تشهد فرنسا ظاهرة تثير قلق الناس والسلطات الأمنية والصحية، تتمثل باعتداءات تحدث في مناطق عامة من خلال قيام مجهولين بوخز ضحاياهم، وسط مخاوف من أن تكون هذه الأدوات ملوّثّة بأوبئة أو جراثيم، أو مواد مؤذية، وهو ما دفع وزارة العدل إلى طلب “ردود جنائية سريعة وحازمة”.
وبينما أعلنت السلطات توقيف 12 شخصاً بتهمة ارتكاب هذا النوع من الاعتداءات، يرتفع مستوى القلق مع بدء فصل الصيف والعُطلات وتنظيم المهرجانات والحفلات، بما فيها احتفالات اليوم الوطني الفرنسي، وما يرافقه من تجمعات كبيرة في مختلف أرجاء البلاد، وخاصة جادة الشانزليزيه بالعاصمة باريس،
ورغم أن هذه الظاهرة بدأت عام 2022، إلا أنها تفاقمت خلال الأسابيع الأخيرة، إذ أُبلغ عن حالات وخز في حفلات مهرجان “عيد الموسيقى” التي أقيمت في 21 يونيو الماضي، ومهرجان “برانتان دو بورج”، وكذلك نوادٍ ليلية بمدن فرنسية عدة، من بينها العاصمة باريس، وبيزييه، وجرونوبل، ونانت، وبيريجو، وغيرهم.
وبحسب وسائل إعلام فرنسية، قُدّمت شكاوى من شبان وشبات عن تعرضهم لوخز بالإبر، ما دفع السلطات القضائية إلى فتح تحقيقات بهذه الحوادث، وسط تصاعد القلق الشعبي، خاصة بين الذين يستخدمون وسائل النقل العام في تحركاتهم مثل القطارات، حيث تم الإبلاغ عن حصول اعتداءات مشابهة.
وخلال احتفالات عيد الموسيقى في يونيو، انتشرت دعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لتنفيذ هجمات وخز واسعة، ولاسيما ضد النساء والفتيات، وفي اليوم التالي لانطلاق المهرجان أبلغ 145 شخصاً عن تعرضهم للوخز، إلا أن الشرطة لم تستطع تأكيد ما إذا تعرضوا حقاً لأي حالات حقن، ولم تُوجّه أي اتهامات لأي مشتبه بهم، خاصة من تناقلوا الدعوات عبر صفحاتهم على مواقع التواصل.
وانتشرت بعض الشهادات لشبان وفتيات عن تعرضهم للوخز، وقالت إحداهن: “لقد تعرّضتُ لوخز في عيد الموسيقى”، وكانت تتحدث بنبرة مقتضبة ومُتعَبة مضيفة أنه “في لحظة ما، مرّ أحدهم بجانبي، وشعرتُ بلسعةٍ لاذعة”.
وتداول البعض مقاطع لأنفسهم على أسرّة المستشفيات، وقال أحدهم :”أتمنى أن تكونوا قد استمتعتم بحفلةٍ رائعة.. أنا شخصياً لم أستمتع بها”.
أعراض الإصابة بالوخز
خلال دراسة شملت عدة مئات من بين 1200 شخصاً اشتكوا عام 2024 أنهم تعرضوا للوخز، تبين ظهور أعراض متنوعة على المُصابين.
وفي البداية، شعر بعض الضحايا بالوخز في الذراع أو الفخذ، ثم لاحظوا ظهور علامات، أحياناً لونها زرقاء. كما ظهرت لدى آخرين أعراضٌ مختلفة بعد ذلك، مثل الدوخة، أو “الهبات الساخنة”، أو الصداع الشديد.
وفي حديث لـ”الشرق”، أشار البروفسور جوزف بكاش المختص بالأمراض المعدية إلى أنه لم يتم التحقق بعد مما إذا حصلت بالفعل عمليات حقن، ولا سيما للفتيات، لأن الفحوصات السريرية والمخبرية لم تمكنهم من الحصول على إثباتات.
وقال بكاش إن “المهمة الأصعب بالنسبة لنا هي متابعة نوع الإبرة المُستخدمة في الوخز، خاصة أن هناك حُقن يمكن أن تنقل أمراضاً معدية ومزمنة، مثل الإيدز والتهاب الكبد فئة B، وهذه أمراض يمكن أن تنتقل عبر الدم”.
وأضاف: “الخوف الحقيقي بالنسبة لنا يبقى في القطارات التي يستخدمها ملايين المواطنين يومياً، في كل أنحاء فرنسا”، لافتاً إلى أنه في حال تعرض أحدهم للوخز في القطار في ساعات الزحمة، فإنه من الصعب معرفة من قام بذلك.
وتابع: “نحن نواصل إجراء الفحوصات المخبرية التي تستلزم المراقبة الدائمة وتأخذ وقتاً لمعرفة المادة التي تم حقنها، إذا ما تم التأكد من أن الوخز قد حصل”.
وأوضح بكاش أنه على خلاف المخدرات، بعض المواد القابلة للحقن يصعُب كشفها. كما أعرب عن مخاوف من أمر خطير يتمثل في الوخز بإبر مستعملة ربما تكون ملوثة.
