“المونة”.. غرفة الأمان التي ضربتها الحرب في سوريا
– يامن مغربي
لم تكن غرفة “المونة” في البيوت السورية مخصصة لطبقات محددة، بل كانت توجد في كل بيت تقريبًا، طيلة سنوات، واستمرت حتى حاصرت وجودها الظروف الاجتماعية الناتجة عن الحرب في سوريا، وعلى رأسها اللجوء، والظروف الاقتصادية والأمنية، التي لحقت الثورة الشعبية للإطاحة بالنظام وما تبعها من نزول الجيش وأجهزة الأمن إلى الشوارع، واندلاع المعارك.
غرفة صغيرة تضم أنواعًا مختلفة من الخضار غير الموسمية، ومواد غذائية متنوعة محفوظة ضمن درجة حرارة منخفضة، تكفي العائلة لموسم كامل.
وليس ضروريًا أن يكون مكان حفظ “المونة” غرفة واسعة، بل يكفي أن يكون هناك مكان مجهز برفوف ودرجة حرارة مناسبة، يجد زائرها الخضار من الخيار والجزر والفليفلة والمربيات بنكهات الفواكه الصيفية، وكأنها تشكل لوحة تشكيلية بألوان مختلفة، مرتبة ومصفوفة وفق الحاجة والاستخدام.
لجأ آلاف السوريين إلى بلدان أخرى، وانخفض عدد أفراد العائلات، ولم يعد هناك كهرباء، وضربت الأزمة الاقتصادية السوريين وانخفضت قوتهم الشرائية، كل هذه عوامل أدت إلى تغير النظرة لـ”المونة”، التي تعد من “التراث الثقافي اللامادي” في سوريا.
لوحة تشكيلية
“في بيت جدي في يبرود (إحدى مدن القلمون) كانت هناك غرفة مخصصة للمونة، باردة وتحتوي على أوانٍ فخارية كبيرة لحفظ الأجبان والمخللات”، هكذا وصفت عائشة (50 عامًا) ربة منزل من يبرود، غرفة “المونة”.
احتوت الغرفة على صندوق من طبقتين، خارجية مكونة من الحديد وداخلية من الخشب، ويحفظ بها البرغل أو العدس أو الطحين، أضافت عائشة، مشيرة إلى رائحة الغرفة الباردة المميزة بخليط من روائح المواد المختلفة الموجودة فيها.
وفق عائشة، على غرف “المونة” أن تكون بغاية النظافة والترتيب، وتحفظ “القطرميزات” (العبوات الزجاجية) بوضع أغطية قماشية تحت الغطاء لزيادة الأمان ومنع دخول أي حشرة.
عمد السوريون قبل دخول الكهرباء إلى المدن والقرى السورية لتجفيف الخضار لتبقى صالحة لأطول فترة ممكنة، ثم استخدامها في غير مواسمها، كالفول الأخضر والملوخية، لذا فإن هناك ضمن المطبخ السوري نوعين للملوخية اليابسة (المجففة) والخضراء الطازجة.
وقالت عائشة التي تقيم حاليًا في دمشق، إن يبرود كانت تشهد خلال موسم الصيف تجمع سكان كل شارع لسلق القمح خلال موسمه لتخزينه، وذلك بوضعه بأوانٍ نحاسية ضخمة على الحطب، وهو ما يتحول إلى سهرة طويلة حول النار مع روائح القمح التي تفوح في الأجواء.
وأضافت أن الأمر كان يتحول إلى ما يشبه المهرجان أو الاحتفال، ومع وصول القمح للدرجة المطلوبة من النضج، يحمله الشباب إلى سطح المنزل لنشره، والجميع يتعاونون مع بعضهم، ثم تقلبه ربّات البيوت يوميًا حتى يجف تمامًا، وهو ما يستغرق وقتًا، ثم تتم تنقيته.
هذه الطقوس اختفت تقريبًا من سوريا اليوم، بعدما هُجّر ملايين السوريين من مدنهم وقراهم. قالت عائشة، “كانت البيوت واسعة والمونة ضرورية بحكم الحروب والحصار والأحوال الجوية القاسية، رويدًا رويدًا صغرت البيوت وهاجر الناس”.
لمة نساء الحي
قرب العاصمة دمشق، تقع مدينة الريحان، إحدى مدن ريف العاصمة الذي لا يبعد عنها سوى بضعة كيلومترات، وفي هذه المدينة عاشت حنان (55 عامًا) معظم سنوات حياتها، قبل أن تغادر سوريا إلى مصر.
لا تختلف “المونة” في الريحان وطقوسها كثيرًا عن تلك التي في يبرود، ولها أوقات مختلفة وفق مواسم المواد الغذائية والخضار المستهدفة.
قالت حنان ل، “المونة مواسم مختلفة، هناك موسم حصاد القمح وسلقه وتحويله لطحين للخبز، وإلى فريكة وبرغل وكشك، وهناك موسم تموين الخضار من البازلاء والفول وورق العنب والأرضي شوكي والباذنجان والكوسا والملوخية”.
كانت نساء الحي يجتمعن لـ”تقميع البامية” ووضعها ضمن خيوط، بالإضافة إلى الفليفلة الحمراء والثوم “المضفّر” (على شكل ضفائر)، وكانت أسطح المنازل خلال فصل الصيف كلها صوانٍ مغطاة بالشاش الأبيض حفاظًا على النظافة، من رب البندورة إلى مربى المشمش.
والأمر نفسه ينطبق على “المكدوس”، وهو أكلة سورية شعبية عبارة عن باذنجان محشو بالجوز والثوم ويحفظ بالزيت.
عبر “المونة”، كانت النساء يتجنبن غلاء الأسعار في الشتاء، ويجدن كل ما تحتاج إليه العائلات من مستلزمات البيت الغذائية.
وبحسب رأي عائشة، فإن التقلبات الأمنية في المنطقة أفقدت شعور السوريين بالأمان، ما دفعهم لتخزين المواد الغذائية، فمنذ عام 1948، أعلن عن قيام الاحتلال الإسرائيلي، وانخرطت سوريا بشكل مباشر بالقضية الفلسطينية وحروب المنطقة، بما في ذلك حروب 1965، ونكسة 1967، ثم حرب تشرين 1973، والتدخل في لبنان 1975 والمعارك مع إسرائيل في 1982، ثم العقوبات الدولية على سوريا في الثمانينيات.
الظروف تنهي “المونة”
اندلعت الأعمال القتالية في المدن السورية نتيجة اتباع النظام السوري للحل الأمني في مواجهة المتظاهرين في 2011، ورويدًا رويدًا، تحولت هذه المدن إلى ساحات حرب، ونزح السكان إلى مناطق أخرى أكثر أمنًا أو خارج سوريا، وتراجعت الخدمات الأساسية من كهرباء وماء، وانهارت الليرة السورية وانخفضت القوة الشرائية للسوريين.
ومن بين كل 10 سوريين يعيش 9 تحت خط الفقر، ويحتاج 15 مليون سوري، أي 70% من إجمالي عدد السكان، إلى المساعدات الإنسانية، بحسب أرقام الأمم المتحدة، بينما أدى الصراع السوري إلى مصرع نحو 500 ألف شخص وتشريد أكثر من 12 مليونًا.
هذه العوامل كلها كفيلة بتغيير سلوك المجتمع السوري في مختلف المجالات، بما في ذلك “المونة”.
قالت عائشة ل، إنه لم يعد هناك “مونة”، التي تراجع دورها أساسًا قبل عام 2011 بفعل المصانع والحداثة والأسواق المخصصة للمواد الغذائية، وبعد 2011 بسبب الظروف الحالية، مشيرة إلى أنماط بديلة نشأت مع مرور السنوات كـ”سوق التنابل” في منطقة الشعلان وسط دمشق، وتوجد فيه كل أنواع الخضار والغذائيات بغض النظر عن موسمها.
تراجعت أهمية “المونة” اليوم، قالت حنان، ولم يعد هناك أحد في البلد، والجميع يرغب بالهجرة أو السفر للعمل في بلاد أخرى، وأفراد العائلة اليوم لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة.
واحتل السوريون المرتبة الأولى في طلبات اللجوء المقدمة إلى ألمانيا منذ مطلع عام 2024، بعدد كلي وصل إلى 14456 طلب لجوء، من بينهم 14024 طلب لجوء أوليًا، و432 طلب متابعة.
وارتفعت طلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبي بنسبة 18% خلال عام 2023، وفق بيانات نشرتها وكالة اللجوء التابعة للاتحاد الأوروبي (EUAA)، في 28 من شباط الماضي.
وشكّل السوريون أكبر مجموعات المتقدمين، وفقًا لبيانات “EUAA”، إذ قدموا 181 ألف طلب لجوء، وسجلوا زيادة بنسبة 38% مقارنة بعام 2022.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي