انقسام سياسي وخيارات محدودة: عقبات أمام ميرتس لقيادة ألمانيا

عندما توجه معظم الناخبين الألمان إلى صناديق الاقتراع قبل يومين، كانوا يعلمون سلفاً، وإلى حد كبير، أنهم لم يعودوا يريدون حكومة وسط، ذات توجهات يسارية، وذلك بسبب استيائهم من مسألتي الهجرة والاقتصاد، لكن ما لم يكونوا يعلمونه، هو أنهم قرعوا أيضاً، ومن دون قصد، جرس الإنذار لدى اليسار المتشدد الذي حقّق مكاسب غير متوقعة منحته ثقلاً في البرلمان، بعد أن ظنَّ أنه لن يدخله أصلاً.
وهكذا، سلّم الألمان مقاليد الحكم إلى المستشار القادم، في بلد منقسم، وطرق وعرة.
وفاز الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) (يمين الوسط) بالعدد الأكبر من المقاعد في مجلس النواب (208)، يليه حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) (يمين متطرف) بـ(152) مقعداً، وجاء ثالثاً الحزب الحاكم حالياً “الاشتراكي الديمقراطي” (SPD) (يسار الوسط) بـ(120) مقعداً، ثمّ شريكه في الائتلاف الحاكم، حزب الخضر (Grüne) (يسار) بـ(85) مقعداً، وأخيراً حزب اليسار (Die Linke) (يسار متشدد) بـ(64) مقعداً.
ويتطلب تشكيل الحكومة أغلبية مطلقة بـ(316) مقعداً، ولذلك يلجأ الحزب الفائز بأكبر عدد من المقاعد إلى شريك أو شركاء لتشكيل حكومة ائتلافية.
بناء على ذلك، فإن المستشار الألماني القادم هو زعيم الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريديرش ميرتس، المحامي السابق الذي تعهّد بتشديد سياسة الهجرة، وخفض الضرائب واللوائح التنظيمية، واعتماد نهج متشدّد تجاه روسيا.
ويواجه ميرتس الآن تحديات تتعلق تشكيل ائتلاف يضم أكثر من نصف مقاعد البرلمان الألماني (316) مقعداً. وكحال ساسة التيار الرئيسي الآخرين، تعهّد باستبعاد اليمين المتطرف (AfD) من ائتلافه بسبب تطرفه، بما في ذلك تبنّيه شعارات ورموز توحي بنزعات نازية.
نقطة تحوّل
وفي حديث لـ”الشرق”، قال البروفيسور مارسيل فراتزشر رئيس معهد الأبحاث الاقتصادية الألماني (DIW) إن هذه الانتخابات “تمثّل نقطة تحوّل”، فحتى الاتحاد المسيحي الذي فاز في الانتخابات “قدّم أداءً ضعيفاً بشكل لافت”. وأوضح فراتزشر أن ائتلافاً بين حزبين ليسا قويين بما فيه الكفاية “قد يواجه صعوبة في رسم خط سياسي واضح” للبلاد.
عندما كان ميرتس يتلقى التهاني من أنصاره، وجّه أيضاً بضع كلمات إلى الشريك المستقبلي في الائتلاف، قائلاً إنه يعلم أن المهمة لن تكون سهلة “الآن سنجلس ونتحاور”، لكن “العالم خارج ألمانيا لن ينتظرنا طويلاً”، وأوضح أنه يجب تشكيل حكومة مستقرة بأغلبية قوية في أسرع وقت ممكن. وكانت هذه هي الرسالة الرئيسة: “المهمة صعبة، لكن يجب إنجازها بسرعة”.
وباستبعاد التحالف مع اليمين المتطرف (AfD)، فإن ميرتس ليس لديه خيارات سوى تشكيل ائتلاف مع الشريك المعهود، الحزب الاشتراكي الديمقراطي (يسار الوسط)، لكنه لن يكون ائتلافاً كبيراً، إذ أن “الاشتراكي الديمقراطي”، بعد حصوله على 16.4% فقط من الأصوات أو (120) مقعداً، لم يعد يمثل كتلة كبيرة داخل البرلمان، متراجعاً إلى المرتبة الثالثة، وذلك في أسوأ نتائج انتخابات يحققها منذ أكثر من قرن.
ومع ذلك، فإن الاختلاف الكبير في المواقف بين الحزبين، فيما يتعلق ببعض القضايا الجوهرية، قد يجعل التوصل إلى تسويات أمراً شائكاً، رغم أن قادة الحزبين حذّروا من نقل عداوات الحملة الانتخابية إلى مفاوضات تشكيل الحكومة، ودعوا إلى إيجاد حلول وسط.
