“باب السين”.. بين حضن العائلة وسجنها

لعقود ارتبطت صورة الدراما التليفزيونية بما يطلق عليه Soup Opera (أوبرا الصابون)، وهو تعبير يشير إلى نوعية من المسلسلات “العاطفية” التي تتناول قصص الحب والزواج، وتتسم بالمبالغات الميلودرامية، ذات حلقات كثيرة قد تمتد لسنوات، والموجهة بالأساس لربات البيوت.
ورغم تراجع هذه النوعية كثيراً مع صعود المنصات وتغير أذواق الشباب، لكن يظل لها جمهورها العريض بين العديد من الفئات والشرائح خاصة نساء الطبقة الوسطى.
صدام الطبائع
ومن الفنانات العربيات الخليجيات اللواتي تخصصن في هذه النوعية المخرجة الإماراتية نهلة الفهد، التي قدمت خلال السنوات العشر الماضية أعمالاً منها “حرب القلوب”، “خلف جدار الصمت” و”منت رايق”.. وتقدم ضمن موسم رمضان الحالي مسلسل “باب السين” الذي يحقق شعبية وردود فعل كثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
يدور “باب السين” حول عائلة كويتية مكونة من أربعة أشقاء، رجلان وامرأتان، يضطرون، رغما عن إرادتهم، إلى العيش معا في بيت العائلة تنفيذاً لوصية والدهم الراحل.
الأربعة تبدأ أسماؤهم بحرف السين (على طريقة “إمبراطورية ميم”)، ومن هنا اسم المسلسل الذي يبدو غريباً بعض الشيء.
يتناول المسلسل الحياة اليومية للأشقاء الأربعة داخل المنزل وعلاقاتهم الخارجية في العمل والحب، مستكشفاً صعوبات الحياة مع الآخرين، حتى لو/ خاصة لو، كانوا من الأقارب والأحباء.
ولعل أهم ما تفعله كاتبتا السيناريو مريم نصير ومريم القفال، هو ربط هذه الصعوبات بطبائع الشخصيات.. ذلك أن الغالبية العظمى من التوترات والصدامات وسوء الفهم تنتج عن اختلاف الطبائع والعيوب النفسية، أكثر مما تنتج عن وجود أسباب خارجية أو سوء نية مبيت داخل الشخصيات.
الأشقاء الأربعة هم: سعود (عبد العزيز النصار)، الأخ الأكبر، والأرمل الذي كان يسكن المنزل وحده بصحبة ابنته الوحيدة، سهاد (ريتال جاسم) التي لم تتجاوز الثامنة، ولا يجيد التعامل معها أو مع إخوته؛ بسبب تعاليه وضيق أفقه.
الأخت الثانية هي سلمى (شيماء سليمان) التي تعاني من شعور بالهجر وفقدان الثقة، تحاول إخفاءه بالظهور قوية، فتبدو قاسية وعدائية معظم الوقت، وسلمى التي عاشت بمفردها ومستقلة لسنوات طويلة تعاني أكثر من الجميع في التأقلم مع العيش وسط إخوتها، خاصة سعود.
من الطريف أن كلاً من عبد العزيز نصار وشيماء سليمان كانا بطلا مسلسل “منت رايق” في العام الماضي في دوري زميلين صحفيين يتحابان، مع الفارق أن نصار كان يؤدي شخصية الشاب قليل الثقة بالنفس الذي اعتاد الاستقلال والعيش وحيداً، والذي يصدر العدائية والقسوة تجاه الآخرين وعلى رأسهم الفتاة التي يحبها.
بجانب سعود، وسلمى هناك الأخت الوسطى سندس (زينب كرم) التي عاشت في بيت خالتها منذ طفولتها، وسلمى هي الأكثر طيبة بين الجميع، تحلم بأن تصبح مصممة ملابس، ثم مذيعة، وتبدو “وسطا” ومترددة في كل شيء.
الأخ الرابع هو سامي (أحمد النجار) الذي عاش لسنوات يدرس في الخارج، ويبدأ المسلسل بانفصاله عن زوجته الطبيبة النفسية عالية (أمل محمد) التي تعتقد أنه تخلى عنها بعد إصابتها بمرض خطير.
وبمرور الوقت يتبين أن عيب شخصية سامي هو عدم القدرة على التعبير عن نفسه، والهرب من مواجهة المشاكل. مع ذلك فسامي هو الأكثر تفتحاً وطيبة قلب بين إخوته.
