غزوان قرنفل
في حمأة انقسام السوريين، كما هو معتاد، بين رافض لتجنيس المقاتلين الأجانب وبين مؤيد لتجنيسهم وضمهم لبنية الجيش السوري الجديد، ومؤيد لخطوة السلطة وقرارها بهذا الاتجاه، خصوصًا بعد أن حصلت على الضوء الأخضر الأمريكي بهذا الشأن، سها الجميع عن قرار كانت أصدرته السلطة الانتقالية فعلًا قبل ذلك بكثير، قضى بتعيين ستة مقاتلين أجانب من جنسيات مختلفة في مراكز قيادية عليا ضمن بنية الجيش، وقبل تجنيسهم حتى، وكذلك صدور قرار بضم المقاتلين الأجانب جلهم لبنية الجيش الجديد ضمن لواء خاص بهم، وأيضًا قبل أن يتم تجنيسهم، وهي سابقة ربما لم نسمع بها أو نقرأ عنها في أي دولة من دول العالم التي تقيم وزنًا واحترامًا للقانون ولشعبها، أو تزعم أنها تفعل ذلك!
وأنا هنا لم أناقش بعد مسألة تجنيسهم من عدمها، وإنما أحاول القول إن أي سلطة انتقالية اعتمدت قواعد دستورية وادعت أنها ستحترم القانون وتمتثل في كل ما تتخذه من قرارات، وما تقوم به من إجراءات لموجبات القانون، باعتبارها انتقلت من الشرعية “الثورية”، كما يقال، إلى الشرعية الدستورية، تجسيدًا لتصريحها بالانتقال من مرحلة الثورة الى مرحلة بناء الدولة، فلا يحق لها والحال كذلك أن تتخذ إجراء من هذا القبيل وتقوم بتعيين أجانب لا يحملون الجنسية السورية في مراكز قيادية عليا بالجيش أو القوى الأمنية، ولا حتى قبول ضم المقاتلين الأجانب للجيش السوري قبل تمتعهم قانونيًا ودستوريًا بجنسية الدولة السورية، احترامًا لمبدأ السيادة الوطنية التي لا يجوز التهاون بها أو العبث فيها. وبالتالي فإن كل ما اتخذته السلطة الحالية من إجراءات في هذا السياق هو انتهاك للقانون وخرق لقواعد الدستور، لا يصححه “فرمان” بتجنيسهم الآن.
أما ما يتعلق بأحقية منح هؤلاء الجنسية السورية أو حجبها عنهم والمسوغات التي يسوقها طرفا الانقسام السوري بهذا الشأن، دعمًا لوجهة نظرهم وطعنًا بوجهة نظر الطرف الآخر المغاير، فأتمنى أولًا أن نعتاد على آلية تفكير مختلف عما نتبعه حتى الآن، في كل قضايانا التي تكون مثار خلاف وانقسام في الرأي. تفكير يأخذ بالاعتبار أنه لا يتعين أن يتبنى كل الناس وجهة نظر أو رؤية أو موقف واحد من أي قضية، سواء تلك المتعلقة بتجنيس المقاتلين الأجانب أو غيرها من القضايا المهمة التي غالبًا تكون مثار خلاف وانقسام، وأن تعدد هذه الرؤى والمواقف هو مسألة غاية في الإيجابية لأنها تنبئ باهتمام عام وحرص على أن يكون بلدنا نموذجًا إيجابيًا وبارزًا وفاعلًا إيجابيًا لشعبه ومحيطه، وليس مدعاة للطعن بالآخر والتشكيك بوطنيته، وأن نضع كل القضايا مثار الخلاف والانقسام ضمن ميزان مصلحتنا الوطنية العليا، وضمن هذا المنظور يقدم كل صاحب رأي رأيه ويفسر للآخرين كيف أن ذلك هو الأصوب لتعزيز وخدمة تلك المصلحة العليا.
