منذ أن أصدر وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور “وعد بلفور” الشهير عام 1917، بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، شهدت القضية الفلسطينية سلسلة من الأحداث التاريخية المفصلية، كان لبريطانيا فيها دور محوري، تراوح بين الرعاية المباشرة للمشروع الصهيوني والمواقف المتذبذبة تجاه حقوق الفلسطينيين وتطلعاتهم الوطنية.

وأعلنت الحكومة البريطانية، الثلاثاء، نيتها الاعتراف بدولة فلسطين ودعمها لحل الدولتين في سبتمبر المقبل، ما لم تنه إسرائيل حربها على غزة، وسط ترحيب عربي ورفض أميركي وإسرائيلي.

ويرصد التقرير التالي أبرز المواقف البريطانية المؤثرة في مسار القضية الفلسطينية منذ عام 1917 وحتى الآن، إذ اعتبر سياسيون بريطانيون في حديثهم لـ”الشرق” أن إعلان لندن عزمها الاعتراف بدولة فلسطينية، خطوة متأخرة وقراراً “مراوغاً” يتيح لإسرائيل الالتفاف عليه، فيما رأى آخرون أن توجّه الحكومة البريطانية مهماً وتحظى بزخم لما لها من ثقل إقليمي ودولي.

نوفمبر 1917.. وعد بلفور 

في نوفمبر 1917، أصدر رئيس الوزراء البريطاني آرثر بلفور الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الخارجية “وعد بلفور” والذي أعلن فيه دعم بريطانيا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، مع التأكيد على عدم الإضرار بحقوق السكان الفلسطينيين الأصليين، وكان هذا الوعد نتيجة تفاهمات سابقة مثل اتفاقية سايكس بيكو (1916).

وفي هذا السياق، قال عضو حزب العمال البريطاني مارك داسورث، إن بريطانيا هي من تسببت في “الظلم الهائل” بسبب وعد بلفور الذي “سلّم” فلسطين لليهود الأوروبيين عام 1948، ما أدّى إلى تهجير نحو 750 ألف فلسطيني خلال النكبة. 

ويتوافق مع هذا الاعتراف، حديث وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، في مؤتمر حل الدولتين بالأمم المتحدة في نيويورك عندما قال إن “إعلان بلفور تضمّن وعداً جلياً بأن لا يتم القيام بأي شيء من شأنه المساس بالحقوق المدنية والدينية” للشعب الفلسطيني كذلك إلا أن هذا الوعد لم يتم الوفاء به، وهو يشكل ظلماً تاريخياً لا يزال يتكشف أمام أعيننا”.

فيما رأى عضو حزب المحافظين البريطاني، باباك أماميان أن تردد بريطانيا التاريخي تجاه الاعتراف بفلسطين، يرتبط بماضيها الاستعماري في الشرق الأوسط، لافتاً إلى أن تصاعد تأثير الجاليات المسلمة في أوروبا جعل قضايا المنطقة جزءاً من السياسات الداخلية البريطانية.

نص وعد بلفور

وزارة الخارجية، 2 نوفمبر 1917

عزيزي اللورد روتشيلد،

يسرني أن أنقل إليكم، نيابة عن حكومة صاحب الجلالة، الإعلان التالي الذي يعبر عن تعاطفنا مع تطلعات الصهيونية اليهودية، وقد تم تقديمه إلى الحكومة ونال موافقتها:

“تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف، على أن يُفهم جلياً أنه لن يُتخذ أي إجراء من شأنه أن يَمس الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين، أو الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر.”

أكون ممتناً لو تفضلتم بإبلاغ هذا الإعلان إلى الاتحاد الصهيوني.

المخلص
آرثر جيمس بلفور

ولم يبتعد الخبير البريطاني في الشؤون الجيوستراتيجية والعلاقات الدولية، ويليام وارد، برأيه عن سابقيه، قائلاً إنه على الرغم من أن وعد بلفور دعا إلى التزام بريطانيا بعدم المساس بحقوق الفلسطينيين إلّا أنه منذ الانتداب البريطاني عام 1920 لم يُحترم هذا الوعد، ولا يزال “يمثل ظلماً تاريخياً ينتقص من الحقوق المدنية للفلسطينيين”.

واعتبر أن الموجة الأخيرة من التعاطف الشعبي البريطاني ستدفع الحكومة إلى إعادة النظر في استراتيجيتها طويلة المدى تجاه القضية الفلسطينية، مستشهداً بفترة الانتداب البريطاني.

