تواجه أوروبا خلال السنوات الماضية تحديات عدة، أبرزها حرب روسيا وأوكرانيا، وتعريفات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الجمركية، وصعود الشعبويين اليمينيين في مختلف أنحاء القارة، فيما سقطت الحكومة الفرنسية مجدداً، ولكن هذه المرة بعد أقل من يوم واحد فقط من توليها السلطة، ما أثار اضطراباً من احتمال إجراء انتخابات جديدة قد تقرب اليمين المتطرف من السلطة، وفق مجلة “بوليتيكو”. 

وفي بروكسل وعواصم أوروبية أخرى، عبر مسؤولون ودبلوماسيون في جلسات خاصة عن مخاوفهم من أن تضعف قدرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على قيادة الملفات الدولية، مثل أوكرانيا وغزة، بشكل حاسم. وأبدى بعضهم قلقاً من أن يعرض ذلك اقتصاد منطقة اليورو بأكمله للخطر.

وقال دبلوماسي أوروبي إن “فرنسا أكبر من أن تفشل، لذلك فإن هذه الاضطرابات السياسية المستمرة يعرض منطقة اليورو بأكملها للخطر.. إنه الموضوع الرئيسي في كل أحاديث المكاتب اليوم”. 

وتعد فرنسا ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا، ولاعب رئيسي في مجموعة السبع، والدولة الوحيدة في الاتحاد التي تمتلك سلاحاً نووياً، كما أنها عضو دائم في مجلس الأمن الدولي. وبالإضافة إلى ذلك، شكلت باريس في عهد ماكرون قوة سياسية دافعة للشؤون الأوروبية لا ينافسها في ذلك سوى ثقل برلين. 

وفي الوقت نفسه، يحاول ماكرون صد تهديد حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، الذي يتصدر استطلاعات الرأي بشكل مستمر، بينما يكافح في الوقت نفسه للتعامل مع العجز الكبير في ميزانية بلاده.

لكن حكوماته المتعاقبة فشلت في تمرير تدابير لخفض الإنفاق العام عبر البرلمان، فيما يزيد الجمود السياسي المستمر منذ فترة طويلة من احتمال الدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة قبل نهاية العام، ما ينذر بأشهر إضافية من عدم اليقين. 

وبدأت بعض الأوساط تفكر الآن في احتمال استقالة ماكرون المبكرة من منصبه. وتنتهي ولايته رسمياً في عام 2027.

وستفتح أي من هذه السيناريوهات الباب أمام حزب “التجمع الوطني”، الذي تتزعمه مارين لوبان، لتحقيق مكاسب كبيرة قد تقلب المشهد السياسي الأوروبي وتطلق موجة من الاضطرابات. 

“نعي سياسي مبكر”

وفي بروكسل، بدأ بعض الدبلوماسيين الأوروبيين يكتبون بهدوء “النعي السياسي” لماكرون، وفق “بوليتكو”. فبعد أن صعد إلى السلطة عام 2017 وكسر القوالب التقليدية للسياسة الفرنسية، قالوا إنه يبدو الآن زعيماً ضعيفاً فقد زخمه، ويتراجع نفوذه بسرعة في بروكسل.

وتحدث دبلوماسي أوروبي ثانٍ عن “إرث” ماكرون بوصفه مفكراً مؤثراً طرح أفكاراً عديدة لدفع عجلة التغيير في أوروبا، ونجح في إقناع قادة آخرين بتبني بعضها.

وأشار الدبلوماسي إلى أن مفهوم “الاستقلالية الاستراتيجية”، الذي يهدف إلى جعل الاتحاد الأوروبي أكثر اعتماداً على نفسه اقتصادياً ودفاعياً، وُلد قبل سنوات في باريس. 

ومع سحب ترمب الولايات المتحدة بعيداً عن أوروبا، أصبح هذا المفهوم يحظى بزخم كبير في بروكسل. وقال الدبلوماسي: “ليس هناك الكثير من القادة المستعدين أو القادرين على التفكير لخمس أو حتى سنتين مقبلتين. كان (ماكرون) بارعاً جداً في ذلك”.

وانتُخب ماكرون للبقاء في منصبه حتى عام 2027، ورغم التكهنات لم يُبدِ أي إشارة إلى أنه سيستقيل. لكن إذا استمر في الحكم، فإن الاضطرابات السياسية في باريس ستؤدي على الأرجح إلى تراجع تأثير فرنسا في النقاشات وصياغة السياسات داخل الاتحاد الأوروبي.

وقال الدبلوماسي إن فرنسا كانت ستتمكن من التأثير بدرجة أكبر في نقاشات وزراء المالية بشأن ميزانية الاتحاد، لو استطاعت إرسال الوزير نفسه بانتظام إلى الاجتماعات مع نظرائه في بروكسل. لكن التغييرات المتكررة في المناصب الوزارية في باريس تجعل من الصعب على الموقف الفرنسي أن يحافظ على نفوذه. 

أما الانتخابات المبكرة، فقد تهدد الميزانية الأوروبية طويلة الأمد. وكانت الحكومات الوطنية المشاركة في مناقشات الميزانية قد حددت موعداً غير رسمي للتوصل إلى اتفاق قبل الانتخابات الفرنسية في عام 2027، نظراً إلى الخطر المتمثل في احتمال أن تُسيس لوبان النقاش وتعرقله في نهاية المطاف، بحسب المسؤول الأوروبي في منطقة اليورو.

غياب مؤثر

ولعب ماكرون دوراً محورياً في جهود أوروبا لدعم أوكرانيا والقارة في مواجهة روسيا، سواء من خلال حث القادة الأوروبيين على تعزيز القدرات العسكرية الذاتية للاتحاد الأوروبي، أو عبر تنسيق الجهود مع الحلفاء. 

ولا تزال مبادرته المشتركة مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر لتشكيل “تحالف الراغبين” هي الخيار الوحيد المطروح لدعم أي اتفاق سلام مستقبلي في أوكرانيا. 

وقال المسؤول الأوروبي: “ليس من مصلحة الاتحاد الأوروبي أن تكون إحدى أكبر الدول الأعضاء في حالة اضطراب، خصوصاً في هذا الوضع الأمني الراهن”. 

ولطالما كانت الشراكة الفرنسية-الألمانية القوية، بين قادة فاعلين في باريس وبرلين، ركناً أساسياً لجعل الاتحاد الأوروبي أكثر قوة وكفاءة. لكن أزمات ماكرون تجعل تحقيق ذلك أصعب بكثير، حتى مع وجود زعيم جديد في ألمانيا هو فريدريش ميرتس، الذي يُنظر إليه في بروكسل على أنه أكثر نشاطاً من سلفه. 

وفي غضون ذلك، يبرز سؤال عمّا، أو من، سيأتي بعد ذلك. فإذا دعا ماكرون إلى انتخابات جديدة، فإن اليمين المتطرف الفرنسي قد يحقق مكاسب، رغم أن نسبة تأييد حزب “التجمع الوطني” في استطلاعات الرأي ظلت مستقرة إلى حد كبير بين 30 و32% منذ الانتخابات التشريعية لعام 2024. 

شاركها.