وسيطرت قضيتان على الحملة الانتخابية، وهما نفسهما اللتان رسمتا ملامح السياسة في الولايات المتحدة وأجزاء عدة من أوروبا في السنوات الأخيرة: الهجرة والاقتصاد.
وهنا أبرز القضايا التي يجب على الحزبين التوافق حولها:
تشديد سياسة الهجرة
يأتي على رأس هذه القضايا الهجرة، فقد قدم فريديرش ميرتس خلال حملته الانتخابية خطة من 5 نقاط تتعلق بتشديد سياسة الهجرة، واستطاع تمريرها بوصفها توصية غير ملزمة في البرلمان، بدعم من حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD).
وتطالب إحدى نقاط خطة ميرتس بإعادة طالبي اللجوء عند الحدود الألمانية، الأمر الذي يعدّه الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) بأنه يتعارض مع قوانين الاتحاد الأوروبي.
ففي ألمانيا، بلغت نسبة السكان المولودين في الخارج ما يقارب 20%، بارتفاع من 12.5٪ عام 2015. وقد تسبّب هذا الارتفاع في تغييرات سريعة بالمجتمعات المحلية. ورغم نجاح الكثير من المهاجرين الجدد في الاندماج دراسياً ووظيفياً، فإن آخرين لم ينجحوا بالقدر نفسه.
كما برزت الجريمة كقضية ملحّة خلال الحملة الانتخابية. وتشير البيانات الأخيرة لعام 2023 إلى أن الأجانب يرتكبون نحو 41% من الجرائم في ألمانيا، وخلال الأشهر العشرة الماضية، شهدت ما لا يقلّ عن 4 هجمات دامية نفذها مهاجرون رُفضت طلبات لجوئهم، لكنهم بقوا في البلاد.
وقالت سودها ديفيد-ويلب، الباحثة في العلاقات عبر الأطلسي لدى الصندوق الألماني مارشال (GMF)، إن الأداء القوي لحزب البديل من أجل ألمانيا يعني أنّ على الحكومة الألمانية القادمة “معالجة المخاوف المتعلقة بالهجرة والازدهار الاقتصادي، وإلّا فقد يتجاوز هذا الحزب سائر الأحزاب الرئيسية في الانتخابات المقبلة”.
وفي حديث لـ”الشرق”، أوضحت ويلب أن حزب “البديل” سيصبح القوة المعارضة الأكبر في البوندستاج، وسيواصل إزعاج الحكومة الألمانية القادمة، بينما تتعامل هذه الحكومة مع تحديات جيوسياسية كبرى.
بدوره، حذر البروفيسور فراتزشر من أن الإصلاحات الضرورية ستكون عاجزة عن التطبيق إلى حد كبير “مع زيادة الاستقطاب المجتمعي واستمرار صعود حزب البديل، وهو ما يبدو حتمياً”.
الأمن والإنفاق العسكري
قد تكون المفاوضات أكثر سلاسة فيما يخص قضايا الأمن الخارجي وتمويله، خاصة بعد الخطاب الحاد لنائب الرئيس الأميركي جاي دي فانس خلال مؤتمر ميونيخ الأمني، والذي ترك مخاوف لدى الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، فقد زادت القناعة داخل الحزب بضرورة اتخاذ تدابير أكبر لضمان الأمن، الأمر الذي يتطلب زيادة الإنفاق العسكري، وهو ما يصطدم بقانون “مكابح الديون” في ألمانيا.
ولتمرير إصلاح “مكابح الديون” داخل البرلمان، يحتاج القرار إلى ثلثي الأصوات.
ورغم فوز حزب ميرتس في الانتخابات، إلا أن صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة واليسارية المتشددة، قد يعرقل أي محاولات لزيادة الإنفاق الدفاعي في ظل معارضة هذين الطرفين. لذلك ظهرت دعوات لتمرير إصلاح القانون في البرلمان الحالي، إذ لا يزال من حق هذا البرلمان قانونياً تمرير التشريعات حتى 25 مارس 2025، إلا أن ميرتس استبعد إجراء إصلاح سريع لقانون “مكابح الديون”، مؤكداً أن الوقت لا يزال مبكراً لاتخاذ قرار بشأن زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري عبر البرلمان المنتهية ولايته.