وأوضح أن اعتزام لندن الاعتراف بدولة فلسطينية لا يُعد تحولاً جذرياً، بل خطوة متأخرة في مسار طال انتظاره، مشيراً إلى أن حكومة كير ستارمر تواجه ضغوطاً داخلية متصاعدة من الرأي العام البريطاني، بمن فيهم قطاعات من اليهود البريطانيين، بسبب سلوك حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في غزة.

بداية الاستعمار البريطاني لفلسطين 

بدأ الاستعمار البريطاني لفلسطين بمعركة غزة في نوفمبر 1917 ومعركة القدس في 9 ديسمبر من العام ذاته، ضد العثمانيين في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتوالت بعدها معارك مثل معركة مرج بن عامر واحتلال الناصرة والجليل الأعلى حتى سبتمبر 1918، ثم السيطرة على عكا وصفد، وفق حديث المؤرخ الفلسطيني مصطفى كبها لـ”الشرق”.

وفي عام 1917، عرضت الحكومة البريطانية إعلان بلفور على فرنسا وإيطاليا، وقد وافقتا عليه رسمياً في 1918، ثم تبعهما الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عام 1919 وكذلك اليابان، ووفقاً لمركز المعلومات الوطني الفلسطيني.

ونادت اللجنة العربية التنفيذية برئاسة موسى كاظم الحسيني بثلاثة مطالب هي: (إقامة الدولة الفلسطينية، إلغاء الانتداب البريطاني، وقف الهجرة اليهودية”، وفقاً لـ”كبها”.

تطبيق الانتداب البريطاني على فلسطين

في 25 أبريل 1920، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر سان ريمو على تسليم الانتداب البريطاني على فلسطين، وتطبيق وعد بلفور. وفي 24 يوليو 1922، أقرّت عصبة الأمم مشروع الانتداب الذي دخل حيّز التنفيذ في 29 سبتمبر 1923، وفق المركز الوطني الفلسطيني.

فيما يقول المؤرخ الفلسطيني مصطفى كبها، إن الجيش البريطاني بدأ تطبيق الانتداب على الأرض فعلياً عام 1920، معززاً ذلك في يوليو 1922 وقبل إقرار عصبة الأمم الرسمي في سبتمبر 1923.

صدامات العرب واليهود 1921

في مارس 1921، عيّنت بريطانيا المندوب السامي صامويل هربرت، وهو يهودي عمل على تعزيز تواجد اليهود في فلسطين وإقرار وعد بلفور ضمن دستور الانتداب، ويشير المؤرخ كبها إلى أن بريطانيا كانت تعتمد في مناصبها الحساسة على خريجي أكسفورد وعلى الضباط العسكريين.

وأدّت سياسات الانتداب إلى صدامات عنيفة في القدس ويافا، أودت بحياة 95 شخصاً (48 عربياً و47 يهودياً)، وإصابة 219 آخرين (73 عربياً و146 يهودياً).

ولحل الأزمة، وافقت بريطانيا على تعيين أمين الحسيني مفتياً للقدس، بعد انتخابه من الفلسطينيين.

ثورة البراق.. أول قمع بريطاني لثورة فلسطينية

في أغسطس 1929، اندلعت ثورة شعبية فلسطينية في القدس امتدت إلى الخليل وصفد، نتيجة التوتر المتصاعد حول حائط البراق مع اليهود.

وأوضح المؤرخ مصطفى كبها أن الثورة استمرت حتى أكتوبر 1929، بسبب محاولات اليهود فرض السيطرة الدينية، والدعم البريطاني غير المتوازن لهم، وتصاعد الهجرة والتوسع الاستيطاني، مما ولّد شعوراً بـ”الخذلان” لدى الفلسطينيين من بريطانيا.

وبعد عام من الثورة، اعتقلت السلطات البريطانية 20 شخصاً 17 عربياً و3 يهود)، وأفرج المندوب السامي صامويل هربرت في يونيو 1930 عن 17 منهم، بينما أُعدم 3 مناضلين فلسطينيين في سجن عكا (فؤاد حجازي، عطا الزير، ومحمد جمجموم)، ليصبحوا رموزاً وطنية بارزة في التاريخ الفلسطيني.

