“هدية مصر للعالم” عبارة زيّنت الطرقات والأماكن العامة في جميع أنحاء مصر، ترقباً لافتتاح المتحف المصري الكبير، السبت، بحضور الرؤساء والملوك من دول عدّة.
هذا الحدث وصفه علماء المصريات من جميع أنحاء العالم بـ”أهم حدث أثري في القرن الحالي”، نظراً للمجموعة الفريدة التي يملكها المتحف، من آثار الحضارة المصرية القديمة، أبرزها مقتنيات الملك توت عنخ آمون، التي تُعرض كاملة للمرّة الأولى.
يقع المتحف في مواجهة أهرامات الجيزة الثلاثة، في تكوين هندسي فريد، استغرق بناؤه 20 عاماً. يمتد على مساحة 490 ألف متر مربع، ويضم 12 قاعة عرض رئيسية بمساحة نحو 18 ألف متر مربع. تبلغ مساحة قاعتي توت عنخ آمون 7 آلاف متر مربع.
كما يضم المتحف “الدرج العظيم”، الذي يمتدّ على مسافة 64 متراً، وارتفاع 24 متراً. تنتشر على منصّاته 70 قطعة أثرية من تماثيل وأعمدة وبوابات، يصل وزن بعضها إلى 38 طناً.
يخصّص المتحف أيضاً مكاناً لعرض مراكب الملك خوفو، التي تم نقلها إلى المتحف عام 2021.
لا تتوقف أهمية المتحف هنا. فهو يعتبر المتحف الأكبر في العالم المخصص لحضارة واحدة. ويجمع أكثر من 57 ألف قطعة أثرية مهمة من عصور ما قبل التاريخ، مروراً بالحضارة المصرية القديمة والعصور اليونانية والرومانية.
فلسفة عرض القطع الأثرية تتمحور حول تقسيمها إلى موضوعات، تلقي الضوء على الحياة المصرية القديمة، وتطوّر علاقة الملوك بالمعبودات المصرية القديمة، وفكرة البحث عن الأبدية والبعث والخلود.
كما يعدّ مركز الترميم في المتحف المصري، من أكبر مراكز الترميم في الشرق الأوسط. جرى افتتاحه عام 2010، وتبلغ مساحته 32 ألف متر مربع، ويضمّ 16 معملاً للفحوصات والترميم.
حصل المتحف على 8 شهادات “أيزو”، في مجالات الطاقة والصحة والسلامة المهنية والبيئية والجودة، فضلاً عن جائزة أفضل مشروع في مجال البناء الأخضر. كما حصل على الشهادة الذهبية للبناء الأخضر والاستدامة.
تستعرض “الشرق ” قصصاً لبعض القطع الأثرية المعروضة في المتحف، وتتناول كواليس اكتشاف مقبرة الملك الذهبي “توت عنخ آمون بالبر الغربي بالأقصر”، الذي تمّ اكتشافه عام 1922 من قِبل العالم الإنجليزي هاورد كارتر.
تمثال رمسيس يستقبل الزوّار
يستقبل تمثال الملك رمسيس الثاني الضخم الذي يتخطى ارتفاعه 11 متراً، الزوّار في بداية رحلتهم للمتحف. حيث يقف في بهو الاستقبال الذي يمتدّ على 7 آلاف متر.
تعود المحطة الأولى لهذا التمثال إلى عام 1300 قبل الميلاد، حين تم قطعه في محاجر الجرانيت الوردي بأسوان، ونقله على صنادل خشبية. ليبحر شمالاً إلى مسافة 900 كيلومتر نحو شاطئ مدينة منف، العاصمة الأولى لمصر الموحّدة، التي تأسست عام 3100 قبل الميلاد.
وبعد أن يصل يتم سحبه على مزالج خشبية حتى معبد المعبود بتاح، إله الصناعة والفن، الذي اعتبره المصريون القدماء الإله الذي خلق العالم بكلمة من فمه.
يعتقد العلماء أن هذا التمثال مع تماثيل أخرى كان يزيّن معبد “بتاح”. وذكر أبو التاريخ هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، أن رمسيس صنع تماثيلاً أمام معبد بتاح يبلغ طولهم 30 ذراعاً، وأن أحدها كان يمثّل زوجته. وهناك أربع تماثيل أخرى ارتفاعها 20 ذراعاً تمثل أبناء الأربعة.
