اخر الاخبار

المغرب.. محمد مفتكر يكمل ثلاثية الأبوة بفيلم خريف التفاح

ينتمي فيلم المخرج المغربي محمد مفتكر “خريف التفاح”، الذي انطلق عرضه بصالات السينما في المغرب، السبت 8 فبراير، إلى تلك النوعية من الأفلام التي تغوص عميقاً في النفس البشرية وتناقضاتها، وتُحَلِّق عالياً مع الأفكار الفلسفية طارحة أسئلة وجودية وغير باحثة عن أجوبة سهلة وبسيطة تُرضِي المشاهد المعتاد على الأشرطة السهلة، والتي لا تتطلب مجهوداً فكرياً، وتجعله سعيداً لحصوله على فرجة سينمائية بسيطة. 

هو فيلم من نوعية تلك الأفلام التي  ترمي إلى إزعاج المتلقي، وجعله يتململ في كرسيه داخل قاعة العرض وليس العكس.

“خريف التفاح” فيلم عميق، رغم بعض الهنات البسيطة التي تتعلق ببعض المشاهد التي جاءت وكأنها مقحمة، لإصرار المخرج على استعمال أسلوب رمزي جاء خارج السياق الدرامي.

نجد بهذا الفيلم الأخير لمحمد مفتكر مرجعيات تنتمي لسينما مخرجين عالميين مهمين كتاركوفسكي وبيرجمان، وهو يقتفي الأثر الذي تركاه عميقاً في السينما العالمية المختلفة والمتميزة، لا من حيث ابتغاؤه للسيكولوجيا أسلوباً وركيزة لنسج الشخوص، وتَتَبُّعِها والغوص في أعماقها، ولا في تلك الشاعرية التي لا تخطئها عين المشاهد “السينفيلي”،  والواضحة من خلال الصورة في الفيلم، والتي كان وراءها مدير التصوير رافائيل بوش. 

جماليات الفيلم

جماليات الصورة السينمائية في “خريف التفاح” ليست حاضرة للبهرجة ولا للإبهار، بل هي جزء مهم من تكوين الفيلم وجمالياته، التي ابتغى بها “مفتكر” التعبير عن دواخل الشخوص ومكنونات مشاعرها وتناقضاتها أيضاً، لذلك لجأ للاستعارة والرمز والتلميح قدر الإمكان، رغم أن اعتماده على الرمزية وصل في بعض المشاهد لحد الإطناب، خصوصاً في استعماله لفاكهة التفاح كركيزة لذلك في أكثر من مشهد.

وهنا يمكن الاستشهاد بمشهدين، هما: مشهد حديث الأستاذ مع الطفل، وهو يشرح له دلالات الدائرة وتكويناتها الهندسية الأخرى، وحديث الأم معه أيضاً، وهي تحكي له قرب شجرة التفاح عن علاقتها بالأب المتبني أو الأب المفترض.

يظل فيلم “خريف التفاح” فيلماً ببصمة “مفتكرية” متميِّزة ومُكمِّلا لثلاثيته حول الأب ومغلقاً إياها في دائرة، كما الدائرة التي استعملها في الفيلم تعبيراً عن إشكالية الإبداع، الذي لا يمكنه الخضوع لتعاليم وتوجيهات النظريات الأكاديمية  بشكلٍ تعليمي مُحَدِّد لها من كل الجوانب، وراسماً لها خريطة طريق مسبقة. 

ويظهر عمق الطرح وجمالياته في هذا الفيلم بشكلٍ أكثر عمقاً ربما من فيلميه السابقين “براق” و”جوق العميين”، إذ تحضر هنا الرغبة والخطيئة كعنصرين أساسيين للعلاقة مع الأب والأم وبين أغلب الشخوص في ثنائيات كتبها ونسجها مفتكر بحذق وعناية.

إيقاع الفيلم المرتبط بِعُنصُريْ البطيء والطول في الفيلم بديا لي مُبَرَّرَينِ وضرُورِيَّن نظراً لطبيعته ونوعيته، ولم يكن من الممكن تقديم شخوص بهذا الشكل والعمق الذي قليلاً  ما نشاهده في السينما المغربية، دون أخذ الوقت والزمن الكافيين لنسجها وتقديمها للمشاهد. 

فبالنسبة لي، فقد مرت 120 دقيقة مدة عرض الفيلم بشكل سريع، ولم أشعر كمتلقي بالبطيء الذي قد يتحدث عنه، ربما مشاهد مختلفة أثَّرَت فيه أفلام ذات الإيقاع السريع.

التمثيل بالفيلم وكما عهدنا في أفلام مفتكر الأخرى، كان جيداً، فقد شهدنا سعد التسولي في أفضل دور له على الإطلاق في مساره الفني، والأمر نفسه يمكن قوله عن فاطمة خير، إضافة للأب تسولي، والفنانة المتميزة دائماً والراحلة عن دنيانا مؤخراً نعيمة المشرقي، التي كان هذا آخر فيلم تشارك فيه، والتي شكلت مع التسولي الأب ثنائياً منسجماً في الفيلم، واستطاع مفتكر أن يستغل تجربتهما الطويلة ومخزونهما التشخيصي الكبير ليوظفه في صالح تكوين الشخصيتين اللتين أداها كل منهما بتمكن المشخصين المتميزين.