1930.. ظهور الحركات المسلحة بقيادة عز الدين القسام

ويقول كبها، إنه بعد إعدام المناضلين الثلاثة، ظهرت حركات سرية مسلحة لمقاومة الاحتلال البريطاني، كان من أبرزها الكفاح المسلح الفلسطيني بقيادة عز الدين القسام، وبعد ملاحقة الإنجليز للقسّام وقتله في معركة أحراش يعبد في جنين، انطلقت الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936ضد الانتداب البريطاني والتوسع الاستيطاني لليهود.

1937.. لجنة بيل تقترح تقسيم فلسطين

بعد انطلاق الثورة العربية الكبرى، شكلت بريطانيا عام 1936 لجنة تقصي حقائق، سُميت بـ”لجنة بيل” للتحقيق في أسباب انطلاق الثورة، وفي أول يوليو عام 1937، اقترحت تقسيم فلسطين للمرة الأولى وإعطاء العرب 75% من فلسطين التاريخية و25% من الأرض لليهود، ورفض العرب الفكرة، واستمرت الثورة حتى نهاية 1939، وفق “كبها”.

1948.. النكبة وانسحاب بريطانيا وقيام إسرائيل

في عام 1947 صوتت الأمم المتحدة رسمياً على خطة تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية مع تدويل القدس، وامتنعت بريطانيا وقتها عن التصويت، وفي 14 مايو  1948 انسحبت بريطانيا من فلسطين، وبعد يوم واحد جرى إعلان قيام إسرائيل.

وجاء دور بريطانيا في حرب 1948، تتويجاً لسياسات بدأت منذ وعد بلفور، حيث استغلت العصابات الصهيونية ما سهلته لهم بريطانيا خاصة تفكيك البنية السياسية والعسكرية للفلسطينيين، وامتناعها عن ضمان تطبيق القرارات الدولية، وكذلك انسحاب قواتها دون اتخاذ خطوات لضمان حقوق الفلسطينيين أو منع تفجر الصراع.

واعترفت بريطانيا بإسرائيل بـ”حكم الأمر الواقع” (De Facto) عام 1948، وبعد تردد عامين اعترفت بإسرائيل رسمياً عام 1950 بـ”حكم القانون” (De Jure)، وفق موسوعة “بريتانيكا” البريطانية.

خفوت الدور البريطاني

ومنذ خمسينيات القرن الماضي، لم تبذل بريطانيا جهوداً فاعلة لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين أو مساءلة إسرائيل عن خروقات قرارات الأمم المتحدة، وخلال هذه المرحلة، تبنّت لندن سياسة الحذر من الانخراط المباشر في الصراع.

وبعد ذلك دعمت بريطانيا  حل الدولتين بصفة عامة رغم دعمها لإسرائيل في حروبها ضد العرب في 1956و1967، إلّا أنها منذ الثمانينات أصبحت تدعم أي حل سلمي للصراع.

اعتراف بريطاني بمنظمة التحرير

ورغم اعتراف الأمم المتحدة بمنظمة التحرير عام 1975، وتواصل بريطانيا رسمياً بالمنظمة عام 1980، إلّا أن لندن بعد اتفاقي مدريد (1991)، وأوسلو (1993)، قررت الاعتراف رسمياً بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، وسمحت بفتح بعثة دبلوماسية فلسطينية في العاصمة لكنها لم تعترف رسمياً بالدولة الفلسطينية.

امتناع بريطانيا عن منح فلسطين صفة مراقب 2012

وفي نوفمبر 2012، امتنعت بريطانيا عن التصويت في الأمم المتحدة لمنح فلسطين صفة “دولة مراقب غير عضو”، مشروطة بعودة فلسطين إلى المفاوضات دون شروط مسبقة.

وقال كريس دويل، مدير مجلس التفاهم العربي البريطاني في لندن، لـ”الشرق”، إن بريطانيا “أخفقت تاريخياً في إنصاف الفلسطينيين”، مشيراً إلى أنها لم تنجح في تصحيح الخطأ التاريخي الذي ارتكبته بحق القضية الفلسطينية، وأضاف أن بريطانيا، في جوهر سياساتها، تفشل باستمرار في مواجهة إسرائيل أو مساءلتها عن ممارساتها.

وعلى الرغم من أن بريطانيا أبدت تحفظاً محدوداً على الاستيطان الإسرائيلي، وسط حفاظها على علاقاتها الأمنية والتجارية مع تل أبيب، أصبح موقفها الرسمي داعم لحل الدولتين بعد اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000.

