لمى قنوت
بعيدًا عن التشاركية والتوافق الوطني والشفافية، تنحو السلطة الانتقالية إلى هندسة المؤسسات الرسمية بما يديم هيمنتها عليها، ويطيل عمر سلطتها كسلطة دائمة لا انتقالية، كما تخالف الإعلان الدستوري الذي وضعته لنفسها، مرسخة ذاتها كسلطة فوق القانون وسيادته، وهو مسار خطير في ظل بلد هش، ومجتمع متشظٍ، أنهكه الاستبداد والحرب والكوارث الطبيعية أو تلك الناتجة عن السلوك البشري.
وفي ظل الانتهاك المستمر للإعلان الدستوري، تُشغل السلطة جمهورها بمنجزاتها، وتُغرق الرأي العام بقضايا بعيدة عن الأولويات، كإطلاق الهوية البصرية والاحتفاء المبالغ بها، وتكون بذلك قد أحاطت مخالفتها للمادة الخامسة من الإعلان الدستوري، التي نصت على أن شعار الدولة يُحدد بقانون، بزخرفات براقة.
ترتجل السلطة مراسيم وقرارات، مُؤسِسة بذلك إلحاق أكبر قدر من المؤسسات برئاسة الجمهورية، لتعملق صلاحيات الرئيس الانتقالي، وتضيف صلاحيات فوق صلاحياته الواسعة التي نص عليها الإعلان الدستوري.
وفي نفس الصدد، تعد المراسيم الرئاسية التي صدرت في 9 من تموز الماضي، كالمرسوم الرئاسي رقم “115”، والقاضي بتشكيل المجلس الأعلى للتنمية الاقتصادية، والمرسوم “114” الذي عدّل بموجبه قانون الاستثمار، استمرارًا لنهج تفريغ الإعلان الدستوري من محتواه، والتفلت من قيوده. وعلى الرغم من الملاحظات عليه، والتي سبق لي نقده في مقال سابق، فإن رئيس الجمهورية لا يملك سلطة التشريع حسب الفقرة الأولى من المادة “26” التي تنص على أن “يتولى مجلس الشعب السلطة التشريعية حتى اعتماد دستور دائم، وإجراء انتخابات تشريعية جديدة وفقًا له”. إضافة إلى أن المرسوم رقم “113” الذي صدر في نفس التاريخ السابق، والقاضي بإحداث مؤسسة ذات طابع اقتصادي تسمى “الصندوق السيادي”، وتتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وترتبط برئاسة الجمهورية، يمثل نموذجًا عن تقويض مبدأ سيادة القانون، وشكلية الحوكمة، وعدم احترام فصل السلطات.
وفي ذات الإطار، فللصندوق السيادي أربعة أهداف، يتعلق الأول بـ”تنفيذ مشاريع تنموية وإنتاجية مباشرة”، وينص الثاني على “الاستثمار الأمثل للموارد البشرية والمادية والخبرات الفنية من جميع الاختصاصات”، والثالث على “تنشيط الاقتصاد الوطني من خلال استثمارات مدروسة ومتنوعة”، أما الرابع فينص على “تحويل الأصول الحكومية غير المفعلة إلى أدوات إنتاج وتنمية وفق المرسوم”، وتتكون إيرادات مصادر الصندوق من الاعتمادات التي تخصصها الدولة له، و الموارد التي تتحقق من نشاطات الصندوق، كما تنص المادة “12” من المرسوم ذاته، على أن يكون المدير العام للصندوق مسؤولًا أمام مجلس الإدارة وأمام رئيس الجمهورية عن حسن سير العمل فيه، كما ينص المرسوم على أن يعمل الصندوق بالاعتماد على نظام حوكمة صارم وشفاف من خلال تقارير ربع سنوية وسنوية تقدم لرئاسة الجمهورية، أي أن رئيس الجمهورية هو الضمان لحوكمة الصندوق وشفافيته، ولا توجد أي سلطة تسائل الرئيس الانتقالي وتحاسبه وفق الإعلان الدستوري، وبالتالي فإن التصرف في القطاع العام والاستثمار غير خاضعين للرقابة والمحاسبة.
إن تحفيز الاستثمار وتذليل معوقاته لا يُبنى في غياب الفصل بين السلطات واستقلال القضاء، وفي ظل انفلات تشريعي وأمني وانتهاكات تُحيلها السلطة لأخطاء فردية، فهذا لا يُخيف الاستثمار الأجنبي وحسب، بل يُخيف عودة الأموال الوطنية المهاجرة. كما أن هروب السلطة من الاستحقاقات الوطنية عبر التماس الشرعية من الخارج، لا يشيع أجواء الثقة بينها وبين الجزء الناقد من الشعب التواق لقيم الديمقراطية، والمتوجس من تفردها بصناعة القرار، ومركزيتها المفرطة، وتغولها المتسارع على المؤسسات الرسمية، وتدخل شرعييها في التعيينات والفضاءات.
لا تملك سوريا رفاهية التجريب، ولا يمكن التعامل مع الشعب “كخطيفة محررة”، ولا يمكن تجاهل الاستفادة من تجارب الشعوب، فالسلطات المطلقة في يد شخص، واحتكار السلطات الثلاث، وتوزيع المناصب والممتلكات الاستراتيجية للدولة كغنائم حرب، وعملقة مؤسسة الرئاسة، والقبض على القرار السياسي والاقتصاد والتشريعي والأمني في دائرة مغلقة، تحت ذرائع الثقة وجلب الاستثمار وإنعاش الاقتصاد، ستخلق دائرة أولغارشية حول رأس السلطة والممسكين بمفاصلها، وستخنق الحريات والعدالة والفضاء السياسي والمدني، وتنتهي بنهب ما تبقى من موارد البلد وثرواته وإفقار أبنائه وبناته، وتفكيكه، وإبقائه مستنقع فساد واستبداد وإفلات من العقاب.
المصدر: عنب بلدي