لماذا يبدو الجميع غاضبين من الأب؟
هكذا تتساءل شخصية الأب/المخرج في فيلم Sentimental Value للمخرج يواكيم تيرير، واحد من الأفلام المعروضة ضمن الاختيارات الرسمية خارج مسابقة مهرجان الجونة في دورته الثامنة.
وهو سؤال يمكن النظر إليه على ضوء تيمة محاكمة الأب، التي تعتبر التيمة الأشهر والأكثر حضوراً في برنامج المهرجان، وهي نفسها الأكثر قابلية للرصد والتأويل ضمن إنتاجات السينما الدولية في العام الحالي!
بالفعل يبدو الجميع في مختلف التجارب العالمية والمحلية غاضبون من الأب، سواء كان هذا الأب ممثلا للسلطة أو الإله أو الذراع الحامي، الذي من المفترض ان يوفر أكبر قدر من الأمان والدفاع والطمأنة والسند، وهو ما يبدو مفهوم بشكل نسبي في ظل التوترات العالمية والحروب والمشاحنات الاقتصادية فيما بعد وباء كورونا.
على سبيل المثال، شهدت الدورة الثامنة للمهرجان هذا العام العروض الإقليمية لخمسة أفلام مصرية، افتتحت عروضها العالمية الأولى ضمن برامج مهرجانات مرموقة، برلين وكان وكوبنهاجن وتورنتو وترابيكا، وتتشكل بنيتها النفسية والشعورية عبر العلاقة مع الآباء بمختلف تجليات هذه العلاقة وتأويلاتها، وسواء كان هؤلاء الآباء موجودين أو غائبين.
“المستعمرة” لمحمد رشاد، و”كولونيا”، و”الحياة بعد سهام”، و”50 متر”، و”عيد ميلاد سعيد”، وهي أفلام تتوزع ما بين برامج الروائي والوثائقي (“المستعمرة” و”كولونيا” و”عيد ميلاد سعيد” روائي، و”سهام” و”50 متر” وثائقي)، أربعة منهم هي الأعمال الطويلة الأولى لمخرجيهم؛ “المستعمرة” هو الروائي الطويل الأول لمحمد رشاد بعد تجربته الوثائقية الهامة “النسور الصغيرة”، و”كولونيا” الأول لمحمد صيام، و”عيد ميلاد سعيد” الأول لسارة جوهر، و”50 متر” الوثائقي الطويل الأول ليمنى خطاب، بينما يمكن اعتبار “سهام” هو استكمال لمشروع نمير الذي بدأه بفيلمه الأيقوني الأول “العذراء والأقباط وأنا”، ولكنه هذه المرة يستكمل رحلته عن أسئلة الوجود والهوية مع الأب عبد المسيح، بعد أن ترحل الأم سهام وسيدة الرحلة الأولى التي بدأت من أعماق الصعيد.
في “المستعمرة” يغيب الأب/العامل إثر حادث غامض لا ندري هل كان متعمداً أم قضاء وقدر، ويسعى ابنه الأكبر عبر العمل في المصنع بدلاً منه أن يكتشف حقيقة ما حدث، لكنه يفقد نفسه في متاهة من الأسرار الفاسدة والبيئة التي تعاني من صدأ لا سبيل لأن ينجلي، ورغم الغياب المادي للأب، إلا أن حضور ذكراه وأثره وحجم الفراغ الذي تركه يبدو جاثماً على صدر ابنيه الذكور وأرملته المصابة بداء الفيل.
وفي “كولونيا” نتابع حالة من الأسئلة حول الليلة الأخيرة في حياة الأب، عبر استعادات متفرقة من ذاكرة ابنه الأصغر الذي يكرهه، داخل دائرة من الشك حول حقيقة رحيله المفاجئ! هذا الرحيل الذي يبدو في لحظات الشك حتمي ومأساوي في نفس الوقت.
