“بالدم”.. دراما الصدمة والرهبة والمفاجآت

لطالما كانت فكرة تبديل الأطفال عند الولادة، أو في مهدهم من الموضوعات الشائعة في الأدب القصصي منذ القرن الثامن عشر، حيث شكّلت عنصراً أساسياً في الميلودراما، تلك التي تعتمد على حبكات غير متوقعة ومواقف تبدو بعيدة عن الواقع.
استخدمت هذه الحبكة في العديد من الأعمال الأدبية والدرامية، مثل الأوبرا الكوميدية لـ”جيلبرت وسوليفان”، ورواية مارك توين “مأساة بودنهيد ويلسون”، كما تبنتها الدراما التلفزيونية والسينمائية في مسلسلات مثل All My Children وOne Life to Live، والفيلم الهندي “Ala Vaikunthapurramuloo”، والمسلسل التركي “قطع مكسورة”، ما يجعلها موضوعاً متكرراً في السرديات الدرامية المختلفة.
اتهامات بسرقة الفكرة
رغم أن هذه الفكرة ليست جديدة، إلا أن مسلسل “بالدم” اللبناني أثار جدلاً واسعاً، بعد اتهام كاتبته نادين جابر بسرقة حبكته من قصة حقيقية لامرأة لبنانية تُدعى “جريتا الزغبي”، التي اكتشفت أن العائلة التي ربتها ليست عائلتها البيولوجية، مما دفعها للبحث عن والديها الحقيقيين.
الغريب أن هذه الحبكة تكررت في المسلسل المصري “بدون سابق إنذار”، حيث يكون مرض الطفل المصاب بسرطان الدم هو السبب في اكتشاف التبديل، وهي نفس النقطة المحورية في بالدم. ويتشابه هذا الطرح أيضًا مع المسلسل الأميركي Switched at Birth (1991)، الذي يستند إلى القصة الحقيقية لـ”كيمبرلي مايس” و”أرلين تويج”، حيث كشفت الفحوصات الطبية أن الطفلتين قد تم تبديلهما بعد الولادة.
تدور أحداث بالدم حول المحامية “غالية سعد” (ماجي بوغصن)، التي تكتشف أثناء علاج ابنتها المصابة بالتلاسيميا أن والديها ليسا والديها البيولوجيين، مما يدفعها إلى رحلة بحث مضنية عن أصولها الحقيقية، وسط صراعات نفسية وعائلية حادة.
حبكة مألوفة
يأتي “بالدم” تحت إدارة المخرج فيليب أسمر، وبطولة نخبة من نجوم الدراما اللبنانية، مثل بديع أبو شقرا، باسم مغنية، ماريلين نعمان، جيسي عبدو، ووسام فارس، ورغم أن حبكته مألوفة، إلا أن التنفيذ الفني والمتابعة النفسية العميقة للشخصيات تضيف له طابعاً خاصاً.
يُسلط المسلسل الضوء على التوتر العاطفي والاجتماعي الذي يحيط بالمحامية “غالية سعد”، وهي تحاول التكيف مع الحقيقة الصادمة، ممزوجًا بالخوف، والشك، والفخر، في إطار درامي مشحون يخلق حالة من الترقب المستمر.
تميز سيناريو نادين جابر ببساطته في رسم الشخصيات، وهو ما أتاح للممثلين تقديم أداء متقن يبرز تعقيدات أدوارهم النفسية. كانت الشخصيات قريبة من الواقع بشكل مذهل، مما جعل المشاهد يشعر وكأنه يعيش داخل القصة، في دوامة من المشاعر المتضاربة.
على سبيل المثال، تجسد “غالية سعد” شخصية رئيسية قوية، لكنها ليست بمنأى عن الضعف والتردد. وفي المقابل، يُبرز “طارق” (بديع أبو شقرا) قدرته على التكيف مع التحديات، خاصة بعد خيانته لزوجته خلال انفصالهما، مقدّماً أداءً يحمل الكثير من الألم والصراع الداخلي.
أما “وليد” (باسم مغنية)، فهو شخصية تفتقر إلى الوعي الذاتي، مما يجعله عنيداً ومندفعاً، لكنه رغم ذلك مقنع في اعتقاده بصحة قراراته. ومن ناحية أخرى، ترسم علاقة “جانيت” (جوليا قصار) و”روميو” (رفيق علي أحمد) مفهوماً أوسع للخيانة، يتجاوز البعد الجسدي والعاطفي، ليصل إلى انتهاك الثقة، حيث يُبرز المسلسل أن الشك قد يكون القاتل الأول للحب.
الفروق الدقيقة والظلال
نجح فيليب أسمر في خلق توتر درامي متزايد، من خلال التركيز على التفاعلات بين الشخصيات وإبراز التباينات الدقيقة في مواقفهم، كما هو الحال في علاقة “تمارا” و”وليد”، التي أُعطيت عمقاً درامياً يعكس واقعية العلاقات العاطفية المركبة.
كما تبرز شخصية “الدكتورة آسيا” كعامل غموض رئيسي، حيث تحمل أسراراً غير مكشوفة تضيف عنصر التشويق إلى الحبكة، مما يجعل ظهورها نذيرًا بحدوث تطورات غير متوقعة.
استخدم المسلسل تقنية الـ”فلاش باك” بمهارة، حيث لم يُقدم الماضي كذكرى جامدة، بل كحالة حاضرة من دون قيود زمنية، مما أضفى أبعاداً جديدة على القصة. لم يُستخدم الفلاش باك فقط لتوضيح الأحداث، بل لخلق حالة من الإثارة والتشويق، حيث تم الكشف عن الحقائق تدريجياً، مما حافظ على عنصر المفاجأة حتى النهاية.
من خلال استغلال عنصر المفاجأة والتدرج في تقديم المعلومات، يضمن فيليب أسمر إبقاء المشاهد في حالة ترقب دائم، حيث يُكشف عن الحقيقة قطعةً قطعة، بدلاً من تقديمها دفعة واحدة.
يتعمد فيليب أسمر، توظيف عنصرا المفاجأة والاكتشاف لخلق دراما تشد الجمهور، بحيث يُلاقي الكشف عن الحقيقة في النهاية ردّ الفعل الإيجابي الذي ينتظره من الجمهور، إنه يكشف عن جزء من الحقيقة بدلاً من رؤيتها كاملة.
“بالدم” ليس مجرد مسلسل عن تبديل الأطفال عند الولادة، بل هو دراما نفسية واجتماعية تتناول تعقيدات العلاقات الإنسانية وتأثير الصدمات العاطفية.
ورغم أن حبكته قد تبدو مألوفة، إلا أن أداء الممثلين، والإخراج المتقن، والطبقات العاطفية المتشابكة تجعله تجربة درامية مشوقة ومؤثرة.
* ناقدة فنية