ومع تزايد المخاوف بشأن جاهزية الجيش الألماني، دعا وزير الدفاع المنتهية ولايته، بوريس بيستوريوس، إلى استثناء من “مكابح الديون” لضمان تجهيز الجيش بصورة كافية، مشيراً إلى أن المطلوب قد يتجاوز 3% من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 80 مليار يورو.
وقالت سودها ديفيد-ويلب لـ”الشرق”، إنه ينبغي على الحكومة الألمانية المقبلة أن “تسارع بالعمل مع شركائها الأوروبيين لصياغة استراتيجية أمنية للقارة في ظل علاقات عبر الأطلسي غير مستقرة، وتعزيز القدرة التنافسية لجعل أوروبا فاعلاً عالمياً حقيقياً”، معتبرة أن أوروبا القوية تصبُّ في مصلحة الولايات المتحدة، لا سيما فيما يتعلق باحتواء الصين.
وأكد ميرتس أن الأولوية ستكون للبحث عن فرص تقليل الإنفاق في الميزانية قبل اللجوء إلى أي حلول أخرى. وهذا الموقف قد يُثير خلافاً مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي، خصوصاً فيما يتعلق بتمويل الإعانة الاجتماعية أو ما يُسمى بـ”إعانة المواطن” (Bürgergeld)، التي يعتبرها الحزب الاشتراكي الديمقراطي إنجازاً مهماً، رغم أن انطباع الكثيرين في الشارع الألماني عكس ذلك.
إنعاش الاقتصاد
بموازاة ذلك، يشهد الاقتصاد الألماني تباطؤاً حاداً، إذ انكمش بنسبة 0.3٪ عام 2023، مسجلاً أسوأ أداء بين دول منطقة اليورو.
وتُعاني الصناعة الألمانية من تراجع الإنتاج لـ5 أشهر متتالية، وسط ارتفاع تكاليف الطاقة والتحديات الرقمية، بينما تواجه شركات السيارات منافسة شديدة من الصين.
وأدت الخلافات داخل الائتلاف الحاكم الحالي بقيادة أولاف شولتز إلى أزمة ميزانية، بعد أن ألغت المحكمة الدستورية خطة الإنفاق السابقة، ما أفرز عجزاً بقيمة 17 مليار يورو، مع فرض قيود على الاقتراض بسبب “مكابح الديون” الدستورية.
وتمنع القيودُ المفروضة على الاقتراض الحكومة من القيام باستثمارات مطلوبة بشدة في البنية التحتية العامة، من المدارس والإدارة العامة إلى السكك الحديد وشبكات الطاقة.
وقالت مونيكا شنيتسر، رئيسة مجلس الخبراء الاقتصاديين الألمان، إن قانون “مكابح الديون” أُدرج في الدستور أصلاً في زمن معين للحد من ارتفاع الديون بعد إعادة الوحدة مع ألمانيا الشرقية وتزايد الإنفاق بعد الأزمة المالية عام 2008. حينها، لم يفكر أحد ما قد يعنيه ذلك عندما تكون هناك أزمة مالية خطيرة، وقالت إن كبح الديون الآن “لا يترك مجالاً كافياً لدى الحكومات للمناورة”.
ولتحقيق التوافقات حول هذه القضايا الهامة، يحتاج ميرتس إلى التعامل أيضاً مع التحديات التي ستطرحها التحولات داخل شريكه في الائتلاف، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، إثر أدائه السيئ في الانتخابات.
تحولات الحزب الاشتراكي الديمقراطي
يشهد الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) تحولات جوهرية في قيادته، ما قد يُشكل تحدياً كبيراً في مفاوضات تشكيل الائتلاف الحكومي مع حزب ميرتس، فبينما أعلن أولاف شولتز نيّته البقاء مستشاراً حتى تشكيل الحكومة الجديدة من دون رغبة واضحة في قيادة المفاوضات، يتقدم لارس كلينغبايل كوجه جديد يسعى إلى تجديد الجيل القيادي داخل الحزب.
مع ذلك، فإن غياب توافق واضح حول القيادة الجديدة يُثير تساؤلات داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي، خاصة مع بروز شخصيات أخرى مثل وزير الدفاع بوريس بيستوريوس، الذي يتمتع بشعبية كبيرة، ورؤساء وزراء الولايات الذين يتبنّون نهجاً أكثر براغماتية. وهذا الانقسام ربما يُعقّد قدرة الحزب على التفاوض بفعالية مع الاتحاد المسيحي، الذي يسعى إلى حسم تشكيل الائتلاف بحلول عيد الفصح في أبريل القادم.