أما في “50 متر” فإن محاكمة الأب تأتي من منطلق أكثر هدوءاً ونعومة وحميمية! الهدوء الذي يذكرنا بسؤال الأب في الفيلم النرويجي الذي افتتحنا به حديثنا: لماذا الجميع غاضبون من الأب؟ رغم أن الأب جميل!
كيان أم حالة
يمكن القول أن يمنى تحاول البحث عبر فيلمها عن إجابات لأسئلة ساخنة وملحة على روحها الصغيرة: ما معنى الدفء الأبوي؟ ماذا يعني صدق المشاعر لدى الآباء من دون غرض سوى إسعاد الأبناء! وهل الأب كيان أم حالة! وكيف يمكن تصور العالم بدونه!
تبدأ يمنى فيلمها بفيديو منزلي من أرشيف والدها في عيد ميلادها خلال سنوات التسعينيات، وكأنها تولد أو ولدت حين وقفت أمام كاميرا الأب –أكرم- الذي نتعرف على صوته من خلف الكاميرا، يقوم بتوجيهها وهي تؤدي رقصاتها الطفولية المبهجة.
البداية من خلال لحظة عيد ميلاد أمام الكاميرا اختيار حساس وشاعري جداً، وكأن المخرجة تحاول من خلاله أن تعلن أنها ولدت في تلك اللحظة، عندما نظر إليها أباها عبر كاميرا الفيديو المنزلية، وكأن عيد الميلاد بمستواه المادي والمجازي يرهص بطبيعة العلاقة مع الأب من ناحية، ومن ناحية أخرى يضعنا أمام الشكل الذي سوف تتخذه يمنى في سردها البصري لأسئلتها الوجودية الكامنة، وهو شكل الفيلم داخل فيلم!
نحن أمام مادة فيلمية مصورة على مستويين طوال الوقت تقريباً، المستوى الأول هو عملية تصوير فيلم يمنى مع أباها في النادي خلال تمرينات الأيروبكس المائي الذي يقوم به مع مجموعة من صحبته – من نفس الشريحة العمرية- في مساحة ال 50 متر – المادية بحمام السباحة-. هذه العملية التي تتم أمامنا بشكل يكشف الكاميرات وصوت يمنى وتوجيهاتها والأذرع الطويلة الخاصة بميكروفونات التصوير وما إلى ذلك، في حالة كسر إيهام واضحة وصريحة ومقصودة.
والمستوى الثاني هو الفيلم نفسه الذي تصوره يمنى، أي اللقاءات والمشاهد واللقطات التي تأخذها على اعتبار أنها متن فيلمها الأساسي، وكأننا نرى يمنى وهي تصور يمنى! وهو نفس المبدأ الشكلي الذي تحققه مواد الفيديوهات المنزلية، فنحن نشاهد داخل فيلمها تلك الأفلام المنزلية البدائية بصورتها الخشنة ووقتها المستقطع من سيل الزمن الجارف، وكأننا نشاهد فيلما داخل فيلم.
لماذا يبدو هذا مقصوداً من قبل الصانعة!
يمكن اعتبار أن جذور علاقة يمنى بالسينما، بدأت مع تصوير أباها المستمر لها وهي صغيرة، في مختلف أنشطتها الحياتية مع أخيها وأصدقائها! لقد علمها صوته وتوجيهاته المستمرة أن تحب الكاميرا، وأن تعتبر عالمها بشكل أو بآخر يتشكل عبرها، أو من خلالها! الأب نفسه يعترف في سياق الحديث المتبادل مع ابنته أنه كان يحب ان يكون مخرجاً! ونحن نراه في الأرشيف المنزلي بالفعل، وهو يلاعب أطفاله عبر إخراج فيم جريمة طفولي قصير يمثل فيه الأطفال أدوار الأبطال.
