”الشرق” عن موجة نزوح كبيرة شهدتها القرى المحيطة بـ”سد تشرين” جراء القصف والاشتباكات، حيث لاذ معظم المدنيين بالفرار نحو مدينتي عين العرب في أقصى الشمال الشرقي لحلب، والطبقة بريف محافظة الرقة، وصولاً إلى أرياف محافظة الحسكة، خوفاً من اتساع وتيرة العمليات الجوية التركية، بينما ألزمت “قسد” العاملين في “سد تشرين” بالبقاء على رأس عملهم دون السماح لأي منهم بالمغادرة.
ودعت “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” (التي تخضع لقسد)، السبت، المجتمع الدولي إلى “إيقاف العمليات العسكرية في محيط سد تشرين”، وحذرت من تأثير المعارك على سلامته، وسط “ازدياد مخاوف انهياره”.
وقالت الإدارة في بيان إنه “مُنذ سقوط نظام الأسد قبل أكثر من شهر، واصلت الفصائل المدعومة من تركيا شن الهجمات على سد تشرين ومحيطه”، معتبرة أن “هذه الهجمات تهدف إلى زعزعة استقرار مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية وتدعم مطامع تركيا”.
وأضافت أن “هذه الهجمات زادت المخاوف بشأن سلامة منشأة سد تشرين، ويشكل احتمال استهداف هذه المنشأة الحيوية مرة أخرى تهديداً مباشراً لأرواح مئات المدنيين في المنطقة”، محذرةً من أن “أي هجوم على السد، أو تدميره، يمكن أن يؤدي إلى عواقب كارثية، بما في ذلك الفيضانات واسعة النطاق، والخسائر البشرية الكبيرة، وتدمير البنية التحتية، فضلاً عن الأضرار البيئية الشديدة”.
وتشير المعطيات الميدانية إلى خطر داهم بات يهدد “سد تشرين”، حال استمرت التطورات العسكرية على وضعها الراهن، وإبقاء السد مباشرة في مرمى النار، مما يجعله يواجه “خطر الانهيار” في أي لحظة.
وتزامنت بيانات “قسد” التحذيرية، مع تحرك على صعيد محاولة وقف الهجمات باتجاه السد، عبر استخدام المدنيين “كورقة ضغط” للحيلولة دون تقدم قوات “فجر الحرية-الجيش الوطني”، ودفعت في الأيام القليلة الماضية بأعداد من الأهالي القاطنين ضمن مناطق سيطرتها، للاعتصام في محيط السد على مقربة من خطوط الاشتباك، بهدف منع أي استهدافات تركية أو هجمات جديدة من قبل “الجيش الوطني” باتجاهه.
وقالت “الإدارة الذاتية” في بيان، إن الغارات التركية مستمرة في المنطقة رغم اعتصام، وأضافت أن “ضربة جوية نفذتها طائرة مسيّرة تركية حول السد، تسبب بسقوط 3 مدنيين وإصابة 15 آخرين”.
كما تضمن البيان إدانة “الإدارة الذاتية” لـ”الاستهداف:، ودعوتها التحالف الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية لـ”التحرك العاجل من أجل إبعاد سد تشرين عن القصف والهجمات”.
وفي أعقاب التحرك الجديد لـ”قسد”، أصدرت وزارة الدفاع التركية بياناً صعّدت فيه من لهجتها حيال المجريات في محيط “سد تشرين”، وقالت إن قواتها عازمة على “مواصلة العمليات عبر الحدود مع مراعاة احترام وحدة أراضي سوريا، ما لم تُلق المجموعات السلاح”، بالإضافة إلى “منع مساعي التنظيمات مثل حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب لزعزعة استقرار المنطقة، عبر استغلال هذه البنى التحتية الاستراتيجية”.
“كارثة إنسانية”
وقال مصدر مسؤول في “سد تشرين”، الذي تسيطر عليه “قسد” حالياً، لـ”الشرق”، إنه “من المبكر للغاية الحديث عن انهيار السد”، لكنه أبدى قلقه حيال المجريات الميدانية الدائرة في محيطه. معتبراً أن مجرد تصور انهيار السد هو بمثابة “الكابوس” لما سينتج عنه من عواقب وخيمة.
وأضاف المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، أن “مجرد انهيار السد بعيداً عن أي شيء آخر هو كارثة بحد ذاته، فالسد يعتبر من أجمل وأهم السدود المبنية وفق المعايير الحديثة، ومن الاستحالة تعويضه بعد ما تكلفه من جهد وعناء وأموال قُدّمت على مدار سنوات بنائه الطويلة”.