في المقابل، يبدو أن الاتحاد المسيحي أكثر استعداداً، إذ يمتلك خطة واضحة لمراحل التفاوض الأولى، ما قد يمنحه الأفضلية في تحديد ملامح الحكومة المقبلة. ومع استمرار الخلافات الداخلية في الاشتراكي الديمقراطي، قد يجد الحزب نفسه في موقف تفاوضي ضعيف، مما يزيد احتمالية تقديم تنازلات لصالح ميرتس.
بما أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي قد خرج ضعيفاً في الانتخابات، فإن المعارضة تترقب وتحاول التأثير.
المعارضة: الخضر في الظل وصعود البديل
وباعتبار أن التحالف سيقتصر على الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي، فإن حزب الخضر سيجد نفسه في المعارضة. وقد بدا واضحاً، خلال المناظرات التلفزيونية، مدى صعوبة تشكيل ائتلاف يشمل الخضر، ما جعل استبعادهم من الائتلاف أمراً متوقعاً.
ويشهد حزب الخضر أيضاً تحولاً داخلياً قد يؤثر في المشهد السياسي في ألمانيا، خاصة بعد إعلان روبرت هابيك انسحابه من قيادته، رغم المطالبات الجماهيرية ببقائه.
كما يواجه الحزب منافسة شرسة من حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD)، الذي بات القوة المعارضة الأكبر بفارق واضح، وسيكون له التأثير الأكبر في المعارضة.
دور اليسار: مفاجأة تيك توك وولادة جديدة
في المقابل، وعلى الرغم من التوقعات كلها التي كانت تُرجّح فشل حزب اليسار (Die Linke) في تخطي عتبة 5% من الأصوات، استطاع الحزب تحقيق ما يقارب 9%، ليضمن 64 مقعداً في البرلمان.
وجاء هذا الإنجاز بعد حملة مفاجئة قادتها وجوه شابة، أبرزها هايدي رايشينيك البالغة من العمر 36 عاماً، التي حصدت شعبية كبيرة بفضل منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة “تيك توك” و”إنستجرام”، حيث يتابعها أكثر من مليون شخص.
تُعرَف رايشينيك بخطابها الحاد الذي كسَر العديد من التقاليد البرلمانية الألمانية، إذ هاجمت ميرتس بشدة بعدما مرّر توصية برلمانية تتعلق بتقييد الهجرة بدعمٍ من حزب “البديل من أجل ألمانيا”.
واتهمت ميرتس بأنه “يتعاون فعلياً مع حزب يميني متطرف يكسر المحظورات السياسية الألمانية منذ الحرب العالمية الثانية”.
وحصد هذا الخطاب نحو 7 ملايين مشاهدة على “تيك توك”، ما أسهم في استقطاب الناخبين الشباب الليبراليين، الذين رفضوا التوجه المحافظ المتصاعد لدى الأحزاب الكبرى.
ويرى بعض المحللين أن انشقاق القيادية اليسارية سارة فاجنكنشت عن الحزب، وتشكيل تحالف خاص بها، معروف بمواقفه المتشددة حيال الهجرة وميوله الموالية لروسيا، ساعد على توحيد صفوف حزب اليسار وفتح المجال أمام تجديد شبابه وقياداته.
أما هايدي رايشينيك، التي تحمل وشماً لروزا لوكسمبورج على ذراعها اليسرى، فقد تحولت إلى أيقونة للجناح الليبرالي داخل “دي لينكه”، مقدمةً الحزب بوصفه “آخر جدار صدّ عظيم ضد اليمين المتطرف في ألمانيا”.
وفي حفلة المتابعة لنتائج الانتخابات، لم يُخفِ أنصار “دي لينكه” سعادتهم العارمة بالنتائج. ومع إعلان حصول الحزب على 9%، صعد أحد قادته إلى المنصة وسط هتافات قوية، قائلاً بفخر: “اليسار لا يزال حياً”.
أولويات الحكومة الجديدة
ورسم البروفيسور فراتزشر، رئيس معهد الأبحاث الاقتصادية الألماني (DIW)، لـ”الشرق” الأولويات الكبرى للحكومة الاتحادية الجديدة بشأن استعادة الثقة المفقودة، وتوفير منظور واضح للمستقبل أمام المواطنين والشركات.
وقال: “نحن بحاجة إلى شجاعة ووضوح من قِبَل الحكومة الجديدة، لأن السنوات الأربع القادمة ستكون صعبة على ألمانيا، وربما الأصعب خلال الـ75 عاماً الماضية”.