فيلم عن فيلم
هذه زاوية، والزاوية الثانية هي أنه على ما يبدو أيضاً ان يمنى تطمئن في وجود الكاميرا إلى أنها ليست بمفردها، وأن هناك من يسمعها ويراها ويشير عليها بما يمكن أن تفعله! نحن نراها في مشهدين هامين تجلس أمام الكاميرا في غرفة تغيير الملابس بالنادي تضع اللاب توب على ساقيها، وتتحدث إلى الكاميرا وكأنها تكتب التعليق الصوتي المفترض للفيلم الذي تشتغل عليه مع أبيها ومجموعته! تبوح وتفضفض محولة التعليق الصوتي إلى حضور مادي أقرب للمونولوج الحواري بظهورها الكامل، وهي تطلقه إلى الجمهور/الكاميرا.
يمكن القول أن يمنى تصنع فيلماً عن محاولتها أن تصنع فيلماً عن أسئلتها الخاصة مستعينة بأهم شخص في حياتها تقريبا، أو الشخص الذي بدأت معه كل الأسئلة والحكايات! الأب- تستدرجه أحياناً وتراوغه وتهاجمه بعلامات الاستفهام التي تضغط عليها وتؤرقها هي: لماذا لم تحضر دفنة أباك! لماذا لا يشغلك حضور الجنازات! لماذا لا تحب أعياد الميلاد؟ ولماذا لا تبوح بعمرك الحقيقي، وتفضل عدم الإجابة عن الرقم الذي وصلت إليه! وأخيراً بالطبع: هل أنت سعيد بالإنجاب! هل تريد أن يكون لك حفيد! هل تدري إلى أي حد أنا أشعر بالخوف من المستقبل! هل يمكنني ان أستبدلك بابن عندما تغيب!
العديد من الأسئلة الوجودية التي تعكس رغبة ملحة في أن يُطمئن الفيلم صانعته، حتى ولو لم يجب عليها! هي تطلقها لتهدأ وتشارك بها الأب والجمهور على حد سواء! ولا شك أن العديد من هذه الأسئلة تماست أو يمكن أن تتماس مع المتلقين أياً كانت علاقتهم بالأب سواء الفكرة أو الحالة أو الكيان!
يكفي أن نشير إلى هاجس المخرجة المخيف بأن تفقد أباها أثناء تصوير الفيلم؛ لأنها حين شرعت في صناعته شاهدت عدد من الأفلام التي تموت أو ترحل فيها الشخصيات الرئيسية أثناء التصوير! وهكذا صار لديها خوف من أن يحدث هذا لأباها – وهو خوف وجودي مستقر من فكرة غياب كيان الأكثر احتواء وفعالية في طمأنتها- وفي نفس الوقت رغبة في أن ينتهي الفيلم كما تريد، لا كما يريد القدر الذي لا يمكن لأحد مقاومته! وربما من هنا – ونقول ربما- صنعت فيلمها عن محاولتها صناعة فيلمها وكأنها تؤمن نفسها من ناحية وتراوغ الموت أو الفقد أو القدر من ناحية أخرى!
نفسي وشفاف وذاتي
كان لدى يمنى فرصة رائعة لصناعة فيلم عن شخصية جذابة ومربكة ومليئة بالتصورات والأفكار غير التقليدية، عن الحياة والموت والإنجاب والحب والميلاد والرحيل! هذا الأب الغامض الذي لا تفصح عيناه مهما اقتربت منهم الكاميرا! الهادئ جداً صاحب السطوة الصوتية الثقيلة.
لكنها اختارت أن تصنع فيلما عنها! عن أسئلتها ومخاوفها وهواجسها التي راحت تعكسهم على شخصية الأب لا من خلال تيمة المحاكمة، ولكن من خلال سؤال الغضب الطفولي الذي لن يقبل أحد أن يسمعه منها سوى أباها؛ لماذا يبدو العالم على هذا الشكل؟ وكيف أتعامل معه وأنا لا أزال غير مدركة لذاتي أو قادرة على استيعاب نفسي!