للإشارة، فقد فاز فيلم “خريف التفاح” بالجائزة الكبرى في كل من المهرجان الوطني للفيلم المغربي، ومهرجان السينما الإفريقية بخريبكة، ونال تنويها خاصاً بمهرجان القاهرة السينمائي.

تيمة الأب ليست اختيارية

وكشف مخرج الفيلم محمد مفتكر لـ”الشرق”، سبب الحضور المتكرر لموضوع الأب في ثلاثيته السينمائية “براق”، و”جوق العميين” و”خريف التفاح”، إذ قال: “تيمة الأب في أفلامي ليست اختيارية، هي تفرض نفسها في عملية الكتابة الفيلمية، إذ لست من بين المخرجين الذين يقولون: أنا سأنجز فيلماً حول…، أنا ضد ذلك، لأننا هنا ندخل في نوع آخر من السينما، أما الكتابة فأراها عملية جدلية، تَكتُبُ وتُكتَبُ”.

وتابع “غالباً ما أجد نفسي وأنا في مرحلة الكتابة أواجه هذا السؤال، أو هاته التيمة التي تفرض نفسها، مثلاً وأنا أشتغل على السيناريو الذي قد يكون مشروع فيلمي المقبل، وهو بعيد كل البعد عن تيمة الأب بكل أشكالها وبكل تصوراتها، وجدت نفسي أمام شخصية لديها هموم وانشغالات أخرى، وإذا بي أجدني أفكر أنه من الأفضل ألا يكون لهذه الشخصية أبناء، رغم أنه رجل مشرف على الستينيات، ويتمنى لو كان لديه ابن”.

وأضاف “بمجرد ما جاءت هذه الفكرة، أصبحت الشخصية غنية بشكلٍ كبير، وهكذا، فمسألة الأبوة تأتي بشكلٍ غير مفكر فيه سلفاً لأجد نفسي في ملعبي، أو كما يُقال في الغناء أتسلطن حينها، لأنني أجد وقتها أن الشخصية تصبح غنية ولديها أبعاد أستطيع العمل عليها بعمق وبشاعة.

واستطرد قائلاً: “أنا محروم من الأب، ومن الابن أيضاً، لكن أطفال العالم كلهم أبنائي ولدي علاقة لا توصف مع الأطفال”.

الشخوص نقطة قوة

وبخصوص العمل على الشخصيات وطريقة بنائها والأبعاد  النفسية الحاضرة في تركيبتها في أفلامه، خصوصاً في “براق” و”خريف التفاح”، قال محمد مفتكر لـ”الشرق”: “لا أبدأ بالعمل على  السيناريو كحبكة حكائية، بل أبدأ بالشخصية، بحيث تفرض شخصية رئيسية نفسها عليّ، وأبدأ في بناء تركيبتها، من هي؟، ومن أين أتت؟، مركبات نقصها، مركبات القوة عندها، وأشرع في التأسيس لذلك بمنطق، وليس انطلاقاً من أهواء، ليكون هناك انسجاماً داخلياً لكي تتحدَّد الشخصية انطلاقاً من أبعادها الثلاث: البعد الجسدي، البعد الاجتماعي والبعد النفسي”.

وأشار إلى أن “الشخصيات عندي منسجمة مع ذاتها، لا من حيث اللباس أو تحركاتها، إذ لا أتعامل مع الشخصية من منطق الطيب والشرير، لكن أدع للرمادي مساحة مهمة، وهكذا فأنا أبني الشخصيات أولاً، ثم وضعها في مأزق، بحيث يصبح هذا الأخير ثانوياً ومجرد ذريعة، لأدخلها بعد ذلك في بناء حكائي معين، وتضاف لها شخصيات أخرى. 

وهكذا، فإنني حينما أبني الشخصيات الرئيسية بإحكام، فكل الشخوص التي تدور وتتمحور حولها تتبع إيقاع الشخصية الرئيسية، فيفرض عليها أن تُبْنَى بعمق بدورها”.

ما بعد الثلاثية

وحول ما بعد إغلاقه لهذه الثلاثية، قاب مفتكر “أعيش هذه الحالة، وأتساءل مع نفسي ما هو فيلمي المقبل، وقد كانت فترة ما بعد إنجاز فيلمي الأخير (خريف التفاح) فترة للتفكير، خصوصاً أنني أعتبر نفسي من السينمائيين الذين يتعلمون مما يقومون به، لأنني لا أدَّعي أنني أمتلك الحقيقة”.

وأضاف “أنا لا أعيش في قناعات، بل أعيش في شك مستمر في كل ما أقوم به، وأتساءل باستمرار كل ما أنجزه، انطلاقاً مما هو جديد، وأيضاً انطلاقاً من كوني إنساناً يهتم بالفكر وبالفلسفة، ويؤرقه السؤال أكثر مما يهتم بالجواب”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *