د. بشار عباس

الروابط ما قبل الوطنية التي انبعثت بكل حقد وشراسة في المجتمع السوري هذه الفترة، يجب إعادة هذه الظواهر الخطيرة الى أسبابها وجذورها العميقة: انقطاع التطور الطبيعي للمجتمعات العربية، والفشل في بناء دول ديمقراطية حديثة، فالنظام غير الديمقراطي سيكون عسكريًا أو قبليًا أو طائفيًا أو تهيمن عليه طبقة أو مافيا تتحكم بالدولة لخدمة مصالحها، وقد كانت المجتمعات العربية منذ قرنين على الأقل وما زالت أحوج ما تكون الى نهضة ثقافية وفكرية وإصلاح ديني، لكن هذا الهدف مع الأسف لم يتحقق حتى الآن.

ينبغي التفريق بالنسبة للنظام السوري بين مفهومين وهما طائفية الطائفة، هذا الوتر الذي يعزف عليه أعداء الشعب السوري، وبين إصرار النظام الأسدي على تكريس الصراع الطائفي- العرقي بين مختلف المجتمعات الطوائفية والعرقية، وهو لم يتورع عن التعامل مع جميع طوائف المجتمع السوري بأسلوب طائفي من أجل الهدف الرئيس وهو ضمان استمراره الى أطول أمد ممكن، والذي عمل على تكريس النزعات ما قبل الوطنية ليس بين الأقليات فحسب وإنما غذى الشعور الطائفي لدى الأغلبية كسلاح يشهره في وجه معارضي الأقليات.

لا بد لنا في البداية من مواجهة مشكلة تشتت الهوية بصراحة وشفافية، فقد عاش السوريون، أو معظمهم على الأقل، حالة إنكار لهذه المشكلة، إما بسبب مصالحهم المباشرة، أو بسبب الخوف من الأجهزة القمعية، ومن الإيديولوجية المهيمنة التي تستنكر أية مناقشة علنية للحالة الطائفية أو الإثنية (وعمليًا كان يسكت عن -بل ويشجع- الممارسات العشائرية الطائفية- الإثنية)، وكانت السلطة تعد أية مناقشة علنية للمشكلة خروجًا على الروح الوطنية، أو في الحد الأدنى ممارسة سياسية تصب في طاحونة أعداء سوريا، وفي مقدمتهم إسرائيل، فكان السوريون يتبارون في جلساتهم بالتبرؤ من أي طرح طائفي، وعند الضرورة يقولون إنهم ضد الطائفية ولكن المشكلة، أن الطرف الآخر (كائنًا من يكون) هو السبب الحقيقي للطائفية.

وعندما انفجر الوضع في ربيع 2011، انطلقت العواطف المكبوتة وصار الجميع يتبارى في إظهار مكبوتات العقود الماضية، بتشجيع وتحريض من السلطة الأسدية (بالنسبة للعلويين) ومن الدول الخليجية المشتبكة بصراع مع السلطة الإيرانية (بالنسبة للسنة)، ومن الولايات المتحدة (بالنسبة للأكراد وباقي المكونات اللإثنية) ويجب أن نتذكر أن الشرط الأساسي للبدء بالحروب الأهلية هو شيطنة الطرف الآخر، وبالتالي حذف أية مسؤولية إنسانية أو أخلاقية عن قتله والتمثيل بجثته، بل وفي هذه الحالة يمكن ان تُصَنَّف تلك الأعمال على أنها بطولة، وقد شاهدنا على الطرفين ممارسات تقشعر لها الأبدان، وإقصاء الأشخاص الذين يفكرون أو يتساءلون عن مسار الحل العسكري، ويدعمون الحل السياسي.

خلال مسيرة نصف قرن ونيف من حكم آل الأسد، تم القضاء على جميع التيارات الوطنية الديمقراطية في أوساط العلويين بل وفي سائر الطوائف والمناطق السورية، بل وكان الأسد أشد انتقامًا من المعارضين العلويين، فقد عذب رفعت الأسد حسن الخير، وهو علوي من القرداحة، في بداية الثمانينات، وقطع له لسانه ثم قتله تحت التعذيب بسبب قصيدة قالها في هجاء نظام الأسد، وهي قصيدة عادية جدًا في ظل أوضاع ديمقراطية، ولا تسبب الاعتقال حتى في ظل أنظمة استبدادية كنظام مبارك.

إن المشكلة الطائفية- الإثنية في سوريا لا يمكن اختصارها بجملة واحدة، بل هي مشكلة معقدة تراكبت عواملها عبر الزمنين القريب والبعيد، وبالتالي لا توجد وصفة جاهزة لحلها، بل هنالك مسار لا بد من المبادرة إلى اقتحامه وهو مسار التفاهم على أرضية الوحدة الوطنية، إنه استعادة الهوية الوطنية والاتفاق المبدئي على تعريف سوريا وتعريف الانتماء الوطني والتأكيد أن سوريا المستقبل هي سوريا الديمقراطية، وهي دولة لجميع أبنائها، وإذا حاولنا الالتفاف على هذا المسار فلا أحد يمكنه أن يقنع أبناء هذا الوطن بالانتماء إلى دولة تستبدل طغيان آل الأسد بطغيان آخر مهما كان لونه، وهذا الأمر ليس مقصورًا على العلويين أو الأقليات القومية والدينية بل على جميع أطياف المواطنين بجميع انتماءاتهم الدينية والمذهبية والطائفية والقومية والسياسية، فلا ننسى أن نسبة كبيرة من أبناء الوطن ترفض الطغيان بجميع ألوانه ولا تساند التعصب الطائفي حتى ضمن طائفتها، وهؤلاء ايضًا يخشون الطغيان الذي يمكن ان يطبق عليهم ضمن طائفتهم نفسها.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.