بريطانيا تتحرك لجسر الفجوة بين ضفتي الأطلسي بشأن أوكرانيا

يسعى رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر منذ البداية المتوترة للولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترمب والتي أنهت العلاقة التقليدية للتحالف عبر الأطلسي، إلى جسر الفجوة بين الولايات المتحدة وأوروبا، وسط محاولات ستارمر لتشكيل “رادع عسكري أوروبي” لحماية أوكرانيا، قوي بما يكفي لإقناع ترمب بتوفير الدعم الجوي والاستخباراتي لقوة حفظ سلام أوروبية في أوكرانيا، وفق ما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”.
وعقب الاجتماع العاصف بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وترمب في البيت الأبيض في 28 فبراير الماضي، قدم ستارمر ومساعدوه النصح إلى زيلينسكي عبر مكالمات هاتفية ولقاءات وجهاً لوجه بشأن كيفية إصلاح العلاقت مع ترمب.
وضغط رئيس الوزراء البريطاني على الرئيس الأميركي لتقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا لمنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من شن هجوم جديد عى أوكرانيا، في أعقاب وقف إطلاق النار في أوكرانيا، والذي تقود واشنطن جهوداً دبلوماسية من أجل إقراره بعد أكثر من 3 سنوات من الحرب مع روسيا.
من بلير إلى ستارمر
واعتبرت صحيفة “نيويورك تايمز”، أن المساعي الدبلوماسية الرفيعة المستوى لستارمر، تعيد إحياء الدور الذي لعبته بريطانيا بشكل رويتني قبل الخروج من الاتحاد الأوروبي، وشبهت الصحيفة الدور الذي يلعبه ستارمر، بدور رئيس الوزراء البريطاني العمالي السابق توني بلير (1997 – 2007)، والذي توسط بين الرئيس الجمهوري جورج دابليو بوش (2001 – 2009)، والقادة الأوروبيين في الفترة المتوترة التي سبقت غزو العراق في 2003.
وأشارت الصحيفة إلى أن دور توني بلير في التقريب بين الولايات المتحدة وأوروبا لم ينته بشكل جيد، إذ رفضت فرنسا وألمانيا الانضمام إلى التحالف الذي شكله بوش لغزو العراق، كما أن التزام بريطانيا بالسير مع الولايات المتحدة جنباً إلى جنب، أضر بعلاقاتها مع جيرانها الأوروبيين.
ولفتت إلى أن ستارمر الذي يسعى إلى تشكيل تحالف جديد لحماية أوكرانيا، يواجه تحدياً معقداً يتمثل في تحقيق توازن دقيق، ففيما يحاول البقاء قريباً من الولايات المتحدة، “يسعى في الوقت ذاته إلى حشد قوة ردع عسكرية أوروبية تكون كافية لإقناع ترمب بتوفير الدعم الجوي والاستخباراتي لقوات حفظ السلام في أوكرانيا بعد انتهاء الحرب”.
ويعتزم ستارمر، السبت، عقد قمة افتراضية بمشاركة ما يصل إلى 25 زعيماً أوروبياً ومن حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وكندا، وأوكرانيا، وأستراليا ونيوزيلندا، لحشد التأييد لهذا التحالف الذي تتولى بريطانيا وفرنسا رعايته بشكل مشترك.
ومن المتوقع أن يعلن خلال القمة عن مزيد من الدول التي ستشارك عبر إرسال قوات أو تقديم دعم لوجستي للتحالف، الذي يهدف إلى أن يكون “درعاً ضد روسيا بعد التوصل إلى تسوية سلام مع أوكرانيا”.