وأوضح أنه يجب على الشركات في القطاع الصناعي، وكذلك المواطنين “الاستعداد للتضحيات والمشقة”، ذلك أن أي تحول في الاقتصاد والمجتمع يعني “تغييراً حتمياً، ومن ثمّ هذا يعني وجود خاسرين”.
كما تحدث عن أهمية إطلاق حملة استثمارية واسعة تُركز على البنية التحتية والابتكار والتعليم وكذلك الدفاع. وقال إنه “يجب تفادي النزاعات العقائدية وتمويل هذه الاستثمارات بشكل براغماتي من خلال أصول خاصة، لأن الإصلاح الجوهري لمكابح الديون أمر مستبعد”.
ورأى فراتزشر أنه يجب تغيير المسار جذرياً في السياسة الأوروبية، إذ لا يمكن لألمانيا الحفاظ على مصالحها إلا عبر أوروبا قوية وموحَّدة، وفق رأيه.
وتابع: “يجب ألّا تمضي ألمانيا في إضعاف أوروبا، كما دعت بعض الأحزاب خلال الحملة الانتخابية، بل عليها تبني مقاربة أوروبية مشتركة بالدرجة الأولى على صعيد الدفاع، والسوق الداخلية، والابتكار، والتنافسية”.
طرق وعرة أمام ميرتس
بهذا المشهد المعقد الذي جمع بين صعود اليمين المتطرف، وتراجع الاشتراكيين الديمقراطيين، وتعزيز حزب اليسار لموقعه بمفاجأة شبابية، يقف ميرتس على أعتاب أصعب اختبارات مسيرته السياسية، وأمام اختبار صعب لتشكيل حكومة مستقرة في أسرع وقت ممكن.
ورغم فوز الاتحاد الديمقراطي المسيحي، فإن ارتفاع أصوات اليمين المتطرف (AfD) من جهة، واليسار (دي لينكه) من جهة أخرى، يشير إلى تحول واضح في المزاج السياسي الألماني.
وسيكون على ميرتس، في حال نجاحه بإتمام الائتلاف مع الاشتراكي الديمقراطي، أن يوازن بين مطالب تياره المحافظ ومطالب الاشتراكيين الديمقراطيين من جهة، وبين التعهدات التي قطعها لناخبيه والمشهد المتنوع الذي أفرزته صناديق الاقتراع من جهة أخرى.
وتتلخص معضلة ميرتس في الجمع بين صورته كشخص حاسم جذب أصواتاً محافظة، وبين براغماتية الائتلاف التي تتطلب منه تهدئة الخلافات مع الاشتراكيين الديمقراطيين. كما أنه بحاجة إلى التحكّم أكثر في خطاباته وإظهار انضباط أكبر على المستوى الإعلامي، كي يتجنب الانطباع القائل إنه “لا يمسك تماماً بزمام كلماته”.
نهج أنجيلا ميركل؟
ورغم زخمه الانتخابي، فإن الأعين تترقب ما إن كان ميرتس سيبدع نمطاً متمايزاً عن حقبة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، التي تميزت بإدارة الأزمات وليس إصلاحها، أم أنّه سيغرق في صراعات ائتلافية تستهلك طاقته السياسية.
يبقى الأكيد أن الامتحان الحقيقي لمه سيبدأ عند استلامه فعلياً للمستشارية، حيث هناك فقط ستتجلّى قدرته على تحويل أفكاره إلى سياسات ملموسة في ملفات داخلية شائكة، ومن ثم إثبات أنه قادر على قيادة ألمانيا وسط أزمات دولية شديدة التعقيد.
وقالت سودها ديفيد-ويلب لـ”الشرق”، إن ميرتس يمتلك ميزة كونه ليس ميركل ولا أولاف شولتز، وهما مستشاران سبق أن تعرّضا لانتقادات حادة من جانب ترمب ودائرته.
وأوضحت أن “لديه القدرة على تأسيس علاقة جديدة، رغم وجود تحديات عديدة تشمل الرسوم الجمركية وملف أوكرانيا”. وتابعت: “بصفته مستشاراً، سيتعيّن عليه اتخاذ نبرة براغماتية مع واشنطن، وأن يستعد لتولي زمام القيادة مع شركائه في ضمان الأمن بالوسائل التقليدية بوتيرة أسرع”.
وهكذا، سيواصل ميرتس وشركاؤه في الائتلاف اعتبار حزب البديل من أجل ألمانيا خطاً أحمر. وفي هذه الأثناء، سيستمر حزب اليسار في استثمار زخمه الجديد، محاولاً ترسيخ صورته كحائط صدّ ضد صعود التطرف اليميني.