في تحول حذر ولكنه مُبشّر، تراجعت باكستان وأفغانستان عن شفا تصعيد حدودي خطير، واتفقتا على إحياء حوار منظم بوساطة تركية وقطرية، استأنفا بموجبه الجولة الثانية من المفاوضات، في إسطنبول بعد تعثُّر لأيام.

ويُمثل هذا التفاهم، الذي تم التوصل إليه بعد مشاورات مطوّلة في تركيا، أول هدنة حقيقية بعد أسابيع من الاشتباكات الحدودية العنيفة التي أسفرت عن مصرع عسكريين من الجانبين، ما زاد المخاوف من اتساع نطاق الصراع.

وفي بيان مشترك بشأن المحادثات التي جرت بين 25 و30 أكتوبر الجاري، أعلنت وزارة الخارجية التركية، الخميس، أن “الأطراف وافقت على إنشاء آلية للمراقبة والتحقق تضمن الحفاظ على السلام، وفرض عقوبات على الطرف المنتهك للاتفاق”.

وفي هذا السياق، قالت مصادر رسمية باكستانية مُطلعة على المحادثات لـ”الشرق” إن الجانبين سيلتزمان بالحفاظ على وقف إطلاق النار، وإنشاء آلية مراقبة مشتركة مصممة للتحقق من الانتهاكات، ومنع تفاقم ردود الفعل العسكرية المتفرقة إلى مواجهة استراتيجية.

ضغط الوسطاء

وبينما لا تزال تفاصيل الإطار قيد المناقشة، يصفه دبلوماسيون باكستانيون تحدثوا لـ”الشرق” بأنه “هيكل عملي، وليس إعلاناً رمزياً”، في إشارة إلى أن ضغط الشركاء الإقليميين بدأ يُؤتي ثماره.

وكان الوفد الباكستاني مدّد إقامته في إسطنبول، بعدما كان مقرراً أن يغادر المدينة في وقت سابق هذا الأسبوع، نتيجة حثّ الوسطاء للجانبين على تجنب انهيار المفاوضات.

وأعلنت إسلام آباد مراراً أن قلقها الرئيسي يبقى استخدام الأراضي الأفغانية من قبل شبكات مسلحة متورطة في هجمات على الأراضي الباكستانية، وبدورها، صدت كابول ما أسمته “التدخل الخارجي”، مؤكدةً أنها لا تسمح بأي “عدوان عبر الحدود”.

وحالياً، تراجعت حدّة النبرة من جانب الطرفين، بعد تبادل التهديدات بينهما في الفترة الماضية.

ونُقل عن مسؤولين باكستانيين تشديدهم، خلف الأبواب المغلقة، على أن الدبلوماسية لا تزال المسار المفضل، لكن فقط إذا اقترنت بإجراءات أمنية يمكن التحقق منها من الجانب الأفغاني.

الاختبار في محادثات إسطنبول 6 نوفمبر

من جهتهم، أكّد الممثلون الأفغان بدورهم على قضايا السيادة، وحثّوا باكستان على معالجة مسائل إدارة الحدود من خلال الحوار بدلاً من اللجوء إلى القوة الأحادية.

ومن المتوقع أن يجتمع كبار المسؤولين من كلا البلدين مجدداً في إسطنبول يوم 6 نوفمبر المقبل، بهدف وضع اللمسات النهائية على إجراءات المراقبة، والبروتوكولات التشغيلية.

وقال مصدر من وزارة الخارجية الباكستانية لـ “الشرق” إن “النجاح سيمنح متنفساً لمنطقة تعاني أصلاً من ضغوط اقتصادية، وتدفّقات اللاجئين، وشبكات المسلحين التي تستغل الحدود المفتوحة، وأما الفشل، فقد يعيد فتح مسارات نحو المواجهة لا يستطيع أي من البلدين، ولا جيرانهما، تحمّلها”.

وأشار مصدر في الدوائر العسكرية العليا في باكستان لـ “الشرق” إلى أن “الإعلان المشترك في تركيا تطور مرحّب به، والآن من المتوقع أن تترجم أفغانستان أقوالها إلى أفعال”.