وتابع: “لا نتمنى أن يحدث هذا الأمر، لكن انهيار سد تشرين من شأنه التسبب بكارثة إنسانية ضخمة بكافة المقاييس، بدءاً من غمر مئات القرى والبلدات الممتدة من ريف حلب الشمالي الشرقي إلى أرياف محافظة الرقة بالمياه، وبالتالي نتحدث هنا عن خطورة كبيرة قد تودي بأرواح عشرات وربما مئات الآلاف من الأهالي، أو تهجيرهم من منازلهم وأراضيهم على أقل تقدير وتركهم في العراء”.
وأوضح أنه “إلى جانب الخطورة على أرواح وأرزاق الأهالي، لا يمكن إغفال الأضرار الهائلة التي ستلحق بالأراضي الزراعية الممتدة على طول المناطق من شمال شرق حلب باتجاه باقي مناطق شرق سوريا، والتي تقدر بعشرات آلاف الهكتارات، حيث ستكون تلك الأراضي مهددة بغمرها تماماً بالمياه، وبالتالي تضررها بشكل كامل بما فيها من محاصيل استراتيجية مزروعة، امتداداً إلى توقف كافة مشاريع الري الحديث التي كان تم العمل عليها خلال السنوات الماضية لري سهول ريف حلب الجنوبية”.
كما لفت المصدر إلى الآثار السلبية المترتبة من الناحية الخدمية، وفي مقدمتها مسألة الحفاظ على الأمن المائي في حلب، التي يبلغ عدد سكانها قرابة 4 ملايين نسمة.
وأشار المصدر إلى أن السد “من أهم مصادر تأمين مياه الشرب لمحطات المعالجة الرئيسية المغذية لمدينة حلب في منطقتي الخفسة والبابيري بريف المحافظة الشمالي الشرقي، وتوقف هذا الإمداد المائي من السد سيعني بالنتيجة أزمة مياه شرب خانقة ستعصف بالمدينة وقاطنيها”، مشيراً أيضاً إلى أن أي توقف للسد أو خروجه عن الخدمة سيؤدي مباشرة إلى “توقف تغذية محافظة الرقة بالتيار الكهربائي، وترك سكانها أمام الظلام”.
وناشد المصدر بـ”تحييد سد تشرين عن الاشتباكات الجارية حالياً بريف حلب وبتحكيم العقل من جميع الأطراف، لأن أي ضرر قد يصيب السد فلن يقع على جهة دون الأخرى، وإنما ستعم نتائجه الكارثية على الجميع، وسيكون المدنيون بالنتيجة المتضرر الأكبر من كل ما يحدث”.
“درة المنشآت الحيوية” في شمال سوريا
يتفق السوريون وخاصة أبناء حلب والرقة على وصف “سد تشرين” بأنه “درة المنشآت الحيوية” في شمال سوريا، فالسد الذي شيد عام 1999 بتكلفة تقديرية بلغت آنذاك نحو 22 مليار ليرة سورية (حوالي 450 مليون دولار)، يمتد بطول 900 متر تقريباً في حوض نهر الفرات، ويضم ست مجموعات توليد كهرومائية، تبلغ قدرة كل واحدة منها 105 ميجاواط.
وتتشكل خلف السد بحيرة تشرين التي تعد من أكبر البحيرات الصناعية في سوريا، بحجم 2 مليار متر مكعب، ومساحة تصل إلى 155 متراً مربعاً. وأقيمت خلال العقدين الماضيين بالاعتماد على “سد تشرين” وبحيرته، العديد من المشاريع الإنمائية الحيوية ومشاريع الري الحديث والقنوات المائية لري مساحات شاسعة من الأراضي المزروعة بمختلف أنواع المحاصيل، في أرياف محافظتي حلب والرقة.
كما يؤمن السد أيضاً التغذية الكهربائية والمائية لمعظم المناطق الواقعة في الرقة وشمال شرق حلب، كالطبقة ومنبج وعين العرب وصرين.
وعلى الصعيد الميداني، شهد “سد تشرين” خلال الحرب التي بدأت عام 2011، سيطرة فصيل “الجيش السوري الحر” في عام 2012، بعد معارك عنيفة مع قوات جيش النظام السابق.
وفي عام 2014، انتزع تنظيم “داعش” السد من يد “الجيش السوري الحر”، بعد سيطرة التنظيم على معظم أرياف حلب الشرقية، قبل أن تنتقل السيطرة في 2016 إلى “قوات سوريا الديمقراطية”، التي دخلت السد بعد معارك عنيفة مع “داعش” بمؤازرة من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. لتستمر “قسد” ببسط سيطرتها على السد والقرى المحيطة به منذ ذلك الحين.
كما تعرض السد لعدة استهدافات مباشرة خلال المعارك التي دارت منتصف ديسمبر الماضي والمستمرة حتى الآن، ما تسبب حينها بخروجه عن الخدمة بشكل كامل، قبل أن تتدخل منظمات إنسانية دولية وتتمكن من الوصول إلى السد، وإدخال الفنيين المختصين الذين نجحوا بعد عدة محاولات في إصلاح الأضرار التي تعرض لها وإعادته للخدمة.