البريطاني ليونارد هورنر
في شتاء عام 1853، تم اكتشاف التمثال بواسطة عالم الجيولوجيا البريطاني ليونارد هورنر. كان يقوم بحفائر لقياس منسوب المياه الجوفية تحت إشراف يوسف حكيكيان بك، ممثل الحكومة المصرية حينها، وكان موقعه الأصلي على بعد 200 متر من التمثال الضخم، المعروض في منف لرمسيس الثاني.
كان التمثال مقسّماً إلى 6 قطع. عام 1887 قام الضابط الإنجليزي آرثر بانيولد بوضع القطع فوق قواعد حجرية، وبقي هكذا حتى عام 1955، الذي شهد نقل التمثال من منف إلى القاهرة في عملية استغرقت يوماً كاملاً.
وأوضح الدكتور محمود مبروك، مساعد وزير السياحة والآثار للجنة سيناريو العرض المتحفي لـ”الشرق”، أن قرار نقل تمثال رمسيس الثاني “اتخذه وزير الأشغال المصري عبد اللطيف البغدادي، وشجّعه على تنفيذه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الي رأى أن وضعه أمام محطة مصر له دلالة على وحدة المصريين التي يمثلها هذا التمثال”.
يظهر رمسيس مرتدياً تاجاً فريداً من نوعه لم يتكرر في التماثيل الأخرى، تعلوه ريشتان لرمز العدالة ورمز القوة وقرص الشمس، وهي العلامات الثلاث التي تكوّن اسم التتويج المصري القديم للملك رمسيس الثاني. وفي أسفل تاج مصر السفلى، ربما كان فيها ثعبان الكوبرا وطائر الرخمة اللذان يمثّلان مصر العليا والسفلى.
أشرف على عملية نصب التمثال وتجميع القطع، الفنان الكبير أحمد عثمان، الذي استكمل الأجزاء الناقصة.
وأشار مبروك إلى أن عثمان، قام بنحت وإضافة قدم للتمثال، وعاونه في هذا العمل النحّات الكبير عبد البديع عبد الحي.
ارتبط المصريون بهذا التمثال عبر الزمن. تغيّر اسم الميدان إلى “ميدان رمسيس”. وكان هذا التمثال المكان المفضل للمصريين لالتقاط الصور التذكارية. وحين نقل التمثال قبل 19 عاماً إلى مقرّه الحالي، اصطفّ الجمهور على جانبي الطريق لتحية الملك.
أشار مبروك إلى أن وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، “كان أول من قرّر نقل التمثال إلى المتحف المصري الكبير، حفاظاً عليه من التلوث. واصطحب الدكتور زاهي حواس وزير الآثار الأسبق، التمثال إلى مقرّه الأخير بجوار المتحف، ثم تم نقله إلى مكانه الحالي عام 2018.
المسلّة المعلقة
بمجرد وصول الزائرين إلى منطقة المتحف المصري الكبير، يتوقفون للحظات أمام المسلّة المعلقة، الموجودة في الساحة الخارجية للمتحف. تلك المسلة التي تحملها قواعد جرانيتية في تكوين هندسي فريد من نوعه. وهي تُعدّ الأولى في العالم التي يتم عرضها بهذه الطريقة.
تنتمي هذه المسلّة لحقبة الملك رمسيس الثاني، تمّ العثور عليها في منطقة تانيس – صان الحجر – في القرن التاسع عشر، عن طريق عالم الآثار الإنجليزي فليندرز بيتري عام 1884.
كانت المسلّة واحدة من ضمن 11 مسلّة أخرى وفقاً لما نشره بتري في كتابه عن تانيس. عثر على هذه المسلّة مهمّشمة لست قطع، وحملت رقم 49، وقاعدتها رقم 50. تتميّز بوجود اسم رمسيس الثاني في أسفلها.
وقال عالم الآثار المصري الدكتور حسين عبد البصير في تصريحات لـ”الشرق”: “إن هذه المسلّة فريدة من نوعها نظرا لأن الملك رمسيس الثاني كتب اسمه أسفلها، خشية أن تُطمس النقوش في العصور التالية.
أضاف: “إن اللواء عاطف مفتاح، المشرف العام على مشروع المتحف المصري الكبير، هو صاحب فكرة وضع المسلّة على قواعد معلقة، كي يتمكن الزوّار من رؤية اسم الملك رمسيس الثاني.