وبعد الاجتماع الذي سيعقد افتراضياً عبر الفيديو، من المرجح أن يواصل ستارمر حملته الدبلوماسية مع ترمب لضمان التزامات أمنية أميركية، وهي مهمة يشاركه فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
نجاح غير مضمون
وقالت “نيويورك تايمز” إن نجاح هذه الجهود غير مضمون نظراً لمواقف ترمب المتقلبة، والتي تعكسها مواقفه المتناقضة تجاه أوكرانيا، والتي تراوحت بين توجيه انتقادات لاذعة لها وتهديده بفرض عقوبات على روسيا في حال عدم امتثالها للمفاوضات.
وفي الوقت ذاته، أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حذراً شديداً تجاه عرض الولايات المتحدة بهدنة مدتها 30 يوماً، لكنه رفض تماماً فكرة قوة حفظ السلام الأوروبية.
ويرى الدبلوماسي البريطاني بيتر ريكيتس والذي عمل كمستشار للأمن القومي لرئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون، إن “ستارمر يغامر”، ولكنه قال: “أعتقد أن ستارمر يرى خطراً أكبر لكارثة يمكن تجنبها”.
وأشارت “نيويورك تايمز”، إلى أن بلير فشل في لعب دور الوسيط بسبب الخلافات الحادة بين الدول الأوروبية بشأن العراق، أما التحدي الذي يواجهه ستارمر، فيكمن في التعامل مع رئيس أميركي غير متوقع التصرفات، يسعى إلى إعادة ضبط العلاقات مع روسيا، كما أنه يبدي عداءً واضحاً تجاه الاتحاد الأوروبي.
وقال ريكيتس: “ستارمر سيبذل قصارى جهده لتجنب الاختيار بين أوروبا والولايات المتحدة. لكن التعامل مع ترمب يجعله عرضة لمفاجآت وتقلبات مفاجئة. ولكن حتى الآن نمكن ستارمر من الحفاظ على توازنه على الحبل المشدود”.
ويحظى ستارمر بدعم مستشاره للأمن القومي المخضرم والمُحترم دولياً، جوناثان باول، الذي سافر إلى كييف للمساعدة في تمهيد الطريق لتقريب وجهات النظر بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مع البيت الأبيض.
كما زار واشنطن هذا الأسبوع، لإجراء محادثات مع مستشار ترمب للأمن القومي مايك والتز، في إطار المساعي المستمرة لتنسيق المواقف بشأن أوكرانيا.
وعمل باول مديراً لمكتب بلير في السابق، وكان كبير مفاوضي بريطانيا في اتفاق الجمعة العظيمة، والذي أنهى عقوداً من العنف في إيرلندا الشمالية، كما كان أيضاً يد بلير في المحاولات الفاشلة لضم فرنسا وألمانيا إلى الحملة العسكرية لغزو العراق.
قدم في أوروبا وأخرى خارجها
وحتى قبل اندلاع الأزمة في بين واشنطن وكييف، كانت حكومة ستارمر تسعى لعقد روابط أوثق مع القارة، ليس فقط في المجال الدفاعي ولكن الأمني والتجاري والاقتصادي.
وأشارت “نيويورك تايمز”، إلى أنه بفضل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يبدو أن ترمب يضع بريطانيا في موقع مختلف عن الاتحاد الأوروبي، وهو ربما ما ساهم في جعل ستارمر وسيط “أكثر نجاحاً”.
وألمح ترمب على سبيل المثال، إلى أنه لن يستهدف بريطانيا بالجمارك الواسعة التي فرضها، رغم أنه لم يعفها من الجمارك المفروضة على الوارادات العالمية للصلب والألومنيوم.
وقال مجتبى رحمان المحلل السياسي في مجموعة “أوراسيا”، إن كون بريطانيا “لديها قدم في أوروبا وقدم خارجها، هو شيء جيد للملكة المتحدة في السياق الحالي، ولكن ذلك سيظل الحال فقط إذا بقينا الحالة الحالية من الحرب الزائفة”.
وتابع: “إذا تحول الأمر إلى صدع كامل عبر الأطلسي، فحينها سيكون من الأفضل الاحتماء بالقوة التي يوفرها الاتحاد الأوروبي على الأقل في بعض المناطق، وفي سياق كهذا، فإن المملكة المتحدة، ستدير الأمور بشكل أفضل إذا كانت قدميها الاثنين في أوروبا”.