في حديثهم عن نوبات (الفزع) كما أسمتها يمنى! يطلب منها الأب تخفيف الكلمة من فزع إلى قلق! فتستجيب وتكمل الحديث، لكنه يعود لسؤالها حول إذا ما كانت هذه النوبات مستمرة حتى الآن! لا يعنيه التصوير ولا اللقاء ولا الكاميرا الدائرة! هو يريد أن يطمئن على صغيرته! وهي ترغب في ان تشعر أنه لا يزال يريد أن يطمئن عليها حتى بعد أن صارت في الخامسة والثلاثين من عمرها!
هذا فيلم نفسي وشفاف وذاتي جداً، وهو ما يحسب له على مستويات كثيرة، خصوصاً في قدرته صانعته على أن تبوح وتفصح وتسأل أمام الجميع، في المشاهد الأخيرة تقوم بجمع شلة الأب، لكي تريهم النسخة الأولية من الفيلم على شاشة السينما الموجودة في النادي، في محاولتها أن تظل محافظة على شكل الفيلم داخل فيلم، ثم تسأل كل منهم عن انطباعه، متقبلة كل التعليقات والملاحظات والهزار!
لقد أصبح لديها ما يمكن أن يتحدث بالنيابة عن مخاوفها وهواجسها، حتى ولو ظلت أسئلتها معلقة! تماما كما نراها تتحدث في المشهد الأخير مع الأب، بينما يطفوان على سطح حمام السباحة – في مجاز شعري لطيف- لا تطول أقدامهم الأرض، متشبثان بما يجعلهم فقط عائيمن وقادرين على تبادل الحديث! ثم يصعد الأب من الماء تاركاً يمنى بمفردها، معلقة فوق الماء، طافية كأسئلتها! شاردة في كل الإجابات التي كان من الممكن أن تسمعها ولم تأت!
وهنا نتوقف أمام النهاية الذي اختارتها!
فبعد هذا المشهد الذي يصلح كنهاية تمزج ما بين المادي والمجازي – فالأب سوف يصعد من الماء أو حتى الأرض ذات يوم وسوف يتركها تواجه أسئلتها ومخاوفها- لكن يمنى تتبع هذا المشهد بمشهد آخر، تظهر فيه مجدداً في الماء، وكأنها تكرر العوم فوق أسئلتها، ربما في محاولة لتأكيد المعنى أو الدوران في دائرته الأبدية!
ثم تكمل على هذا بنهاية أخرى – ثالثة- وهي استعادة أخيرة لأرشيف الفيديوهات المنزلية! تماماً كما بدأت مشهدها الأول! وكأن ثمة رغبة في أن يكون البناء الفيلمي دائرياً – أي أن النهاية تشبه البداية في اتصال مستمر كدائرة لا تنتهي- ربما كانت دائرة الزمن أو هي محصلة المشاعر التي أنتجتها التجربة بالنسبة لها، وكأنها كانت وسوف تظل هي الفتاة الصغيرة التي ولدت ذات يوم أمام كاميرا أبيها، ولطالما ظلت هناك شرائط الفيديو المنزلية، فسوف تظل هي معه في طفولتها، وهو معها بصوته الدافئ التوجيهي المحيط بها!
هذا التعدد في مشاهد النهاية ربما يضعنا نسبياً في حالة من الشعور بانتكاسة ما بعد الذروة Anti-Climax خصوصاً مشهد السباحة بمفردها بعد مشهد طفوها عقب صعود الأب! ربما بسبب أن المخرجين عادة في أعمالهم الأولى يلجأون إلى التكرار من أجل التأكيد على المعنى، أو يتصورون أن ثمة أكثر من دلالة لكل مشهد؛ وبالتالي يحافظون عليهم جميعاً، دون أن ينتبهوا أن قوة التأثير تضعف بالتكرار!
لكن الخلاصة أننا أمام عمل مرهف، ينضم إلى مجموعة الأفلام التي تلعب الآباء بطولتها في هذا العام السينمائي الذي قرر ان يحاكم الأب، لكن الفرق أنه ليس فيلماً غاضباً منه كالآخرين، بل متصالح مع كل ما يمثله هذا الكيان الكبير سواء في حضوره المطمئن أو غيابه المخيف.
* ناقد فني