وأضاف أن “نظام طالبان في أفغانستان كان يخطئ حين يظن أننا مثل الدول الأخرى التي تقطع آلاف الأميال للتعامل معهم، دعوني أذكّرهم بأننا جيران نعيش بجانبهم ونعرفهم تماماً، نحن نعرف جيراننا ولدينا خريطة كاملة عن: من يفعل ماذا ضد باكستان؟”.

على ماذا ينص الاتفاق؟

المصدر نفسه أكد ترحيب بلاده بالاتفاق المؤقت الذي تم التوصّل إليه في إسطنبول بوساطة تركيا وقطر، وشارك “الشرق” النقاط الرئيسية، والتي وُزعت أيضاً على وسائل الإعلام المحلية في وقت متأخر من ليل الخميس.

ملامح “اتفاق إسطنبول” بين باكستان وأفغانستان

1. تؤكد باكستان مجدداً أن أولويتها هي السلام والاستقرار على حدودها الغربية، لكنها توضح في الوقت نفسه أن وقف إطلاق النار الحالي له حدود، فهو ليس غير محدد المدة ولا غير مشروط.

2. المعيار الأساسي للحفاظ على هذا التوقف في الأعمال العدائية واضح: يجب على أفغانستان أن تضمن ألا تُستخدم أراضيها لشنّ أعمال عدائية ضد باكستان، وأن تُظهر إجراءات حازمة وشفافة ضد فتنة الخوارج (في إشارة إلى حركة طالبان باكستان “TTP”، وفتنة الهندوستان “BLA” في إشارة إلى “جيش تحرير بلوشستان الذي تتهمه إسلام آباد بتلقي الدعم من الهند في مسعاه للانفصال بإقليم بلوشستان”، وكذلك ضد “المنظمات الإرهابية” الأخرى.

3. تتوقع باكستان أدلة ملموسة على إجراءات “مكافحة الإرهاب”، بما في ذلك تفكيك المنشآت المسلحة، وقطع شبكات الدعم، واعتقال أو ملاحقة القادة، وتقديم تحديثات يمكن التحقق منها من خلال الآلية المُنشأة للمراقبة والتحقق.

4. إذا فشلت كابول في تقديم تأكيد موثوق بالخطوات المتفق عليها، أو إذا استمر “الإرهاب” عبر الحدود، فستعتبر باكستان الهدنة منتهكة، وستمارس حقها في اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لحماية شعبها وسيادتها.

5. ستعمل هيكلية الرقابة والتحقق التي أنشأها الوسطاء كنظام محايد، وحاسم لتحديد ما إذا كانت أفغانستان تفي بالتزاماتها.

6. تتعامل باكستان مع هذا المسار بصدق، ولكن بنهج براجماتي، إذ توضح دورات العنف السابقة أن الوعود وحدها لا تكفي دون إنفاذ مستمر على الأرض.

7. يجب على أفغانستان أن تعترف بأن هذه تسوية سلام مشروطة، تعتمد بالكامل على المسؤولية والأداء القابلين للقياس من جانبها.. إذا تم تجاهل تلك الالتزامات، فلن يكون لدى باكستان خيار سوى متابعة خيارات أمنية بديلة.

8. حكومة باكستان وقواتها المسلحة متّحدة وحازمة: يظل السلام المسار المفضّل، ومع ذلك فإن حماية سيادة باكستان الإقليمية أمر مطلق، ولا يجري التهاون بشأنه.

موافقة طالبان “ليست ضعفاً”.. و”إما السلام أو الحرب”

في سياق متصل، اعتبر مصدر أفغاني رفيع طلب من “الشرق” عدم كشف هويته، أنه “يجب ألا يُؤخذ تمديد الهدنة على أنه ضعف من جانبنا، لقد احترمنا فقط رغبة وموقف مضيفينا، لكننا نؤكد في الوقت ذاته أن أفغانستان لا تُستخدم من قبل المتطرفين ضد أي طرف”.

وقال مسؤول بارز آخر في الحكومة الأفغانية: “نحن نرحّب بجهود مضيفينا والدول الشقيقة الهادفة إلى تحقيق سلام دائم في المنطقة، لكن الوضع يحتاج إلى مراقبة حذرة، إذ ستكون هناك أطراف تحاول تخريب العملية برمّتها”.