ضمن هذا المعيار، أعتقد أن خيار تجنيس المقاتلين الأجانب من حيث المبدأ وضمن سياق المرحلة الحالية ليس خيارًا صائبًا وفي غير محله ووقته أبدًا، وأن ثمة خيارات أخرى أعتقد أنها أكثر نجاعة بما يخدم المصالح السورية العليا وبما لا يتنكر لإسهام هؤلاء بشكل أو بآخر في دعم خيار إسقاط النظام السابق، رغم إيماني الشخصي أن هؤلاء ما جاؤوا أصلًا نصرة لثورة السوريين ولا لدعم خياراتهم في التحول الديمقراطي، ولا انتصارًا لقيمة الإنسان الذي كانت تسحقه آلة الموت الإجرامية والطائفية، وإلا فإنه كان الأولى بهم أن “يجاهدوا” لفعل ذلك في بلدانهم ابتداء، حيث يعانون هم أنفسهم وأبناء جلدتهم من الاضطهاد.
هؤلاء بشكل عام سيبقون غرباء عن المجتمع السوري وثقافته وتراثه وعاداته وأفكاره، وهم يحملون فكرًا جهاديًا متطرفًا عابرًا للحدود، لا يؤمنون بالوطنية السورية ولا يملكون الاستعداد لاحترامها ولا لاحترام ظروف السوريين وخياراتهم الوطنية، وسيبقون في نظر كثير من الدول مصدر تهديد وستبقى سوريا في نظر تلك الدول دولة راعية وحاضنة للإرهاب، وسيعاني السوريون أينما توجهوا بجوازات سفرهم من النبذ والرفض والشك.
لا يغرينا الآن الضوء الأخضر الأمريكي بهذا الشأن، ويجب ألا نعوّل أو نتكئ عليه لنحصل على قبول عالمي في هذا الشأن تحديدًا، فكثيرًا ما كان الضوء الأخضر الأمريكي يقودنا إلى ما لا يحمد عقباه، ولا تنسوا في هذا السياق زيارة السفير الأمريكي السابق روبرت فورد في تموز 2011، التي اعتبرت بمثابة ضوء أخضر لثورة السوريين ودعمها، ثم كيف تبدلت السياسات والمواقف للدرجة التي لم يستوجب لديها استخدام السلاح الكيماوي ضد السوريين أي تدبير أو إجراء لدعم المعارضة في إسقاط النظام، بل قادتهم نحو مسارات سياسية تدرك مسبقًا أنها لا تفضي إلى حل حقيقي وجذري للصراع بينما كان عداد موت السوريين لا يتوقف، فما الذي ومن يضمن ألا يتبدل في لحظة أخرى موقف الإدارة الأمريكية الحالية أو القادمة من هذا الأمر، وألا يدفع السوريون فاتورة ذلك مرة أخرى؟
ثم إن هذا الأمر ستكون له حساسية وارتدادات على مستوى العلاقات مع كل من الصين وروسيا، وهي قوى دولية وازنة لا يمكننا تجاهل أهميتها، فقط لأننا نريد وضع بيضنا السوري كله في السلة الأمريكية، فهذه دول وازنة سياسيًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا وسنحتاج إليها اليوم أو غدًا، فلماذا نحرق جسورنا معها دون حاجة أو ضرورة لفعل ذلك.
لكل ما تقدم فأنا أعتقد أن اتخاذ خطوة التجنيس غير صائبة ولا تتسم بالحكمة ولا بعد النظر، بل يمكن اتباع خيار آخر كمنح هؤلاء إقامة لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد، تقونن لهم وجودهم وإقامتهم وعملهم في سوريا، سواء في مرافق مدنية أو حتى كمدربين ومستشارين عسكريين متعاقدين، لكن لا يجوز بأي حال تجنيسهم ومنحهم فرصة تسلّم مناصب عليا في الدولة وأجهزة السلطة وهم يحملون صفة مواطنين، إذا كنا حقًا نتجه نحو تأسيس دولة مدنية لا موطن أو بؤرة جهادية.
سيقول قائل: ولكن لدينا من السوريين من هم ربما أكثر سلفية وجهادية من هؤلاء. ولا أملك تجاه ذلك إلا القول: نعم صحيح هناك من السوريين من هم أكثر تطرفًا، ولكن هؤلاء هم سوريون، ولا نملك الحق في إنكار سوريتهم، وربما نتمكن بالحوار والمناصحة والبحث عن مشترك وطني أعلى بيننا وبينهم أن نخفف من غلوائهم واستيعاب تحولاتهم، لكننا لسنا مضطرين أبدًا أن نجنّس متطرفين جددًا نضيفهم إلى قوائم السوريين ثم نبحث عن حلول معهم بشأن خياراتنا الوطنية.
مرتبط
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
المصدر: عنب بلدي