ردود جنائية سريعة ودعم للضحايا
في إطار ردة الفعل الرسمية، أعلن وزير العدل الفرنسي جيرالد دارمانين، أنه طلب من جميع المدّعين العامين ورؤساء المحاكم، تقديم “ردود جنائية سريعة وحازمة” بشأن ظاهرة الوخز.
ودعا في تعميم نشرته وسائل الإعلام إلى رد سريع من السلطات لمواجهة هذا الظاهرة، واتخاذ “إجراءات تحقيق محددة فور وقوع الحوادث لضمان الحفاظ على الأدلة اللازمة”.
وفيما يتعلق بحالات الاشتباه في حصول وخز بمواد كيميائية، طلب وزير العدل عدم التساهل ومساعدة كل من يتعرض لاعتداء بأن تتم متابعته من قبل المختصين، مشيراً في التعميم نفسه إلى أن “أجهزة التحقيق تتمتع بإمكانية الوصول الفوري إلى مختبر تحليل السموم التابع للدائرة الوطنية للطب الشرعي ومعهد البحوث الجنائية التابع للدرك الوطني”.
وأكد دارمانين على ضرورة دعم الضحايا، قائلاً: “يجب أن يكون الاهتمام بالضحايا، سواء كانوا بالغين أو قاصرين، في جميع مراحل الإجراءات، ويتطلب إنشاء سلسلة دعم شاملة ومتعددة التخصصات لتشجيعهم على تقديم شكاوى وضمان دعمهم طوال العملية القضائية”، مشدداً على أن يتبع ذلك استجابات جنائية “سريعة وحازمة”.
وأضاف: “إذا أشارت التحاليل التي أُجريت على الضحايا إلى حقنهم بمواد، فسيكون من المناسب الإبقاء على جريمة إعطاء مواد ضارة محل اهتمام القضاء لمحاسبة الفاعلين والمرتكبين. أما في حالة ثبوت اللدغة من دون تحديد أي مادة ضارة، فإنه يجوز اعتبار ما حصل في خانة جريمة العنف المتعمد باستخدام سلاح”.
بلديات قلقة وإجراءات محدودة
بعض رؤساء البلديات في فرنسا رأوا في ما يحصل “مصدر قلق حقيقي لمنظمي الحفلات والمهرجانات”.
وفي تصريح لـ”الشرق”، أعرب رئيس بلدية مدينة شاتو (غرب باريس) ميشال جرويي، عن قلق كبير، لا سميا وأن الإبلاغ عن إصابات بالوخز تزداد كل عام.
وتستعد شاتو لتنظيم مهرجان “Electric Park” في أغسطس المقبل، والذي يستقبل الآلاف سنوياً، ويُعد من أكبر المهرجانات لهذا النوع من الموسيقى في فرنسا.
وبشأن الإجراءات التي يتم اتخاذها لمنع مثل هذه الاعتداءات، اعترف جرويي أنه من الصعب جداً اتخاذ إجراءات تمنع ذلك، نظراً “لعدم معرفتنا بنوع الحقن، وأيضاً يمكن استخدام حقن صغيرة جداً مثل دبوس أو غيره، لذلك”.
وأضاف: “لذلك بدأنا بإعداد وتدريب رجال الشرطة على إجراءات تفتيش غير روتينية، للحيلولة، قدر الإمكان، دون وقوع حوادث من هذا النوع، خاصة وأنه في عام 2022 استطعنا، وبناء على بلاغات من شبان في المهرجان، توقيف شخصين يحملان الجنسية البرازيلية بتهمة القيام بهذه الاعتداءات، إلا أن التحقيقات لم تثبت تورط أي منها”.
ولفت رئيس بلدية شاتو إلى أن “الشرطة عثرت مع الشابين على قارورة تحتوي على سائل أخضر، لكن لم يكن في حوزتهما أي حُقن، كما تعذر تحليل السائل لإثبات ما إذا كان يحتوي على مواد مخدرة أو مُعدية”.
وبالنسبة إلى من ادعوا تعرضهم لعمليات وخز، قال: “شاهدنا على أجساد بعض الشابات والشبان نوع من اللسعات والنقاط الحمراء، إلا أن الفحوصات لم تُثبت تعرضهم لأي مادة كيمائية أو مخدرة أو إصابتهم بأمراض مُعدية”.
تطبيقات للإبلاغ الفوري عن الاعتداءات
ولمعالجة وتطويق ما يمكن أن يحصل من اعتداءات بالوخز، بدأ منظمو المهرجانات باللجوء إلى تطبيقات للمراقبة والمعالجة السريعة.
وهذه الاستجابة أدت إلى تراجع القلق لدى رواد الاحتفالات والمهرجانات.
وأشار رئيس بلدية شاتو إلى أنه تم وضع نظام “Safer”، الذي يوفر تطبيقاً يتيح الإبلاغ عن أي هجوم فوراً أو إطلاق تنبيه. ثم بعد ذلك، يتوجه أعضاء الفريق لمقابلة الضحية المحتملة لمساعدتها. حيث يُرافقونها إلى منطقة استقبال بوجود أخصائي نفسي طوال فترة المهرجان.