غطاء سياسي للتقارب مع أوروبا
ومنذ توليه السلطة في يوليو من العام الماضي، بدأ ستارمر في إصلاح العلاقات مع العواصم الأوروبية المختلفة، ولكنه استبعد أمرين يمكنهما تعزيز التجارة مع التكتل، وهما العودة للانضمام إلى السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي.
ويرى محللون أن توجهه الحذر، ينبع من الخوف من إثارة غضب المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومنح السياسي المناهض للاتحاد والهجرة نايجل فاراج، ذخيرة سياسية لجذب الناخبين، وسط صعود حزبه اليمين “الإصلاح” في استطلاعات الرأي بالفعل.
ولكن الصحيفة أشارت إلى أن الصدمة التي أحدثها ترمب بشأن أوكرانيا، أزالت الكثير من العقبات في طريق إعادة ضبط العلاقات مع أوروبا، ومنحت ستارمر الغطاء السياسي، حتى مع اليمين في بريطانيا، والذي أقر بالحاجة إلى تنسيق دفاعي أوثق مع أوروبا.
وقال السفير البريطاني السابق في فرنسا، بيتر ريكيتس، إن تصرفات ترمب “تغير السياق بأكمله، وتضع كل شيء في نصابه”.
اندماج أعمق مع أوروبا
وقال إيفان روجرز، السفير البريطاني السابق لدى الاتحاد الأوروبي، إن الجهود الدبلوماسية المكثفة التي يبذلها كير ستارمر “أثارت إعجاب القادة الأوروبيين، الذين اعتادوا على بريطانيا إما غائبة عن المشهد أو تتبنى موقفاً عدائياً مبهماً”.
وأضاف روجرز: “كل ذلك ذكر الناس بأن البريطانيين عادوا للانخراط في الشؤون الأوروبية، وربما أصبحوا أكثر جدية. تواجه أوروبا الآن أزمة وجودية، مما جعل الأجواء تتغير إلى حد ما”.
وقالت “نيويورك تايمز”، إن هذا التغيير قد يفتح المجال أمام إعادة اندماج أعمق لبريطانيا مع أوروبا، لا سيما إذا قررت الدول الأوروبية تعزيز التعاون في الإنفاق العسكري من خلال مبادرة جديدة خارج الهياكل القائمة للاتحاد الأوروبي.
ولفتت إلى أنه من شأن هذه المبادرة أن تشمل دولاً مثل بريطانيا، بحيث تتفق على معايير موحدة في قضايا مثل الدعم العسكري وشراء الأسلحة.
وأوضح روجرز، أن هذه الخطوة قد تؤدي فعلياً إلى “إنشاء سوق دفاعية موحدة، وهو أمر لم يحدث من قبل”.
ورغم هذه الفرص الواعدة، أعرب روجرز، الذي عمل في رئاسة الوزراء البريطانية خلال حرب العراق، عن مخاوفه من أن محاولات بريطانيا للعب دور الجسر العابر للأطلسي قد تتعطل بسبب سعيها للاستفادة من وضعها بعد بريكست لتجنب التعريفات الجمركية التي يفرضها ترمب.
وقال: “مخاوفي هي أن يبدو الأمر للآخرين وكأن المملكة المتحدة تحاول تحقيق مكاسب مزدوجة: فهي تريد أن تكون جسراً في التحالف العابر للأطلسي، وأن تحتل موقعاً محورياً فيه، وفي الوقت ذاته تدّعي أنها مختلفة جداً عن الاتحاد الأوروبي، مما قد يدفع الولايات المتحدة إلى استثنائها من الرسوم الجمركية”.
واختتم حديثه قائلاً: “من الصعب بعض الشيء الترويج لهذين الموقفين في آنٍ واحد”.