وكان المتحدث باسم حكومة “طالبان” الأفغانية ذبيح الله مجاهد أعلن أن الجانبين اتفقا على مواصلة المناقشات، مشيراً إلى أن بلاده تسعى إلى إقامة علاقات جيدة مع باكستان “على أساس الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية”.

على الضفة الأخرى، قال مصدر باكستاني لـ”الشرق” إن بلاده “تتحرك بسرعة نحو نهاية منطقية، والوقت سيُظهر إن كنا نعطي فرصة للسلام أم أننا نتجه إلى حرب شاملة بين باكستان وأفغانستان”، وأضاف: “أنا أعلم تماماً أن أفغانستان ليست في موقع يمكنها من مجاراة تلك المواجهة.. نحن لا نرى سيناريوهات مريحة لأفغانستان إذا لم تتوقف عن أن تكون وكيلاً للهند”.

وبالنسبة إلى السكان الذين يعيشون على طول الحدود الوعرة بين البلدين، والتي يزيد طولها عن 2600 كيلومتر، حيث دوّى في الآونة الأخيرة صوت نيران المدفعية عبر وديان الجبال، فإن الهدوء المؤقت يجلب مساحة من الارتياح، المشوب بخوف من تجدّد المواجهات.

وأوضح الأهالي أنهم شهدوا الكثير من دورات التوتر والهدنة بحيث لم يعودوا يضعون ثقتهم الكاملة في التصريحات السياسية وحدها، والأمل، الذي يتشاركه الناس بهدوء من وزيرستان إلى خوست، هو أن تستمر هذه الفرصة الدبلوماسية بما يكفي لبناء استقرار حقيقي، لا أن تكون مجرد هدنة هشة أخرى تسبق الجولة التالية من النار.

عوامل ضغط على طالبان

في حديث إلى “الشرق” يعتقد خبير وإعلامي مستقل في أفغانستان  بوجود “قيود خطيرة” تواجه حركة طالبان، لافتاً إلى أن الحركة “تدخل هذه المفاوضات تحت ضغط داخلي كبير يشمل الديناميكيات الفئوية داخل صفوفها، والتهديدات من الجماعات المتطرفة المنافسة مثل تنظيم ‘داعش- خراسان’، إلى جانب الأزمة الاقتصادية وقلة الاعتراف الدولي، فضلاً عن ضعف أو عدم انتظام هياكل القيادة والسيطرة”.

ورأى أن هذه العوامل قد تُعيق رغبة كابول، أو قدرتها، على اتخاذ إجراءات حاسمة ضد حركة “طالبان باكستان”، وأكثر من 20 فصيلاً مسلحاً ينشطون داخل الأراضي الأفغانية، وهنا ربما تتصادم مطالب باكستان مع الحقائق السياسية والأيديولوجية الداخلية للحركة، وفق رأيه.

ويرى الخبراء أن الانعكاسات الإقليمية يمكن أن تسير في كلا الاتجاهين، تبعاً للظروف والاحتمالات، إذ أن نجاح المفاوضات قد يترتب عليه نتائج واسعة النطاق مثل:

  • استقرار الحدود بين باكستان وأفغانستان.
  • تقليص مساحة النشاط العملياتي للجماعات المسلحة.
  • إحياء الروابط التجارية وخطوط العبور.
  • تحسين المناخ العام للتعاون في مجال الأمن الإقليمي.

في المقابل، قد يؤدي الفشل إلى تعميق حالة عدم الاستقرار عبر:

  • تصاعد العنف عبر الحدود.
  • زيادة النشاط المسلح.
  • ارتفاع خطر الإجراءات الأحادية الجانب.

وكانت باكستان شنت غارات جوية داخل الأراضي الأفغانية في 11 أكتوبر  ضد مقاتلين من حركة طالبان الباكستانية، الذين تتهمهم إسلام آباد بالوقوف وراء هجمات استهدفت قواتها، واندلعت بعدها اشتباكات حدودية بين البلدين، بعدما أدانت كابول الغارات، واعتبرتها انتهاكاً لسيادتها، ونفت إيواءها لتلك الجماعات.

شاركها.