كنوز توت عنخ آمون كاملة
يتزامن تاريخ افتتاح المتحف مع ذكرى اكتشاف أول درجة في السلّم المؤدي لمقبرة الملك توت عنخ آمون، في الرابع من نوفمبر عام 1922، في منطقة وادي الملوك بالبر الغربي للأقصر.
وتعتبر كنوز الملك الشاب، البالغ عددها أكثر من 5 آلاف قطعة أثرية، هي درّة تاج المتحف المصري الكبير، وخصوصاً أنها ستعرض كاملة للمرة الأولى. تمّ جمعها من المتحف المصري بالتحرير ومتحف الأقصر، فضلاً عن القطع التي تواجدت في المخازن.
وقال الدكتور طارق سيد توفيق المدير الأسبق للمتحف المصري الكبير: “إنها المرّة الأولى التي يتم فيها عرض جميع مقتنيات توت عنخ آمون، التي يبلغ عددها 5389 قطعة موجودة في مكانٍ واحد”.
أضاف: “إنها الفكرة التي حرصت على تنفيذها أثناء ترؤسي للمتحف في الفترة بين 2014 و 2019. إذ تمّ نقل جميع قطع توت عنخ آمون الموجودة في المتحف المصري بالتحرير، ومتحف الأقصر، إلى مقرّ المتحف الجديد”.
وأوضح “أن المختلف في عرض تلك المجموعة الفريدة، هو سيناريو العرض المتحفي. فجميع مقتنيات توت عنخ آمون سيتم عرضها بطريقة فريدة”. وأشار إلى ان عدد القطع التي تمّ عرضها على مدار مئة عام، لا تتخطى 1800 قطعة أثرية.
ومن ضمن القطع التي ستعرض في مجموعة توت عنخ آمون للمرة الأولى، محتوى الصندوق الذي حمل رقم 317. ويضم أعز وأثمن ما في المقبرة إلى قلب الملك الشاب “بناته”، حيث تم نقلهما للمتحف المصري الكبير عام 2014، بعد إجراء عدد من الدراسات الدقيقة بمعامل القصر العيني.
وكشفت الدكتورة سحر سليم، أستاذة الأشعة في فريق “Egyptian mummy” التابع لوزارة السياحة والآثار، الذي تخصص بفحص المومياوات الملكية لـ”الشرق”، عن أهم نتائج دراستها لهاتين المومياواتين. حيث استطاعت عن طريق فحوصات الحمل بالرنين المغناطيسي لتحديد أعمار الجنينين بدقّة، تحديد سن الابنة الكبرى بين 8 و9 أشهر. بينما بلغ عمر البنت الصغرى ستة أشهر فقط من الحمل.
وقالت: “هناك معلومة غائبة عن معظم الناس، وهي أن الملك توت كان أباً”. وأوضحت أن هوارد كارتر مكتشف المقبرة، “أرسل المومياوتين عام 1925 في صندوق حمل رقم 317 للطبيب ديري، أستاذ التشريح في كلية طب القصر العيني، وأزال اللفائف، واكتشف أنهما بنتين في طور التكوين، لكنه لم يتم تحديد أعمارهما بدقة”.
تابعت: “كان فحصي للمومياوتين بالأشعة المقطعية تحدي كبير لي، وخصوصاً أنه لا يوجد أي مرجع نهائي عن كيفية فحص مومياوات أجنة قديمة. وخلال الدراسة، اكتشفت أنه تم تحنيطهما بشكل ملكي يشبه والدهما، إذ إنني فحصت أيضاً مومياء الملك توت”.
يصنّف علماء الآثار اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون على أنه أكبر اكتشاف أثري في التاريخ، نظراً لكثرة المقتنيات الأثرية والذهبية وتنوعها، بين أدوات استخدمت في حياة الملك اليومية وكنوز ذهبية صنعت خصيصاً لتحمي وتزيّن مومياءه.
يتخطى وزن القطع الذهبية التي عثر عليها في المقبرة أكثر من 300 كيلو جرام. أشهرها القناع الذهبي الذي يزن 12 كيلو جرام، والتابوت الأول الذي يزن 112 كيلو جرام من الذهب الخالص.
وضمت المقبرة الكثير من القطع الفريدة مثل كرسي العرش، بالإضافة إلى عرض مجموعة العجلات الحربية ال 6 المخصصة للملك للمرة الأولى كاملة.
 
									 
					