ضحك وجد وحب
من ناحية، يرصد “باب السين” الطبائع البشرية وكيف تحدد شكل العائلة، ولكن من ناحية ثانية يحرص على صياغة أحداثه ومواقفه في إطار كوميدي خفيف (ليس دائماً)، ويعتمد في ذلك على إمكانيات عبد العزيز النصار وقدراته على التعبير بملامح وجهه وجسده وأداءه للكلمات، وكذلك المخضرم علي السلمي الذي يلعب دور جار العائلة المتقاعد دائم التدخل في شؤون غيره، والذي يدفعه الفراغ إلى الدخول في مغامرات غير محسوبة، مثل قراره المفاجئ بكتابة الشعر أو ممارسة الرياضة، ومن أطرف مواقف العمل تلك المشاهد التي تجمع النصار بالسلمي فبينهما كيمياء من نوع خاص تعتمد على التجاذب والتنافر بين شخصيتيهما، وقد تجلت من قبل في “منت رايق” العام الماضي.
بجانب النصار والسلمي هناك أيضا شيماء سليمان القادرة أيضا على الأداء الكوميدي حين يتطلب الموقف، وفي قلب المواقف والأحداث المتشابكة تظل علاقة سلمى بالشاب الوسيم عزام (سعود بو شهري، الذي كان أيضا ضمن فريق عمل “منت رايق”) “مؤثر” influencer مواقع التواصل المحبوب، حيث تنجذب في البداية إلى مقاطعه المصورة التي يلقي من خلالها بعض نصائح التنمية البشرية، ولاحقاً تتطور علاقتهما وصولاً إلى الزواج والإقامة في بيت العائلة، ولكن طبيعة سلمى الغيورة والعصبية تتصادم مع طبيعة عزام المهذب، ولكن النرجسي والمعزول في عالمه الافتراضي، ما يؤدي إلى مشاحنات وشد وجذ منذ اليوم الأول لزواجهما.
عادة ما تنتهي الميلودراما بالزواج السعيد، ولكن في أعمال نهلة الفهد، فإن الزواج ليس سوى حلقة أخرى من حلقات الشد والجذب بين الجنسين، وكما حدث في “منت رايق” باستمرار الصدامات بين البطلين بعد زواجهما، يتكرر هنا الشيء نفسه، إذ يتصاعد صدام الطبائع بعد زواج سلمى وعزام.
البحث عن الشريك المناسب
رغم النظرة التي تبدو متشائمة في “باب السين” لكن طبيعة نوعه الكوميدي تفرض أن تؤول العلاقات في النهاية إلى الحلول السعيدة، وعثور كل شخص على “توأمة” الروحي.
وبعد محاولات عديدة لإقناع سعود بالبحث عن زوجة ثانية رغم ارتباطه الشديد بابنته، التي لا تستوعب ارتباط أبيها بامرأة ثانية، يحاول سعود البحث عن زوجة، ولكن الحظ يوقعه في فتاة مادية تعشق المظاهر لا تتناسب مع طبيعته وطبيعة أسرته، قبل أن يفكر في الارتباط بابنة جاره ريم (نجلاء العبد الله)، التي يسعى أبوها أيضاً إلى تزويجها ما يوقعها في رجل رجعي يشترط عليها ترك عملها، فتنفصل عنه.
بشكل عام يدافع المسلسل عن حق المرأة في العمل والاستقلال المادي والزواج عن حب، ويحاول التوفيق بين متطلبات الفردية والعائلة من ناحية، وبين الحفاظ على الذاتية والارتباط العاطفي من ناحية ثانية، ويحيط بقصص العائلة شخصيات وقصص أخرى تصب في الاتجاه نفسه.
ربما لا يوجد الكثير من الدراما “الكبيرة”، وعالم الشخصيات مرفه، ويخلو من الأحداث التعيسة، إذا استثنينا مرض زوجة الأخ عالية أو بحث سندس المضني عن عمل يناسبها، ما يجعله عملا “بورجوازي” الهموم يتوجه لجمهور من نساء الطبقة العليا والوسطى.
وبشكل ما ينتمي “باب السين” إلى دراما العائلات التي لا تنتهي، فليس هناك موضوعا بعينه أو حبكة محددة، ولكنه أشبه بيوميات عائلة يمكن أن تستمر لمئات الحلقات كما نجد في “أوبرا الصابون” التركية والمكسيكية (وأميركا الثمانينيات).
ولعل أبرز ما في العمل هو قدرة صانعاته النساء على تقديم صورة حية وحساسة لهذا النوع من العائلات، يساعدهم في ذلك ممثلون يمتعون بالكفاءة، وتجمعهم كيمياء محببة وشخصيات مرسومة بعناية يصدقها المشاهد.
ولكن يعيبه فراغ بعض الحلقات من وجود أحداث أو مواقف مشوقة أو قوية، ودورانه أحياناً في مواقف مكررة، ولعل عيبه الأكبر هو الموسيقى التصويرية الثقيلة والتي لا تتوقف تقريباً، وكثيراً ما تكون في غير محلها، إذ تضفي مزاجاً حزيناً على مواقف كوميدية أو عادية، أو تقف عازلاً مقحماً بين أداء الممثلين والمتفرج.
* ناقد فني