2022.. دعوى فلسطينية تطالب محاسبة تاريخية عن وعد بلفور

في مايو 2022، تقدمت منظمات حقوقية فلسطينية بدعوى قضائية ضد بريطانيا أمام محكمة بريطانية، متهمةً إياها بالتسبب في معاناة الفلسطينيين عبر وعد بلفور عام 1917.

واستندت الدعوى- وفق “كبها”-  إلى أن وعد بلفور شكل أساساً غير قانوني لتهجير شعب بأكمله، ويمثّل انتهاكاً صارخاً لحقوق الفلسطينيين خلال الانتداب البريطاني. وجاءت هذه الخطوة بعد حكم فلسطيني صدر عام 2021 ببطلان وعد بلفور، في محاولة للضغط على لندن للاعتراف بمسؤوليتها التاريخية، وتقديم اعتذار رسمي وتعويضات.

ويرى المؤرخ مصطفى كبها أن هذه الدعوى تعد تطوراً لافتاً في مساعي الفلسطينيين لمساءلة بريطانيا قانونياً وسياسياً عن أحد أبرز فصول الظلم في تاريخهم.

2025.. إعلان اعتراف مشروط بالدولة الفلسطينية  

مع استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة التي اندلعت في أكتوبر 2023، وأودت بحياة أكثر من 60 ألف فلسطيني وإصابة مئات الآلاف، تصاعد الضغط الدولي والداخلي على حكومة كير ستارمر للاعتراف بدولة فلسطين وسط الأزمة الإنسانية في غزة.

وفي 29 يوليو 2025، أعلن  مكتب رئيس الوزراء البريطاني، أن كير ستارمر أبلغ حكومته بأن بريطانيا ستعترف بدولة فلسطين في سبتمبر المقبل، قبل اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، ما لم تتخذ إسرائيل خطوات جوهرية لإنهاء الوضع المروع في غزة، وهو ما أكده وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، خلال مؤتمر دولي لحل الدولتين في نيويورك.

قرار بريطاني “مراوغ”

واعتبر كريس دويل، أن إعلان بريطانيا نيتها الاعتراف بدولة فلسطين “قراراً مراوغاً”، يتيح لإسرائيل الالتفاف على القرار بذريعة وقف إطلاق النار، مشيراً إلى أن الإجراء البريطاني جاء متردداً للغاية.

وتابع: “أعتقد أن هناك احتمالاً كبيراً لموافقة إسرائيل على وقف إطلاق نار بنهاية أغسطس، والسماح بقدر مُعين من المساعدات، ثم تُصرّح الحكومة البريطانية بعدها بأن الوقت الحالي ليس مناسباً للاعتراف لأنها لا تُريد عرقلة وقف إطلاق النار”.

بينما اعتبر مارك داوسورث أن ستارمر تجاهل جرائم الحرب في غزة، وشارك في التواطؤ الغربي في الإبادة الجماعية،  مردفاً: “قلت ذلك في وجه لامي داخل الحزب، واعتبروني معادياً للسامية”.

فيما قال عضو حزب المحافظين البريطاني، باباك أماميان،  إن إعلان حكومة كير ستارمر يعكس محاولة لترميم موقفه السياسي الضعيف، في ظل اعتماد حزبه على دعم اليسار البريطاني الذي يرى في فلسطين قضية إنسانية وسياسية مناهضة لأميركا وإسرائيل.

وأوضح أن اليسار يهيمن على نحو 70% من الإعلام والأوساط الأكاديمية، ويعتبر النضال الفلسطيني جزءاً من مواجهة الإمبريالية الأميركية، معتبراً أن الخطوة البريطانية تأتي في لحظة مفصلية قد تفتح الباب لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وشدد على أن أمن إسرائيل لا يتناقض مع حق الفلسطينيين في دولة.

تحول استراتيجي لصالح فلسطين

أما المؤرخ الفلسطيني مصطفى كبها، قال إن القرار تحول استراتيجي بريطاني مهم لفلسطين مهما كانت أسبابه، لأنه يمثل تغيراً في سياسة دولة كبرى مثل بريطانيا التي اقترفت جرائم مثيرة بحق الفلسطينيين خصوصاً، والعرب عموماً ، لافتاً إلى أنه “يعطي زخماً لصالح القضية الفلسطينية”.

واختتم حديثه بقوله: “بريطانيا لا تزال عضواً فاعلاً في مجلس الأمن وفيها من المؤسسات الصحافية والأكاديمية ذات التأثير العظيم لذلك فإن التحول مهم للغاية لصالح القضية الفلسطينية”.

شاركها.